الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فبراير وتجليات الذاكرة

محمود كرم

2006 / 2 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


في فبراير من العام ( 1991 ) كنتُ أسيراً في ( البصرة ) على إثر مداهمات عشوائية وحشية على المنازل قام بها جهاز المخابرات البعثي عندما كانت الكويت ترزح تحت الاحتلال الصدامي ..

ورغم مرور كل تلك السنوات لم أستطع إلى الآن أن أكتب عن تلك التجربة القاسية ، ولا أعرف السبب الذي يمنعني من كتابة تلك التجربة ، إلا أن أحداث تلك الفترة وصورها وذكرياتها لازالت عالقة في ذهني إلى هذه اللحظة ولكني لم أفلح في ترجمتها كتابياً ، بيد أني استطعتُ حينها في ذلك المعتقل الكبير أن أكتب مقطعاً نثرياً عن ( الأسر ) ضمن نص نثري لخصتُ فيه تجربتي تحت الاحتلال والأسر :

وبين انغماس الروح ِ
في متاهات الحلم ِ
وصحو القلبِ على دخان الجرم ِ
كان ينتظرني في البابِ
من عالم الأقدار عذابٌ مريرْ
وفي لحظةٍ كان الاعتقال
عنوان المرحلة
عندها تماوجَ في نفسي من مستقبل الأيام ِ
شريطٌ رهيبْ
وكنتُ من الشتاتِ أستجمعُ أنفاساً
مزقها الدخان الكئيبْ
وفي العينين قد تغلغل الردى
واليأس أمسى
من حافة الخافقين قريبْ
ولكنّ الله كانَ يُسند الشجرَ الأخضرَ
بقاع النفس
فيورقُ بالزهر الطالع من بين ثنايا الموتِ
وفجأةً يتوهجُ العشق
المصلوب بأوصال الدربِ
فتحسستُ روحي
كأن نوراً من سديم العشق يستقر
بوادي القلبِ

وتمثلتْ أمامي صورٌ
كنتُ فيها بين أحبابي
أحكي لهم عذاباً
من الشهور سبعاً عجافْ
والقمع يتربص بالمقلتين
والقيد يبعثرُ أحلامي
والآتي من الأوجاع مجهولْ
كنتُ أشكو يا رب السماواتِ
فراق الأهل والصحبِ
واليوم صرتُ أشكو فراق الوطنْ
يا إلهي يعذبني
هذا الحنين الموجع
ويزرعُ بأنفاسي لهيباً من شجنْ
أصرخُ من سجني بأني أنا الإنسانْ
فيكوي بالسوطِ لساني
بغيٌ وطغيانْ
هذي مسافات الدربِ
والدربُ بين التيه يغوص
بنقيع الوحل بلا عنوانْ

وينتصبُ أمامي جدارٌ من الحزن كئيبْ
فتنداحُ فيه كوّة
أرى منها وجه حبيبي
وقلبَ أمي
وذكريات الصبِا
ونشوة القمرْ
وأرى تراقص النجوم في منتصف الليل ِ
وأسمع جرْس المطرْ
قد أطربتني هذه النغماتُ
وهذا الرذاذ الطلّ ساعة السحرْ
فبتُّ أناغيها وشفني منها وجد ٌ
فأنا العاشق الثمل سكرتُ بحبي للطهر ِ
والحب كلّ ما ربي أمَرْ

لا أدري حقيقةً ما الذي جعل من رغبةٍ جامحة كانت تنتابني بين الحين والآخر بعد الانتهاء من تجربة الأسر أن أكتب الكثير عن تلك الفترة ، أن تخفُت وتضمر ..

ولم يكن دافعي للكتابة عن تلك التجربة سوى حبٍ في توثيق تجربة شخصية يقرأها أولادي في يوم من الأيام بالرغم من أني لم أكن متزوجاً حينها ، لأني من المؤمنين أن ذاكرتنا المتخمة بتفاصيل تلك المرحلة يجب أن يقرأها أولادنا من بعدنا ، فهي التي سنحكيها لهم موثقة ومؤرشفة حينما يكبرون ليس اجتراراً للماضي والوقوف عنده إنما دروساً في الحياة والتاريخ والمستقبل ، كما كان الآباء والأجداد يحكون لنا عن المصاعب التي واجهتهم في رحلات الغوص أو رحلات التجارة في أصقاع العالم أو ما كابدوه خلال مسيرة بناء الكويت الحديثة ..

ولا نخرج من تلك التجربة إلا ولدينا ما نحكيه لأولادنا عن تلك المحنة وكيف كان الكويتيون يتصرفون في مواجهة الغزو الصدامي ، وأتذكر أن صديقي وجاري ( بو أحمد ) خلال فترة الاحتلال سألني : يا محمود ما الذي سنخرج به من هذه الأزمة ؟؟

فقلت له : إن متنا فسنلحق بركب الشهداء ، وإن خرجنا منها أحياءً فسنظفر بتجربةٍ غنية نحكيها لأولادنا ..

ولم نزل نقرأ الأيام تلك ونحن نعي جيدا ً ضرورة الفصل بين ما هو ( إنساني ) وبين ما هو ( سياسي ) ، ولذلك كنا فخورين بأن الكويت ساهمت بقدر ما تستطيع في تحرير العراق من الطاغية صدام ، وكانت أيضا ً فرحتنا كبيرة لأن شعبا ً مطحونا ً لعقودٍ ثلاثة قد تحرر من أعتى نظام دكتاتوري في التاريخ الحديث ..

الصدمة في الثاني من أغسطس وما تبعته من أحداث موجعة إلى يوم التحرير جعلتنا أمام مفترق طرق ، إما أن نبقى نتجرع الحزن المميت ونحمل معنا أوجاعا ً تقعدنا عن صناعة المستقبل ، أو أن نتسلح بذاكرةٍ واعية تعتمد الشفافية في تعاطي الأحداث ونابضة بالحياة والتدفق نخلق بها مستقبلا ً يوفر العيش الكريم لنا ولأبنائنا ..

فتاريخ أي شعبٍ لا يمكن أن يتجزأ ، ولذلك نحن نقرأ تاريخا ً يسكننا بكل تفاصيله لا لكي نصنع منه حائطاًً للتباكي عليه ، بل إنما تعزيزا ً لحبٍ كبير تجاه هذا الوطن يتجذرُ في أعماقنا ..

وعن السبب الذي منعني إلى الآن من الكتابة عن تجربة ( الأسر ) أتذكرُ سؤالاً سألتني إياه إحدى الأديبات الكويتيات الرائعات عبر حوار معي في أحد المنتديات الحوارية الإلكترونية وكان سؤالها :

تجربتكَ بالأسر في سجون العراق ، ألم تفكر في توثيقها ضمن سلسلة على غرار ( حموديات ) وغيرها ؟؟

فكانت إجابتي : عن الأسر كتبتُ بعض النصوص الأدبية ، وحاولتُ أن أكتبُ شيئاً يقترب من السرد القصصي ولكن لم أوفق ، ولا أعرف السبب بالتحديد ، ربما انشغلتُ ( بالحب ) الذي عصفَ بي بعد التحرير مباشرةً وقضى على حماسي في كتابة تجربة الأسر ، وأتمنى أن تعاودني في يوم ما أعراض الكتابة لأتناول تلك التجربة وأن كنتُ أشعر الآن أني لا أملكُ لياقة كافية لخوض هذا المضمار ..

بالفعل لقد عصفَ الحب بكل كياني بعد التحرير مباشرةً وانشغلتُ به إلى درجة أني نسيتُ أصدقائي الذين كنتُ أشاركهم فترات الاحتلال ساعةً بساعة ويوماً بيوم ، وبعدها توجنا الحب بالزواج ..

في فبراير ( 1991 ) قذفتنا الأقدار لنتقاسم أنا وأخي ( علي ) الذي يصغرني بعام لقمة الصبر والصمود في مواجهة محنة الأسر حيث تمّ اعتقاله هو الآخر في نفس اللحظة معي ، وفي فبراير من العام ( 2004 ) اجتمعنا فيه ثانيةً أنا وهو ولكن في ( السويد ) للعلاج من حادث أليم تعرض له في شهر أغسطس من العام 2003 ..

في ذلك الفبراير واجهنا معاً محنة الأسر ومرَ علينا الفبراير الآخر لنواجه معاً محنة الإصابة التي ألمت به ، في كلتا المحنتين كان الله بجوارنا يُطعمنا الصبر ويسقينا الطمأنينة وفي كلتا المحنتين كنا على موعد لاحتضان الأهل والوطن ، ولن أنسى الكلام الجميل الذي قاله لي الدبلوماسي الرائع في السفارة الكويتية في ( استوكهولم ) :

يا محمود ، ستمضي الأيام بي وبكَ وبأخيكَ وسيجتاز أخوك هذه المحنة ، وستكون الأيام التي قضاها في السويد للعلاج في القادم من عمره ذكريات جميلة ..

بالفعل ما أجمل الذكريات التي صارعت المحن ..









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقعات بتسليم واشنطن قنابل نوعية للجيش الإسرائيلي قريبا


.. غالانت: لا نسعى إلى الحرب مع حزب الله لكننا مستعدون لخوضها




.. حشود في مسيرة شعبية بصنعاء للمطالبة بدعم المقاومة الفلسطينية


.. فايز الدويري: الاحتلال فشل استخباراتيا على المستوى الاستراتي




.. ساري عرابي: رؤية سموتريتش هي نتاج مسار استيطاني طويل