الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغزل احتجاجا؛ قراءة في غزل الجواهري المكشوف

سليمان جبران

2017 / 10 / 24
الادب والفن



حيث يكون الإنسان يكون الحبّ، فيكون شعر الحبّ – شعر الغزل. لا عجب إذن أن نجد الغزل رافدًا هامّا من روافد الشعر لدى الشعوب كلّها، وفي كلّ زمان ومكان. وفي تاريخ الأدب العربي كان الغزل "بابًا" هامّا من أبواب الشعر العربي منذ امرئ القيس الجاهلي حتّى أيّامنا هذه. ما دامت العاطفة المتبادلة بين الرجل والمرأة قائمة فلا بدّ أن تجد تعبيرها في كلّ الظروف، وفي شتّى الأشكال، بما فيها الشعر، وإن اختلفت المواقف والمفاهيم، وتنوّعت تبعا لذلك الأساليب من عصر إلى عصر. هكذا تتشابه قصيدة الغزل القديمة وأختها المعاصرة في التعبير عن عاطفة واحدة في جوهرها، إلّا أنّهما تختلفان لغةً وصياغة، وفيما تحملان من قِيم العصر ومفاهيمه وحساسيّاته المتمثّلة في هذه اللغة.
من ناحية أخرى، يخضع الحبّ في المجتمع الإنساني، بشكل أو بآخر، للتقييدات والمواضعات التي يفرضها هذا المجتمع، سواء في ذلك القوانين الصريحة أو التقاليد التي يتمسّك بها الناس، ولذا لا يستطيع الحبّ أن يمارس حرّيّته التامّة، حتّى في أكثر المجتمعات تطوّرا وليبراليّة. كذلك شعر الغزل، لا بدّ أن يخضع أيضا لهذه المواضعات؛ فما وافقها عُدّ شعرا رسميّا أو شعرا مشروعا، وما خالفها كان شعرا غير رسميّ، في الأغلب، يعيش في الهامش بعيدا عن التيّار المركزي المهيمن.
في العصور الوسطى، وخاصّة في الدولة العبّاسيّة، كان بلاط الخليفة وحاشيته العامل الأوّل والأهمّ في تصنيف الغزل، والشعر عامّة، إلى رسمي وغير رسمي. فما نال رضا البلاط، والأوساط الأدبيّة واسـتحسانهم، عدّ رسميّا ومشروعا، وما خالف مواضعات هذه البيئة الثقافيّة اعتبروه غير رسمي، "خارجا عن القانون"، فانزوى في ملفّات الشاعر والحلقات الخاصّة، بعيدا عن أعين "الرقابة" في المؤسّسات الدينيّة والاجتماعيّة المحافظة.
فالنسيب التقليدي، في بداية القصيدة، والغزل العذري، والغزل الحسّي غير الفاحش، كانت مشروعة مقبولة، ينشدها الشاعر في بلاط الخليفة غير متهيّب ولا محرج. أمّا الغزل الفاحش، والغزل بالغلاميّات، والغزل بالمذكّر، فيبدو أنّها كانت غير رسميّة، غير مشروعة؛ نشأت بعيدا عن مراكز إنتاج الشعر واستهلاكه، إلّا أنّ ذلك لم يمنعها من الانشار و"التسلّل" إلى كتب الأدب والأخبار على أنواعها.
على هذا النحو وصلتنا قصائد ماجنة كثيرة، من النوع غير الشرعي، لبشّار بن برد، والحسين بن الضحّاك، وأبي نواس، وحمّاد عجرد، وغيرهم .. وهي في معظمها قصائد ماجنة جريئة، لا تعرف قيودا، ولا تعترف بحدود، بحيث لا يمكن أن تكون حظيتْ بالاعتراف الرسمي أو المشروعيّة، حتّى في ذلك العصر الحافل بالترف والمجون.
***
في العصر الحديث، يبدو ان هذا التصنيف الى غزل مشروع وآخر غير مشروع، أصبح أكثر تشدّدًا وصرامة. قد يبدو الأمر غريبًا فعلا: كيف تكون "الرقابة" في العصر الحديث؛ عصر العلم والتطوّر والرقيّ والانفتاح، أشدّ وأصرم منها في العصور الوسطى؟
في هذا العصر، وخاصّة منذ أواخر القرن التاسع عشر، أقيمت المطابع الكثيرة في البلاد العربية جميعها، وأنشئت الصحف من يومية وأسبوعية وشهرية، بحيث غدت الكتب والصحف أهمّ الوسائل في نشر الشعر، والأدب عامّة. الكلمة المكتوبة أصبحت عظيمة الشأن والأثر، لأنها تصل الى اعداد كبيرة من المواطنين فتؤثّر بما تحمله من رأي وفكر في مواقف هؤلاء القرّاء من الحياة والفكر والسياسة، ونظم الحكم ايضا. لذلك أخذت الأنظمة والحكومات تزيد من رقابتها على المطبوعات، بل تسنّ القوانين في احيان كثيرة لمنع نشر كلّ ما يسيء الى النظام، أو إلى الأخلاق العامة. الهدف الأوّل للدولة المعاصرة طبعا هو حماية النظام، ومنع كل ما يهدّد سلامته من نقد شديد أو تحريض على الثورة. إلّا أنّ الحكومات تنصّب نفسها أيضا حامية للتقاليد والقيم والأخلاق العامّة؛ بل تخوّل نفسها أيضا تعطيل الصحف ومصادرة الكتب باسم "الحفاظ على القيم" طبعا. وفي هذا الجوّ من الرقابة الشديدة والرأي العام المحافظ غالبًا، شهد القرن العشرون انحسار الغزل الجريء أو المكشوف، حتى بالقياس لما كان في العصور الوسطى. هكذا نجد الغزل في الثلث الأوّل من القرن العشرين، وفي شعر الكلاسيكيّين الجدد خاصّة، لا يتعدّى تقليد النسيب القديم إلّا فيما ندر. فالشاعر منهم يصف الحبيبة، دونما حبّ طبعا، بأوزان القدماء وألفاظهم وتشبيهاتهم، حتى بات من الصعب في معظم الأحيان تمييز هذا الغزل المكتوب في القاهرة، مثلا، في أوائل القرن العشرين، عنه في بغداد، في العصر العباسي !
في مقدّمة الطبعة الأولى من ديوان الشوقيّات الذي صدر عام 1898، يذكر الشاعر احمد شوقي أنه بعث من فرنسا، حيث كان في بعثة تعليمية، بقصيدة يمدح فيها الخديوي توفيق. وكالعادة بدأ شوقي قصيدته بالنسيب/الغزل، فقال في مطلعها:
خدعوها بقولهم حسناءُ / والغواني يغرهنّ الثناءُ
أتراها تناست اسميَ لمّا / كثرتْ في غرامها الأسماء
إن رأتني تميل عنّي كأنْ لم / تكُ بيني وبينها أشياءُ
نظرةٌ فابتسامة فسلام / فكلام فموعد فلقاءُ
ويضيف شوقي قائلا: "وكانت المدائح الخديوية تنشر يومئذ في الجريدة الرسمية، وكان يحرّر هذه أستاذي الشيخ عبد الكريم سلمان، فرُفعت القصيدة إليه، وطُلِب منه ان يُسقط الغزل وينشر المدح، فودّ الشيخ لو أسقط المديح ونشر الغزل، ثم كانت النتيجة أنّ القصيدة برمّتها لم تُنشر".
لم يكن في تلك المقدّمة من قصيدة شوقي غزل جريء، او صريح، او مكشوف طبعا. كان فيها بعض التجديد والخروج عن خطّة القدماء في النسيب، فكان هذا كافيا ليحول دون نشر القصيدة. صحيح انّ القصيدة كانت في مدح الخديوي نفسه، والجريدة كانت جريدة رسمية، إلّا أنّ هذه الحادثة تبيّن مدى المقاومة التي لاقاها بعض التجديد في المقدّمة الغزلية للقصيدة، فكيف بالغزل الحسّي المكشوف؟
مع ذلك، لم تكن القوانين الصريحة، ولا "الرأي العام" والأوساط المحافظة، لتمنع الشعراء المعاصرين من كتابة الغزل المكشوف احيانًا. فللرصافي مثلا قصيدة عنوانها في الديوان "بداعة لا خلاعة"، مطلعها:
مثلثْ في دلالِها عريانَهْ / فأرتْني مَحاسنًا فتّانَهْ
والقصيدة من 46 بيتا، يعرض فيها الشاعر لأعضاء المرأة، والعلاقة بين الرجل والمرأة، بصراحة وجرأة نادرتين، ممّا أوقع الشارح في الحرج، وإن كان شرحه لا يتعدّى تفسير المرادفات الصعبة، وهي كثيرة. يقول شارح الديوان: "هذه القصيدة لم يضمّها الشاعر إلى ديوانه الذي طُبع في حياته، وكدتُ أتابعه لو لم أرَها مثبتة في الطبعات التجارية التي طُبعت لديوانه بعد وفاته. فقد تحتّم عليّ أن أشرحها، وإذ قد كانت من الأدب الصريح، وقد سمّى الشاعر الأعضاء بأسمائها، فشرْحها يجب أن يكون صريحًا مثلها. وهذه القصيدة نظمها في الآستانة". والقارئ قد يعجب لماذا أحجم الشاعر عن نشر قصيدته المذكورة، وتحرّج الشارح في شرحها، بينما هناك قصيدة أخرى في ديوان الشاعر نفسه، باسم "لعبة البليارد"، يمكننا ببساطة اعتبارها من الغزل بالمذكر. لعلّ السبب هو عنوان القصيدة الثانية المضلل، وقصرها و"تحفظها"، إذ لم تتعدّ التصريح بشوق الشاعر إلى الغلمان الاعبين، وهم ينْحنون ويتثنّون خلال قيامهم بهذه اللعبة.
حتى في الاربعينات يُصدر نزار قبّاني مجموعته الشعرية الأولى، "قالت لي السمراء" (1944)، فيثير ضجّة كبرى بين القرّاء والنقّاد بجرأتها وصراحته، وإن كانت جرأتها هذه لا تتعدّى عادة الشفاه والنهود إلى ما دونها من الأعضاء. وفي سنة 1950 يُصدر الشاعر العراقي حسين مردان مجموعة "قصائد عارية"، فيقدَّم الشاعر ومجموعته إلى المحكمة: "وحين أصدر ديوان "قصائد عارية"عام 1950 جمعتْه السلطات العراقيّة من الأسواق وصادرته، واعتبرتْه مخالفا للآداب وخطرا على الأخلاق العامّة وأحالت الشاعر إلى المحكمة". لكن قبل محاكمة حسين مردان بأكثر من عشرين سنة، نشر الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري بضع قصائد غزليّة، يمكننا اعتبارها من الغزل المكشوف، أو الأدب غير الرسمي، وحول هذه القصائد ودلالتها السياسية والاجتماعية، تدور مقالتنا هذه، في الأساس.
يعرف القرّاء الشاعر محمّد مهدي الجواهري (1900 – 1997) من خلال قصائده السياسيّة الكثيرة التي نشرها خلال ما يزيد عن نصف قرن. وهي قصائد سياسيّة محرّضة ومميّزة، بحيث يمكن اعتباره الشاعر السياسيّ الأوّل بين الكلاسيكيّين الجدد على الأقلّ. إلّا أنّ قليلين يعرفون أن الجواهري نفسه كتب في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، من القرن العشرين، قصائد غزليّة جريئة، لا تقلّ في جرأتها عن قصائده السياسيّة ذاتها. لعلّه العنف الجواهريّ ذاته، يتجلّى حينا في غزل صريح عنيف، وحينا آخر في شعر سياسي دموي!
الجواهري، من هذه الناحية، يشبه نزار قبّاني إلى حدّ بعيد. فالقبّاني، كما أسلفنا، كان جريئا عنيفا في غزله الذي أخذ يكتيه متلاحقا في الفترة الأولى من نتاجه، ولم يكنْ أقلّ جرأة وعنفا في شعره السياسي والاجتماعي الساخط الذي بدأ ينشره منذ أواسط الستيّنات حتّى أواخر أيّامه! فهل هو عنف واحد، وثورة واحدة، تعصف بالمواضعات الاجتماعيّة والمفاهيم المحافظة حينا، ثمّ تنصرف إلى المفاهيم والمؤسّسات السياسيّة فتعصف بها بالعنف ذاته والثورة ذاتها ؟!
بدأ الجواهري نشر قصائده في الصحف العراقيّة منذ أوائل العشرينات، وبدايته كانت بداية تقليديّة تمامًا، سواء في شعره الوطني أو الغزلي أو غيره. بل هناك عدّة قصائد، من سنوات العشرين، هي معارضة صريحة لشعراء مشهورين من القدماء والمعاصرين. فمجموعة "حلبة الأدب" التي صدرت عام 1923 هي " مجموعة شعريّة في عشر قصائد من نظمه عارض بها شعراء عصره وغير عصره من البارزين، مثل أحمد شوقي وإيليا أبو ماضي وعلي الشرقي ومحمّد رضا الشبيبي وابن التعاويذي ولسان الدين بن الخطيب". كان غزل الجواهري إذن، حتّى أواخر العشرينات، غزلا تقليديّا باردا، اقتفى فيه أثر القدماء في أوزانهم وألفاظهم وكناياتهم. يقول مثلا في قصيدة بعنوان عاطفات الحبّ، كتبها سنة 1924:
لستَ تدري بالذي قاسيتُه / كيف تدري طعمَ ما لم تذقِ
لم تدعْ منّيَ إلّا رمقًا / وفداءٌ لكَ حتّى رمقي
أنا ما عشتُ على دينِ الهوى / فهواكمْ بيعةٌ في عنقي
إلّا أنّ الشاعر في أواخر العشرينات، وبالتحديد في 6/6/1927، يبدأ فترة جديدة من حياته، كان لها أثر كبير في حياته وشعره معا، رغم قصرها نسبيّا. ففي هذا التاريخ دخل الجواهري بلاط الملك فيصل الأوّل، بعد خلافات حادّة جرت بين الشاعر ومدير المعارف آنذاك، ساطع الحصري، انتهت باستقالة الشاعر من التعليم ودخوله القصر في بغداد موظّفا في دائرة التشريفات الملكيّة. ابتداء من هذا التاريخ أصبح الجواهري شاعرا موظّفا في القصر، فغدا جلّ شعره تبعا لذلك في مدح الملك بأسلوب المديح التقليدي، إلى حانب بعض القصائد "الإصلاحيّة" الأخرى. وفي هذه الفترة بالذات، كتب الجواهري أجرأ وأهمّ قصائده في الغزل المكشوف أيضا ! يقول عبد الكريم الدجيلي: "بعد الضجّة التي رافقت الجواهري في وزارة المعارف وتعيينه في البلاط، اتجه شعره إلى لونين واضحين [ ...] مدحه للملك ومن في جهاز الحكم، وانغماسه في اللذاذات والمتع".
خلال فترة البلاط هذه، التي امتدّت حتّى 1930، كتب الشاعر قصائده الجريئة "جرّبيني" سنة 1929، "النزغة أو ليلة من ليالي الشراب" (1929)، "سلمى على المسرح" (1930)، وقصائد أخرى قليلة تعتبر استمرارا لهذا الاتّجاه وإن كانت كُتبت بعد عهد البلااط مباشرة، مثل "سلمى أيضا أو وردة بين أشواك" (1923)، "عريانة" (1932)، "أفروديت" (1932، 1940)، "بديعة" (1932)، "ليلة معها" (1934)، وأخيرا "الذكرى أو دمعة تثيرها الكمنجة" (1934).
يتحدّث الشاعر عن قصيدته "جرّبيني"، فيقول: "كانت صدمة للمجتمع حينئذٍ، بعنوانها ومحتواها وأدائها وصراحتها من حيث الجنس. وهذا شيء كان وما يزال في العراق بعد خمسين سنة شيئا محرّما أو شبه محرّم [ ...] فلمّا ظهرتْ في جريدة العراق قامت ضجّة كبرى [...] وانهالت الاحتجاجات من الناس، ومن العلماء، حتّى من الصحافة نفسها". نشر الجواهري هذه القصيدة باسم مستعار، "ابن سهل"، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من معرفة صاحبها الحقيقي، فغضب البلاط على الشاعر، وخصوصا الملك علي المحافظ، ما اضطرّ الشاعر إلى الاعتذار عن نشرها، لأنّه، كما يذكر الدجيلي "موظّف في بلاط إسلامي لا يجوز أن يجهر بمثل هذه الخلجات الخارجة على مألوف المجتمع العراقي المسلم المحافظ".
والسؤال هو: ما الذي دفع الشاعر إلى نشر مثل هذا الغزل المكشوف، وهو يعمل موظّفا في البلاط الملكي بالذات ؟
يمكننا القول أوّلا إنّ الشاعر عاش حياته الأولى في النجف في مجتمع ديني محافظ، وإذ قدم إلى العاصمة بغداد، بكلّ ما فيها من ألوان الحياة الجديدة، انغمس في ملذّاتها ومجونها حتّى عنقه: "حتّى السابعة والعشرين من عمري لم يكنْ للمرأة ولا لشهوة من الشهوات معها وجود في قصائدي. بعد ذلك أخذت المرأة تقتحم أشعاري [ ...] إنّني عشت في بيئة تسيطر عليها الأعراف والتقاليد، بيئة يكاد يُمنع فيها حتّى مجرّد التلامس والتقابل بين الرجل والمرأة".
نفهم من كلامه هذا ومن القصائد التي كتبها بعد دخوله القصر، أنّ الشاعركان يصوّر تجارب عاشها فعلا، فذكر كلّ ما جرى له بالتفصيل، دونما خوف أو رقابة ذاتيّة. كان يعمل في التشريفات مقيّدا في سلوكه وشعره بالأصول والبروتوكولات والولاء للقصر. إلّا أنّ ذلك كلّه لم يمنعه من الانصراف، بعد انتهاء الدوام اليومي، إلى الملاهي والحانات والمواخير، ينطلق فيها على سجيّته، ثمّ يروي ذلك كلّه في قصائد جريئة ماجنة: " أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات أعطيتُ رجولتي حقّها في ليالٍ ماجنات عابرات، ولم يكن جهري بها شعرا إلّا برمًا بقضبان القفص الذهبي، في البلاط ليس إلّا، أو جريا على ىسجيّتي دون التفات للعواقب" .
لا تكفي شهادة الشاعر وحدها، طبعا، وبعد أعوام طويلة، دليلا على ما تمثّله تلك القصائد من "برم بالقفص الذهبي"، إذا لم يجد الناقد في القصائد ذاتها ما يؤيّد هذا الزعم. إلّا أنّ هذا البرم يتمثّل فعلا في قصائد أخرى من تلك الفترة عدا قصائده الغزليّة، مثل "الرجعيّون" (1929)، "عناد" (1929)، "أيّها المتمرّدون" (1928)، "ثورة الوجدان" ( 1927). في قصيدة "عناد"، مثلا، نقرأ :
عنادٌ من الأيّام هذا التعسّفُ / تحاول منّي أن أُضامَ وآنفُ
وتطلب أن يُستلّ في غير طائلٍ / لسانٌ فراتيُّ المضاربِ مُرهفُ
تعرّفْ إلى العيش الذي أنا مرهقٌ / بهِ وإلى الحالِ التي أتكلَّفُ
تجدْ صورةً لا يشتهي الحرُّ مثلَها / يسوءُ وقوفٌ عندَها وتعرّفُ
أُنغّصُ في الزاد الذي أنا آكلٌ / وأشرقُ بالماءِ الذي أترشّفُ

برمُ الشاعر في هذه القصيدة واضح، وفي بعض القصائد الأخرى التي ذكرناها، ويصعب أن نجد سببا لهذه الشكوى المرّة سوى انحباس الشاعر في ذلك "القفص الذهبيّ" مقيّد الفكر واللسان. لم يكنْ، بسبب تلك الظروف الشخصيّة، قادرا على الشعر السياسي الجريء، وهو الموظّف في القصر، رأس ذلك النظام، ولن يستطيعه معظم الثلاثينات أيضا، فلا أقلّ من نفث الهموم الشخصيّة والشكوى تعبيرا عن هذا البرم!
يقول الدجيلي، في تعقيبه على قصيدة "عناد" المذكورة: " وقد يكون سبب نظم هذه القصيدة بعض ما كان يرى بأمّ عينه من الدجل والتزلّف والنفاق من المرتادين على البلاط [...] أو أنّه طُلب منه أن يقف موقفا خاصّا وهو لا يرى أن يقف عنده".
نعود إلى النظر في قصائد الغزل ذاتها فنجد غزلا جريئا، يعرض بجرأة نادرة لعلاقة الرجل بالمرأة، فيصفها بأسلوب فيه كثير من العنف، والتغنّي بالفحولة واللذات الجسديّة، بل والتصريح أيضا دون مبالاة بارتياد المواخير بحثا عن هذه اللذة العارمة:
واقتحمْنا بيتًا تعوّدَ أنْ نطرقَ في الليلِ خلسةً أحلاسَهْ
وأخذنا بكفّ كلّ مهاةٍ / رنّقتْ في الجفون منها نعاسَهْ
لم أُطلْ سومَها وكنتُ متى يعجبْنيَ الشيءُ لا أطيلُ مكاسَهْ !
قلتُ إذْ عيّرتنيَ الضعفَ لمّا / خذلتْني عنها يدٌ فرّاسَهْ:
لستُ أعيا إن فاتَني أخذيَ الشيءَ بعنفٍ عن أخذهِ بالسياسَهْ
ثمَّ كانتْ دعابةٌ فمجونٌ / فارتخاءٌ، فلذّةٌ! فانغماسَهْ !!
وعلى اسم الشيْطان دُستُ عَضوضا! / ناتئَ الجنبتينِ حلوَ المداسَه!

هل هناك ثورةٌ على التقاليد، وتحدّ لكلّ القيم السائدة، أكثر من هذا الشعر الماجن المكشوف، يُنشر في مجتمع عراقيّ محافظ، وبقلم شاعر في البلاط أيضا ؟! وكما كان جريئا في تصوير علاقته بالمرأة، فإنّه لم يتورّعْ أيضا عن وصف تضاريس جسدها في أكثر من موضع في قصائده المذكورة، قبل نزار قبّاني وحسين مردان، كما أسلفْنا، بسنوات عديدة :
ليتَ شعري ما السرُّ في أنْ بدتْ للعينِ جهرًا أعْضاؤكِ الحسّانَهْ
واختفى عضوُكِ الذي مازَهُ اللهُ عنْ كلّ ما لديْكِ وزانَهْ
اَلذي نالَ حظوةً حُرمَ الإنسانُ منها وخُصّتِ الإنسانَهْ
وتمنّى على الطبيعةِ شكْلًا / هوَ منْ خيرِ ما يكونُ فَكانَهْ
ومحلّا خصْبًا فحلَّ بوادٍ / أنبتَ اللهُ حولَهُ رَيْحانَهْ

لم يقتصر الشاعر، في تحدّيه للتقاليد والمواضعات السائدة، على هذا الوصف الحسّي المباشر، بل عبّر في تلك القصائد عن معارضته أيضا للجماهير في تفكيرهم ودينهم، وعدائه للتضليل والعادات بين الناس، باحثا في حضن المرأة عن ملجأ آمن له من الذئاب التي تنهش لحمه في هذا المجتمع:
أنا ضدُّ الجمهور في العيش والتفكير طرّا، وضدُّهم في الدينِ
كلُّ ما في الحياةِ من مُتع العيشِ ومنْ لذّةٍ بها يزدهيني
التقاليدُ والمداجاةُ في الناسِ عدوٌّ لكلِّ حرّ فطينِ
أنْجديني: في عالمٍ تنهشُ "الذؤبانُ" لحمي فيه .. ولا تسلميني
وأنا ابن العشرينَ مَن مُرجعٌ لي إن تقضّتْ لذاذةُ العشرينِ

لا أظنّ أنّ هذا الفكر الجريء الناقم كان يمكن أن يُقال في سياق قصيدة جادّة. أمّا في ثنايا القصيدة الماجنة، غير الرسميّة، تُنشر باسم مستعار أحيانا، فيُباح ما لا يُباح في المواقف الرسميّة والعامّة.
في قصيدة "سلمى على المسرح" أيضا، كان الجواهري أكثر وضوحا ومباشرة في ذمّ السياسة وتدجيل رجال السياسة، داعيا إلى إحراقهم جميعا، مندّدا بنهب الوطن، والاستغلال، والمنافع المادّيّة باسم الوطن، وهي ثيمات ستنمو وتتطوّر، وتنضج أيضا، في قصائده السياسيّة العامرة في الأربعينات والخمسينات، بحيث تغدو لاحقا أهمّ سمات القصيدة الجواهريّة:
افتحي لي سلمى يديكِ يقبّلْ يديكِ صَبّ
أبعديني عن "السياسة" والغشّ والنصَبْ
ولكيْ نحرقَ الجميعَ هَلمّي إلى الحطَبْ
وإذا لم يكُنْ خذي بعضّهمْ إنَّهمْ حطبْ
أإلى العيشِ كلُّهمْ أنا وحدي إلى العطَبْ ؟
أنا وحدي فيهمْ ترجّلْتُ، والكلُّ قدْ ركِبْ
نُهبَ الشعبُ كلُّهُ فهنيئًا لِمنْ نَهَبْ
وهنيئًا لِمَنْ غَزا وهنيئًا لِمَنْ سَلَبْ
وهنيئًا لِمَنْ "تَنَمَّرَ" أو خانَ أو كَذَبْ
إنَّ كُلَّ الذي تَرَيْنَ منَ "الجاهِ" و"الرُّتَبْ"
ومنَ "النفخِ" بالزعامةِ والإسْمِ واللَّقَبْ
واصطيادٍ بحُجَّةِ "الوَطَنِ" الجائعِ الخَرِبْ
هُوَ عُقْبى تقلُّبِ القوْمِ عاشَ الذي انقلّبْ
خسِرَ "الدرَّةَ" البطيءُ وفازَ الذي حلَبْ

من ناحية أخرى، كان هذا الغزل "الخارج على القانون" نافذةً استطاع الشاعر الخروج عبرها على مقوّمات القصيدة الكلاسيكيّة الجديدة، وعلى شعره "الرسمي" بالذات، فجدّد في نواحٍ عديدة لم يعرفها شعره في تلك الفترة. ذلك أنّ صراحة الشاعر لم تقتصرْ على الوصف الحسّي الجريء، وهجاء التقاليد السياسيّة والاجتماعيّة فحسب، بل كان صريحا "واقعيّا" أيضا في كلّ ما سرده في قصائده هذه، كأنّما هو يقصّ كلّ ما جرى إلى صديق في جلسة خاًصّة !
الأمر الأوّل الذي يلفت النظر، في هذا المجال، هو ذكره المواقع والناس بالأسماء الصريحة، أو الإشارة إلى ذلك في الهوامش أيضا. كأنّما هو يقدّم تقريرا صحافيّا أمينا ! فقصيدته "بديعة"، مثلا، يذكر أنّه كتبها في "بديعة عطش الراقصة الحلبيّة"، وقصيدة "سلمى المسرح" في "سليمة مراد وكانت تغنّي في مقهى الجواهري". وفي ثنايا قصائده المذكورة يشير في الهوامش إلى أنّ المسرح هو ملهى "ليالي الصفا"، ويذكر في القصيدة الزهاوي باسمه ويصفه بالمقعد أيضا، لشلل خفيف في رجليه. كما يذكر مقهى "الرشيد" وحانة "مهران". بل يشير في الهوامش أيضا إلى أنّ الصاحب الذي ورد ذكره في القصيدة هو الشاعر "عبد الرزق الناصري"، فلم يبقَ إلّا أن يذكر اسم البيت الذي "تعوّدوا طرقه في الليل" وعنوانه أيضا ! هذه "الواقعيّة" لم يعرفها الكلاسيكي الجديد الذي هام بليلى وهند وسلمى، ووصف الحبيبة كما وصفها الشعر القديم، لا أكثر ولا أقلّ. ولم يعرفها الشعر الرومانسي، في الأغلب، حيث تبدو الحبيبة متخيّلة، بعيدة عن الواقع، تعيش في خيال الشاعر أكثر منها امرأة واقعيّة من لحم ودم!
يقول في قصيد "النزغة" المذكورة:
كانَ مَقْهى "رشيد" مَوْعِدَنا عَصْرًا وكُنّا منْ سابِقٍ أحْلاسَهْ
مَجْلِسٌ زانَهُ الشبابُ وأَخْلَوْا / "لِلزهاويِّ" صَدْرَهُ والرّياسَهْ
هُوَ إنْ شِئْتَ مَجْمَعٌ لِلدُّعاباتِ وإنْ شِئْتَ مَعْهدٌ لِلدِّراسَهْ
ثمَّ كانَ العِشاءُ فانْصَرَفَ الشيْخُ كسيحا مودّعا جلّاسَهْ
وافْترقنا نريدُ "مهرانَ" نبغي / ورطةً في لذاذة وارتكاسّهْ
تارةً صاحبي يصفّقُ كأسي / وأنا تارةً أُصَفِّقُ كاسَهْ
وجديرٌ أنْ يُمتعَ المرْءُ بالخمرةِ نفسًا، وأنْ يثقّلَ راسَهْ
قبلَ أنْ تهجمَ اللَّيالي عليْهِ / فتُعرّي من الصّبا أفْراسَهْ
أتراه على حياة قديرا / بعدما يودعونه أرْماسّهْ
فاحتسينا كأسا وأخرى فدبّتْ / سوْرَةٌ لم تدعْ بنا إحساسَهْ
وهذينا بما استكنّتْ بُهِ النفسُ وجاشتْ غريزَةٌ جنّاسّهْ
لا "الحسين الخليع" يبلغُ شأْوَيْنا ولا "مُسْلَمٌ" ذو "النواسَهْ"
قال لي صاحبي الظريفُ وفي الْكَفِّ ارْتِعاشٌ وفي اللِّسانِ انحباسّهْ:
أينَ غادرْتَ "عمّةً" واحْتِشامًا / قُلْتُ إنّي طَرَحْتُها في الكِناسَهْ !

هذه "الواقعيّة" تبلغ بالشاعر أنْ يذكر بعض عيوبه الجسديّة أيضا، من خشونة وقسوة وتجاعيد في الوجه، وهو ما يزال شابّا ! ويفسّر الدجيلي هذه "التجاعيد" بأنّها من أثر الجدري الذي يشيع في وجهه، فإنّه لم يُفصح عنه، بل يُلمّح إليه بتلك الصفات العامّة من تغضّن وتجعيد. بالإضافة إلى "عيوبه" المذكورة، يؤكّد الشاعر ما يعانيه في حياته من هموم يجد عند المرأة متنفّسا لها:
لا تقيسي على ملامح وجهي وتقاطيعه جميع شؤوني
أنا لي في الحياةِ طبعٌ رقيقٌ يتنافى ولونَ وجهي الحزينِ
قبلَكِ اغْترَّ مَعْشرٌ فرَاَوْني منْ جَبينٍ مكلّلٍ بالغُضونِ
وفَريقٌ منْ وجْنتينِ شَحوبيْنِ وقدْ فاتَتِ الجميعَ عيوني

إنّي لَآسفُ أنْ يجورَ على / خدَّيْكِ خَدٌ كلُّهُ شَعَرُ
وعلى إِهابٍ مِنْكِ مُمْتَلِئٍ / مَرَحًا إِهابٌ كُلُّهُ كَدَرُ
هذا الحريرُ الغضُّ مَلْمَسُهُ / حَيفٌ يُخَدِّشُ جَنْبَهُ الوبَرُ
قَلْبٌ تجمَّعَتِ الهُمومِ بِهِ / نفّسْتِ عنْهُ فهْوَ مُزْدَهِرُ
ضَنَكُ المنافِذِ لا مَكانَ بِهِ / لِمَسَرَّةٍ واليومَ ينتشِرُ
لو لمْ تُحِلّيهِ على سَعَةٍ / منْ رَحْبِ صّدْرِكِ كانَ ينفجِرُ

التجديد في قصائد الغزل هذه لا يقتصر على الصراحة و"الواقعيّة" فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى أسلوب القصيدة ذاته: فالألفاظ سهلة إلّا ما تمليه القافية الموحّدة، خاصّة في القصائد الطويلة، والصياغة تقترب أحيانا من حرارة الخطاب اليومي، وعلى القصيدة يغلب أحيانا العنصر القصصي، خاصّة حين يأخذ في سرد مغامراته، مذكّرا ربّما بأسلوب أبي نواس في خمريّاته. ثمّ إنّ قصائده الثلاث الطويلة كلّها من البحر الخفيف بإيقاعه الخافت المتهادي، خصوصا حين يصيب أبياته "التدوير" كما يظهر من المقتبسات السابقة، بل إنّ قصيدة "سلمى" من مجزوء الخفيف المقيّد القافية - وهي عناصر تُعتبر كلّها خروجا على الصياغة الكلاسيكيّة الفخمة، وسمات القصيدة الجواهريّة يومئذ بوجه عامّ.
هكذا كان شعر الغزل المكشوف فرصة طيّبة للشاعر، عبّر فيها عن برمه بالحياة السياسيّة من حوله، خرج فيها عن المواضعات الاجتماعيّة والقيم السائدة، وعلى تقاليد الشعر المرعيّة يومذاك، بحيث لا نرانا مغالين إذا قلنا إنّ هذا الشعر غير الرسمي كان احتجاجا على البيئة التي عانى الشاعر ظروفها، لا أقلّ منه متنفّسا لمشاعره الذاتيّة، وتصويرا لانغماسه في ملذّات العاصمة بغداد.
هذا العنف أخيرا، وهذه الجرأة النادرة، سوف يتحوّلان في قادم الأيّام إلى شعر سياسي فريد في عنفه وجرأته أيضا، في الأربعينات والخمسينات بوجه خاصّ.
[ من كتاب "نقدات أدبيّة" ص. 151 – 167.]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر