الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضمأ

جمانة القروي

2017 / 10 / 23
الادب والفن


أقبل موسم الاعاصير والامطار والسيول مبكرا، انقلب الجدول الرقراق الصافي الذي تخترق اعماقه العين وتبصر الوان غوره ، الى مارد هائج فاض بمياهه الطينية صافعاً ضفافه الخضراء بوحوله جارفاً بعنف ما يعترض طريقه دون رحمة.
تسلل شعاع الغروب الاحمر من خلف القمم بتيجانها البيضاء الى ذلك الوادي الضيق. لم يبقَ سواهم، عددهم لا يتجاوز اصابع اليدين، طوقوا بنصف دائرة وامطروا بالرصاص الذي لايعرفون كيف نجوا منه، غادروا المكان تاركين كل شئ، إلا ما استطاعوا حمله من الخبز وماء للشرب، قد يكفيهم يومين على اكثر تقدير! ساروا باتجاه ذلك الجدول الذي كان قبل بضعة ايام ينساب باناة وهو يخترق الوادي،حيث تدفقت مياهه فتحول الى نهر ثائر يضرب الصخور بقوته ويدحرجها الى اعماقه، لم يجدوا مكانا قريباً للعبور، واظبوا البحث حتى عثروا على زاوية تحدب عندها النهر وضاق واصبح القفز عليه نوعا ما سهلاً. عبروه متسلقين السفوح المواجهة والتي يجهلون مسالكها تحت ازيز الرصاص . تفرقوا الى مجاميع صغيرة انتشر بعضهم في شعاب الجبل ومواقع المقاومة واخرون احتموا بكهوفه، جامعهم الوحيد القلق والخوف اللذان تلاطما في نفوسهم مما تخبئ لهم الساعات القادمة.
في ذلك البيت المنقور في الصخور الذي لايتسع مدخله الا لقامة منحية واحدة، لكن تلك الفجوة الجبلية بأركانها المظلمة وزواياها المنخفضة الممتلئة بالتعرجات وسقفها الزاخر بنسيج العنكبوت تتسع ما ان تطأ الاقدام عتبتها . تلقف كل منهم مكانه بعيداً ومنزوياً عن الاخر. اتكأت على حافة الزمن الذي تشابك واختلط وتشابه. النضيض كاد يقتلها، مضى يثقب راسها، لم تستطع الحيلولة دون ان تضمح عيناها بالدمع، بعد ان غادرت وابتعدت بفكرها عن ذلك الجحر الرطب. اصطخبت في صدرها مشاعر مختلطة فوق احتمالها وفاضت روحها بذكريات انزوت من زمن بعيد في قبو ذاكرتها.
حاصرتها الانفاس الفزعة وقشعريرة الذعر والبرد معاً، وحدها مات احساسها بالمنية، ولم تعد تهابها، آلفت اذناها صدى طلقات الرصاص ودوي تهشيم الصخور، اضحى كل شئ سيان عندها، وحده النواح البعيد كدم روحها .
غيرت الشمس مكانها مرات عديدة، خلال ذلك عانقت اشعتها قطرات الماء فتلألأت ككرات من فضة. حينما مالت للأفول تسلقوا القطوع وسلكوا دروباً وعرة غير مطروقة . مجموعة لايعرفون سبيل الخلاص لكنهم سائرون على غير هدى.
ارتمت عند اول صخرة واحتمت بها من شمس نيسان التي صبت اوارها على رؤوسهم غير مبالية بعطشهم،منت نفسها بقطرة ماء تبلل شفتيها اللتين تيبستا.. اطاحت بهم الريح من مكان لاخر، تثاقل الوقت اصبحت الخطوات مرهقة، شح الماء ونضب، ليس سوى صوت تلاطم السيل واضطرابه يطرق سمعها من بعيد، تهطل كتفاها الى الاسفل جحظت عيناها ولم تعد تعي ما حولها كما لو انها في كابوس ستصحى منه.
زحف الموت نحوها حاول التهامها وسحقها ببطء،استسلمت له، مدت اليه يدها،عله ياخذها بعيدا الى اماكن قد تكون اقل قسوة مما تعيشه، لكنه ركلها مستهزئً بها ووقف بعيدا تخزرها عيناه تهكماً. لمحته مرات عديدة يتجول بينهم ومازال يسخر ويستخف بهم، تسربت رائحته من حولها وشرعت تخنق انفاسها،حمم من جنون عصفت بها،اكتظ ذهنها بسيل من الاسئلة جعلت تمور في داخلها، هل ستصبح مجرد رقم يضاف الى ارقام اخرى؟ هل سيطوقها حزام النسيان كغيرها؟ كظمت غيظها الذي تشجرفي غياهب ذاتها، استحال جسدها لمجرد كتلةً من عدم . متاهة من طرق وعرة ضآلوا بها، لا احد منهم يعرف الى اين تؤدي بهم، الى نبع ماء عذب ربما او الى كمين للعدو سينتصر عليهم بكبسة على الزناد.
هاهي ظلمة جديدة تغطيهم بوشاحها الاسود. تعثروا، تدحرجوا، نهضوا، قاوموا، اوشكوا على الانهيار،ساعات طويلة ما بين صحو وغيبوبة ، لم تعد ارجلهم ملكاً لهم . فجأة تسرب اليهم من بعيد رذاذ نور فتبعوه، تناهت اليهم اصوات قصية، عرفوها فحثوا الخطى، ألتأم شملهم جميعا مرة اخرى في قمة ذلك الجبل الاجرد الخالٍ حتى من النباتات البرية، لم يكن سوى بقع متفرقة هنا وهناك من بقايا ثلج الشتاء اختبأت من الشمس .
اخفض الليل جناحه البارد وخفق على تلك الاجساد التي تكورت كما لو انها اجنة في بطون امهاتهم، يترقبون الغد الذي قد يحمل بين ثناياه بصيص الامل بانقاذهم . طال الانتظار غربت الشمس وشرقت لايام عدة ،محاصرون في تلك العلياء، نفذ الخبز انعدم حتى الفتات نهش الجوع بطونهم الخاوية،مضغوا بعض الاعشاب التي نمت، جمعوا فتات الثلج في علب صدئة وتركوها تذوب لتنقلب الى ماء آسن يبللون به شفاهم التي ازرقت وتشققت. مكثوا يشربون تلك الاوحال التي هي الاخرى انتهت. بات النزول الى الجدول لجلب الماء انتحارا، لقد كمن الاعداء عنده، تلاشت ذرات الامل بالنجاة، وامست مجرد كلمة ليس لها معنى.
تفحصهم الموت مرات عديدة مارا عليهم بعينيه الحمراوتين، وبنظراته المفزعة وهو يبتسم لهم بتودد شديد، فقد شرع صبره ينفذ وهو ينتظر قبض ارواحهم والرحيل بهم الى عالمه، الا انهم طردوه من بينهم متشبثين بالحياة لحظة انسلال الروح .
اختلط الوهم بالحقيقة، تمدد الغد الذي لم يعد قادرا إلا على ان يدنيهم من اللحد. اثقل الهم صدورهم تلبستهم حالة من الحيرة والذهول فاقمت خيبتهم واحباطهم، جاهدوا لكبح انفسهم من اتخاذ القرار الاصعب .
حينما اعتصر الدجى الشمس وطواها في الافق البعيد، أبت انفسهم ان يموتوا عطشاً وتضحى اجسادهم المنهكة طعاما للكواسر . انحدروا هابطين، الطريق طويل ينعق الرعب والهلع فيه، خشخشة الحصى تحت اقدامهم تضاعف خوفهم مما يترصد بهم، قامات تمرغت في وجعها، يغور الالم فيها ويتدفق حمماً صامتة، يخبئون حسرتهم في جوفهم، ساعات قليلة فاصلة ما بين الهلاك والخلاص. علا واشتد صوت هدير الجدول، اسرعوا راكضين اليه، وصلوه واهنيين مرهقين، غابت الخطوات وانطمرت الافواه تعب من ذلك الماء دون ان تبالي بشئ سوى الارتواء منه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟