الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
عن ثورة أكتوبر “البلشفية” بعد مرور قرن – مقاربة ثقافية
معاذ حسن
2017 / 10 / 22ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا
“خلال الشهرين الأولين من عام 1917، كانت روسيا ما تزال تحت حكم أسرة (رومانوف) الملكية. وبعد ثمانية أشهر أمسك البلاشفة زمام الأمور، مع أنهم كانوا مجهولين في مطلع العام، وكان قادتهم في لحظة صعودهم إلى السلطة متهمين بالخيانة العظمى. ويتعذر علينا أن نجد في أمثلة التاريخ حدثًا يشبه هذا التحول المفاجئ. وخاصة إذا تذكرنا أن الأمر يتعلق بأمة تضم 150 مليونًا من البشر. ومن الواضح أن أحداث عام 1917 مهمة تستحق الدراسة، مهما كانت وجهة النظر التي تحكم المرء عند تقييمها”.
آثرت أن أفتتح هذه المقالة بهذه السطور التي كانت بدورها مفتتح (تروتسكي) لمقدمته المعنونة “ثورة شباط/ فبراير”، في كتابه المهم والمعروف (تاريخ الثورة الروسية).
لكني في الوقت ذاته لست هنا بصدد مقاربة تاريخية في سياق تتبع أحداث الثورة البلشفية الروسية التي بدأت فصولها المثيرة والحاسمة في 23 شباط/ فبراير 1917 معطوفة على مقدماتها الأساسية والبعيدة، في ثورة 22 كانون الثاني/ يناير عام 1905. التي كان عمادها الكبير ومحركها هياج واضطرابات قام بها طيف واسع ومتعدد من فئات وطبقات شعبية تزعمتها مجموعات سياسية ليبرالية وأخرى اشتراكية ثورية أرادتا إصلاحات تفاوتت، بين الاعتدال والجذرية لنظام قيصري قروسطي قديم تغول كثيرًا في استبداده وظلمه؛ فقد كتب عن هذه الثورة، في كل مراحلها تلك، العديد من الكتب لمؤرخين مرموقين ومفكرين كبار، ولعل من أبرزهم ابن هذه الثورة المشارك فيها منذ بداياتها الأولى (ليون تروتسكي)، في كتابه المذكور هنا. لكن ما استوقفني في تلك السطور أمران:
أولهما هو السؤال المضمر فيها، حول الظهور المفاجئ بقوة للبلاشفة بعد فترة تراجع وضمور لدرجة استطاعوا حسم مآل الثورة نهائيًا تحت سيطرتهم ووفق برنامجهم الاشتراكي. ثانيهما أن أحداث تلك الثورة، مثلها متل الثورة الفرنسية وكل ثورة مهمة في التاريخ البشري، كانت وما تزال مجالًا مفتوحًا للبحث والدراسة، من خلال مقاربات متعددة ومختلفة في زوايا النظر، خصوصًا أنه تمر خلال هذا الشهر الذكرى المئوية الأولى لانتصارها الذي نتج عنه نظام سياسي اجتماعي جديد في التاريخ استمر، بكل ما له وما عليه، قرابة سبعين عامًا في القرن العشرين، استطاع خلالها إنجاز تحولات نوعية داخلية كبيرة ومهمة باتجاه الحداثة والتصنيع والعدالة الاجتماعية، كما فرض نفسه خلالها على رأس مجموعة دولية كبيرة في أوروبا، ساندت شعوبًا عديدة في حروبها التحريرية ضد الاستعمار والظلم الاجتماعي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ولعل التأمل النقدي والتاريخي فيها، بما في ذلك المآل النهائي لتجربة نظام الحكم الذي نشأ عنها منذ تسعينيات القرن العشرين، يفيد بعض الشيء مجتمعاتنا العربية اليوم التي تعيش أصعب مخاضاتها المجتمعية في العصر الحديث، بعدما أطلقت أغلب شعوبها ثوراتها بوجه أنظمة التسلط والاستبداد الحاكمة، منذ بدايات عام 2011.
ففي لحظتنا التاريخية المعاصرة اليوم. أزعم أنه ما يزال لثورة أكتوبر الروسية 1917 أهميتها وما يزال فهم ظروفها ومقدماتها واللحظة التاريخية التي أنتجتها يعني لنا الكثير، كمجتمعات عربية تعيش ثورتين في لحظة تاريخية واحدة: ثورة حرية وكرامة لشعوبها، وثورة مضادة لقوى رجعية ودينية متطرفة فيها.
في العلاقة بين الثورة الفرنسية وثورة أكتوبر الروسية:
في البدء لا بدّ من العودة قليلًا إلى تاريخ الثورة الفرنسية 1789 التي فتحت أفقًا جديدًا في التاريخ البشري بقيادة البرجوازية الفرنسية والأوروبية عمومًا، لكنها مع ذلك أنتجت دكتاتورية بونابرتية فظيعة، عانت منها شعوب كثيرة. ورغم أنها أعدمت الملك على المقصلة، فقد استطاعت الملكية العودة لفترات طويلة نسبيًا، وسيطرت على فرنسا بحكم ظروف الثورة فترة إرهاب دموي عنيف جعلت المؤرخين يطلقون على الثورة الفرنسية تعبير “الثورة التي أكلت أبناءها”. لكنها عبر ذلك كله أحدثت زلازل سياسية وثورات جماهيرية في كافة أنحاء أوروبا لم تنته إلا مع ثورة 1848 الفرنسية أوروبية. ومع التقدم الصناعي الجديد الذي أجهض أسلوب الثورات الجماهيرية السابقة، ومهد لنشوء طبقة ثورية جديدة لعبت دورًا أساسيًا في بنية مجتمعات أوروبا الغربية من الداخل، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، هي الطبقة العاملة.
لكن ما علاقة ذلك كله بظروف روسيا القيصرية، روسيا القنانة والظلم الإقطاعي الفظيع.. روسيا البلد الزراعي المتخلف الذي يسيطر على جماعات قومية عديدة في امتداد قاري شاسع، ولم يشهد تطورًا صناعيًا جديًا رافقه نمو شريحة برجوازية لها برنامج طموح على النمط الأوروبي الغربي.
لكي نفهم علاقة هذا البلد بكل ما كان يحدث في أوروبا في ذلك الوقت، تلك العلاقة التي مهدت لظروف جديدة في روسيا القيصرية على أبواب القرن العشرين، يعيدنا الكثير من الدارسين والمؤرخين والباحثين إلى دراسة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، من خلال أبرز أعلامه: بوشكين وغوغول ودوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وتورغينيف.
سأستعرض في هذا المجال تلخيصًا سريعًا لرأي المؤرخ والباحث البريطاني إريك هوبسباوم في كتابه المهم (عصر رأسمال المال). الذي يدرس فيه المرحلة التي أعقبت ثورة 1848 في فرنسا وأوروبا عامة حتى أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر. فيرى أن أهم حركة ثورية في تلك المرحلة كانت تمثله الشعبوية الروسية (جدة أسرة مهمة من الحركات في البلدان المختلفة في القرن العشرين، وجدة البلشفية الروسية). خصوصًا أنها وصلت بصورة قريبة بين ثوروية يسميها الباحث (ربيع الشعوب بين عامي 1789-1848) في أوروبا بثوروية القرن العشرين في أكتوبر عام 1917. عدا أنها دخلت الأدب العالمي عبر إبداع معاصريها كتورغينيف ودستويفسكي (فهي بالأساس حركة مؤلفة من مثقفين بصورة حصرية في بلاد، حيث كل حياة فكرية فيها كانت سياسية. فالحياة والأدب متجاوران جدًا، وابدأ في روسيا). كل كذلك في ظل نظام أتوقراطي واضح يشكل تناقضًا صارخًا مع حركة التاريخ، حاول إجراء إصلاحات مترددة وعاجزة بعد فشل عسكري في حرب القرم، وما نتج عنها من محاولة تحرير الأقنان الروس الذين خلق عندهم مزاجًا ثوريًا، ترافق مع ضعف واضح لوزن ودور برجوازية روسية، لم تستطع قيادة النضال الشعبي والمواجهة مع النظام القيصري كما فعلت سابقتها الفرنسية بوجه النظام الملكي الاقطاعي، مع بداية تشكل بروليتاريا صناعية جديدة. وبذلك تكونت الشعبوية الروسية بتناغم وائتلاف، بين فئة المثقفين الروس ذات الصلات الواسعة بأفكار الثورة الفرنسية وأحداث كومونة باريس، والتي كانت بعكس مثيلتها الأوروبية، متميزة كفئة اجتماعية، وبتوجهها الراديكالي السياسي الاجتماعي. وبين الفلاحين الروس كطاقة ثورية أساسية وحيدة في روسيا القيصرية آنذاك.
كل هذه المقدمات والظروف أعطت للشعبوية الروسية أهمية تاريخية كبيرة، تجسدت بتواصل ثوري مستمر جعلها مختبرًا لأفكار القرن التاسع عشر الثورية خصوصًا أفكار كارل ماركس التي لاقت انتشارًا واسعًا في أوساط المثقفين الروس عبر ترجمة واسعة لكتبه. فكان يتم التفاعل مع هذه الأفكار عبر تطويرها وفق ظروف روسيا آنذاك، وتقديمها للقرن العشرين في لحظة تاريخية جديدة، وهذا ما تم فعلًا مع ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 التي كانت على رأس قيادتها مفكرون بارزون أمثال لينين، تروتسكي، بليخانوف، بوخارين… إلخ.
فاللحظة التاريخية التي أنتجت الثورة الفرنسية تتداخل في الكثير من جوانبها مع اللحظة التاريخية التالية التي مهدت لثورة أكتوبر مع فارق نوعي أضافه التطور التاريخي عبر حركة الزمن الحلزونية، وهو أن البرجوازية الفرنسية والأوروبية عمومًا، بدءًا من تحقيق ظفرها السياسي عام 1848 بدأت بتحقيق ظفرها الاقتصادي مع الثورة الصناعية، والنمو الرأسمالي الجديد الناتج عن تراكم رأسمال، وما يعني ذلك من توسع اقتصادي مستمر لها على أساس العلاقات الرأسمالية التي مكنتها في أوروبا الغربية، وانطلقت منها للعالم بغزو عسكري واقتصادي للهيمنة على الأسواق ومناطق المواد الأولية. فهي لم ولن تسمح لأي برجوازية أخرى ناشئة في أي منطقة من العالم أن تنهض بمجتمعها إلا بإشرافها، وتحت هيمنتها وبدورٍ يخدم مصالحها كبرجوازية أم أولًا. لذلك بدا في اللحظة التاريخية التالية التي هيأت لثورة أكتوبر الروسية أن البرجوازية الروسية لا يمكن أن تقوم بدور ثوري حقيقي وجذري للنهاية، بل كانت ضعيفة. وهذا ما أدركه لينين ورفاقه الآخرين؛ فأعلنوا القطيعة مع البرجوازية الروسية التي لم تتابع الإمكانية الثورية الحقيقية في الواقع الروسي المتحرك والعاصف آنذاك. وهذا ما أضاف أهمية وجانبًا جديدًا تميزت فيه ثورة أكتوبر الروسية عن الثورة الفرنسية -على الرغم من صلات القربى القوية بينهما- كونها اشتراكية الطابع والأهداف.
حول المآل النهائي لثورة أكتوبر:
أما ما حدث لهذه الثورة لاحقًا في نظامها السوفيتي الجديد على مدى سبعين عامًا، حتى بداية التسعينيات من القرن العشرين، فيحتاج إلى بحث مختلف وعنوان آخر كثرت فيه التحليلات والأبحاث النظرية في ذلك لدرجة كبيرة. ويمكن إجمال الملاحظات القاسية والصحيحة على النظام السوفيتي السابق، ولا سيما منذ بداية الحقبة الستالينية بما يلي:
1 – حول إدارة الاقتصاد والدولة والمجتمع بأسلوب استبدادي شمولي بعيد كل البعد عن التداول الديمقراطي السليم للإدارة والحكم، الذي استعاض عنه بما أسماه “ديكتاتورية البروليتاريا” كما تجلت في ديكتاتورية النخبة السياسية الحاكمة التي ادعت تمثيل طبقة البروليتاريا غير المكتملة التطور موضوعيًا، بالأساس، في الواقع الروسي آنذاك.
2 – تهميش دور الفئات والطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة الأخرى، خصوصًا طبقة الفلاحين الأكثر معاناة في ظل نظام “القنانة” الإقطاعي للعهد القيصري، رغم مشاركتها الفعالة في الثورة في كل مراحلها، ورسم دور تبعي لها وراء الطبقة العاملة، يمكن تلخيصه بالإلحاق القسري لملايين الفلاحين في جمعيات تعاونية زراعية، أحدثها النظام الجديد في سياق تحديث البنية الزراعية “كولخوزات – سوفخوزات” وما استتبع ذلك من عسف نفسي وتمردات أدت إلى قمع ظالم.
3 – ربما يمكن تفسير ذلك بأنه في أحد أسبابه المهمة، من نتائج القطع النهائي مع تقاليد تجربة ديمقراطية ليبرالية سابقة للثورة كانت قد بدأت مع ثورة يناير 1905. بحيث بدا النظام الجديد من حيث الشكل السلطوي، كأنه مجرد تحديث لآليات النظام القيصري السابق.
وبذلك يكون النظام السوفيتي، كأول تجربة سلطة سياسية في التاريخ بتوجه اشتراكي جاد، توجتها انتفاضات وثورات شعبية حقيقية بين 1905 – 1917. استمرت سبعة عقود من الزمن في بلد كبير متخلف اقتصاديًا وسياسيًا ومجتمعيًا. راكم على مدى عقود عديدة، بدلًا من الخبرات المتجددة سياسيًا على الأقل والتي تساعده على تجاوز أخطائه القاتلة، عددًا من الأسباب الداخلية الكبيرة والخطيرة التي أدت إلى انهياره لاحقًا.
لكن مع ذلك، فإن ثورة أكتوبر كانت قد حققت من خلال النظام السوفيتي الكثير من الإنجازات للمجتمع الروسي وأغلب شعوب القوميات الأخرى التابعة له. خصوصًا أنها نقلته من مجتمع ريفي زراعي متخلف إلى مجتمع صناعي تقني متطور، في فترة زمنية قصيرة قياسًا على تقدم الغرب الأوروبي. حتى صارت الدولة السوفيتية في ظل الحرب الباردة القوة العظمى الثانية في العالم، إن لم تكن الأولى في بعض المجالات كالفضاء مثلًا.
وعلى الرغم من التفكك المجتمعي والإثني الذي أصاب الدولة الروسية الجديدة بعد سقوط النظام السوفيتي السابق؛ فإن إنجازات تلك المرحلة السوفيتية، هي ما يعطي للدولة الروسية الحالية وزنها الدولي عبر قوتها العسكرية، لكنه في الوقت نفسه يشير، مع غياب الأيديولوجيا الجاذبة وغياب الحامل الدولي الكبير لها، إلى ضعفها الاقتصادي الذي لم تحقق فيه أي تطور ملحوظ بعد ربع قرن من انهيار تلك التجربة، لا سيما أنها تجمع بين أوتوقراطية النظام القيصري الأسبق المتماهي مع الكنيسة من جهة، وأسلوب النظام الأمني للنظام السوفيتي الشمولي السابق من جهة أخرى.
روسيا -اليوم- لا تمت بأي صلة قربى إلى الاتحاد السوفيتي السابق سوى أن رئيسها الحالي خريج أسوأ مؤسسة كانت موجودة فيه، وهي المؤسسة الأمنية. فهل يعي الكثير من الشيوعيين العرب اليوم، ولا سيّما السوريين، ذلك؟.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس يقول إن إسرائيل ألحقت الهزيمة بح
.. وزير الدفاع الإسرائيلي يؤكد هزيمة حزب الله.. ماذا يعني ذلك؟
.. مدير مكتب الإعلام الحكومي في غزة: أكثر من 300 ألف إنسان يعيش
.. أسامة حمدان: جرائم القتل ضد شعبنا ستبقى وصمة عار في وجه الدا
.. حرب وفقر وبطالة.. اللبنانيون يواجهون شقاء النزوح ونقص الدواء