الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم بقرية بالجنوب الشرقي ( المغرب )

علي أحماد

2017 / 10 / 23
الادب والفن


دخلت القرية وهي تجر بقرة . لم تكن تنوي المقام الدائم بهذه القرية المندسة تحت الجبل الشامخ والذي يحرسها كإله ، ولم تخترها طواعية . تنوي التقرب إلى الله بذبح البقرة ومن لحمها تولم لأهل القرية من البسطاء، بعدما تعذر عليها أداء فريضة الحج وقد استعدت للسفر ماديا ومعنويا ، لكن مرض أمها المفاجئ حرمها من تحقيق حلمها . نصح لها فقيه أن ( تؤجل الحج وترعى أمها السقيمة فهي لن ترتاح بالديار المقدسة وهي بعيدة عنها ) .امتثلت لفتوى الفقيه وهونت عليها المصاب / القدر ، فرعاية أحد الوالدين من وجوه البر بهما وعلى ذلك يؤجر البار . ذبحت البقرة، ولم يختلط عليها الأمر/ البقر. والصدقة / الوليمة للفقراء والأهل والأقربون حج على باب البيت ، فالسبيل إلى الحج متشعب وله أوجه لمن لم يستطع إليه سبيلا . من يوم ذبح القربان علقت في شباك القرية. تعلقت بالمكان وانسابت الأيام والسنين من العمر عقدين من الزمان في غفلة منها . كابدت الأهوال كأرملة عاقر ، وعانت من جفاء وخشونة طبع الأهالي . نذرت نفسها لخير وصالح القرية. ساهمت في بناء دار الضيافة بالقرية وإصلاحها إلى أن أصبحت مفخرة القرية . فرش نظيفة ، غرف واسعة ومضيئة ونوافذ تطل على أشجار الجوز الباسقة والحقول اليانعة . دار تجاور مسجد القرية . أوقعنا طرقا على الباب . فتح فأطلت منه إمرأة ناداها مرافقي بالحاجة وهي رغم سنها الكبير لازالت تقف في إستقامة ودون إنحناء . إمرأة تحبك القول حبكة من راكم تجارب في الحياة . تتحدث بأنفة وعزة نفس . هيأت لنا مكانا نرتاح به ، وأحضرت في الحال صينية شاي بالنعناع وخبزا محلي الصنع وزيتا وعسلا أبيض صافيا سائغا . رحبت بنا بما يليق بالضيف من تكريم واحتفت بمرافقي وأظهرت له عاطفة جياشة وأسبغت عليه أجمل عبارات التقدير والثناء حتى ظننتها مريدة أمام شيخ طريقة صوفية ، وقد قابل هو كل ذلك الثناء والإطراء بصمت قاتل يوحي للحاضر أنه أهل له أو أنه يتمنى في قرارة النفس وخوالجها أن تكف عن هذه السيرة . ولكن الحاجة وهي توجه إلي الكلام تصر على أن مرافقي سليل عائلة من الشرفاء عكس ما تدعيه بعض العائلات من نسب إكتسبته ونالته من تواجدها بهذه البقعة المباركة والتي تعتمر أزقتها ودروبها الطينية الضيقة بأريج حب كتاب الله وحفظه .
بعد الأكل رافقتنا الحاجة إلى المقبرة . مرافقي يرتدي بذلة رمادية لامعة وهو ما يسترعي إنتباه من نلقاهم ويثير فضولهم . كلما مررنا بزقاق ضيق ومترب بالكاد يتسع للمارة وبعض الدواب والتي يسمع وقع حوافرها يرتطم بالأرض الصخرية منذرا بقدومها من بعيد ودافعا للمارة بترك فسحة لتمر دون أذى ، تجمع حولنا الأطفال إناثا وذكورا ومن جميع الأعمار يؤثثون بنزقهم أرجاء القرية . ما أثار إنتباهي هو تشابه الأطفال بقرى مغرب الهامش بالجنوب الشرقي من حيث الألعاب واللباس واللكنة الأمازيغية والتي لم تخالطها العربية إلا لماما مع إرتياد المسيد . كان تواجدنا بأزقة القرية الممتدة طويلا وفي مثل هذا الوقت من الضحى مبعث فضول السكان . يلقي علينا بعضهم التحية خجولة تتحرك لها الشفاه فقط دون أن تمتد الأيادي للسلام أو تلتقي الأجساد للعناق. بعض النسوة تسترق النظر من خلف أبواب إهترأ خشبها وصدئت دسرها تفضحهن الوشوشة أو من نوافذ عالية ، ومنهن من تهرول مختبئة تغيب في ثنايا أزقة متفرعة صاعدة إلى الأعلى . الغرباء دائما محط أنظار أهل القرى ، ولكن مرافقي يؤكد أنه أمضى جزءا من طفولته بهذه الربوع والدليل أن أباه أوصى بدفنه بهذه الأرض . يستعين مرافقي بالحاجة للتعرف على قبر المرحوم ، وهي تجزم أنها تعرف القبر كما تعرف ركن صلاتها بدار الضيافة . قفلت راجعة بعدما تركتنا واقفين أما قبر الفقيد ندعو له بالرحمة والمغفرة وهذا ما له من حق على الإبن الصالح بعدما إنقطع عمله . غادرنا القرافة واتخذنا طريقا آخر يمر من حقول الجوز الظليلة إلى أن إنتهينا إلى كتاب يسهر عليه شاب يافع يعلم الأطفال أبجديات القراءة والكتابة والشكر له موصول على هذا العمل الجبار وإن كان يتقاضى على ذلك أجرا . كان لجميع الأطفال نصيب من قطع الحلوى والتي أدخلت على قلوبهم البهجة. بلغنا دكانا في آخر الزقاق المترب فأعد لنا البقال متكأ وأحضر الشاي والخبز والزبدة والعسل. إضطر مرافقي أن يشتري أكياس حلوى أخرى بعد نفاذ ما كان معه ، فقد كان الأطفال ينتشرون في أرجاء القرية ويخبرون أقرانهم بما حصلوا عليه . شكرنا البقال على كرمه واعتذرنا له على عدم قبول دعوته للغذاء . سرنا بين الأزقة محاطين بالأطفال من كل حدب وصوب لعلهم ينعمون بقطع زائدة من الحلوى وهم يلزمون مسافة من الوقار والحشمة ولم يصدر منهم لفظ مشين أو حركة عنف . طرقنا باب منزل وخرجت منه إمرأة رحبت بمرافقي ودعتنا للدخول ولكنه إعتذر ووضع أمامها ما تحتاجه لتعد لأهل القرية من المعوزين والأطفال وليمة / صدقة ( دجاج ولحم وخضر وفاكهة ودقيق وسميد ...) ونفحها مبلغا من المال لتنظر في أمر من يساعدها للقيام بالمهمة . عدنا إلى المضيفة عند الحاجة . إمرأة نذرت نفسها كالقديسات والراهبات لخدمة كتاب الله . فارعة الطول شديدة بياض الوجه ، نحيلة الجسم تتحرك بخفة كالفراشة . تؤمن بالرسالة الملقاة على عاتقها رغم الإكراهات المادية ونظرة المجتمع وسعي بعضهم لثنيها عما نذرت نفسها له . تدافع عن مشروعها بلسان بليغ وسط من يرون العمل التطوعي ضربا من الجنون والخبل .كانت فرصة مواتية لنطلع عن كثب عن تجربة إنسانية رائدة تستحق التنويه بقرية مهمشة تعبق برائحة إكليل الجبل . قرية غادرها الكثير من السكان بعدما تعذر عليهم العيش بهذا المكان ليستقروا بمدن قريبة كالريش وميدلت والراشدية وامتهنوا التجارة والخياطة بالقيسارية ، ولكنهم ظلوا ملتصقين روحيا بجذورهم يعودون إليها في الأعياد والمناسبات الدينية لعيادة الأهل والأقارب ....
ـــــــــــــــ
تعمدت عدم ذكر إسم القرية بطلب من مرافقي ومن عرفها فلا لوم علي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??