الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كافكا و جليل القيسي

حيدر سالم

2017 / 10 / 31
الادب والفن


كافكا و جليل القيسي

السرد بحر متلاطم ، كلما يزداد ولوج المرء فيه يصبح أصعب ، و تصبح الكلمات تمد لسانها هازءة و باصقة احيانا ، و لن تخجل ان تفتح راسك بضربة لا تقوم بعدها !
الكلمات عصية ، و تقاوم ، حتى و إن انتهيت من عمل و زججت به للنشر ، ستبقى الفجوات تلاحقك ، و كلمة ما ليست بمكانها ستأتيك لتعض اصبعك . اتذكر ان جاك دريدا قال انه يتمنى ان يكتب ادبا في حوار مترجم له نشر في مجلة افاق عربية !
ولكن الفكرة اين نختبرها ؟ نستكشفها ؟ في عالم يضج بالتقريرية و العادية ! هل ثمة فرق بين كاتب و آخر من حيث اختياراته / إقتناصاته ؟
حتما ستكشف الفكرة التي لاتنتمي لمادة هذا العالم ؛ عن نفسها بدون صعوبة و ستبدو بتوهجها الخاص بين هذا الركام من الظلال . سيكون الموضوع صعبا بدون مثال ولم اجد ماهو اكثر كمالا من " المسخ " !
في عالم عادي ، يعتاش الأعم من الكتاب على مواضيعه على مادته الموجودة تحت ايديهم ، تماما مثل النمل الذي يصادف في طريقه الطعام و يحمله الى ثقوبه . اما كافكا فهو حالة خاصة ، لانه لم يلتقط ماهو عادي و معاش ، و هذا يعود الى طبيعة نفسية و تكوين كافكا الذاتي ، و تلك الغربة التي تغرز انيابها بنظراته . أغلب القصص القصيرة و الروايات ترفدها التجربة التي يعيشها او يسمعها الكاتب و يسجلها بمهارة عالية و هذا ليس عيبا او نقيصة ، على العكس ، لان الحياة لاتجود بامثال كافكا كثيرا ، لا تزرع الحساسية و المشاعر الطافحة ، و القلب الخفاق كمدفع رشاش ؛ في صدر اي كان .
قد تبدو فكرة كافكا او جليل القيسي او غيرهما تحمل نواتها الواقعية الموجودة ، المكونات الحاضرة في الحياة نفسها ، الاشياء المستعملة ، و حتى طريقة العيش و ما تمليه الحاجات اليومية ، لكن " غريغور سامسا " الذي يقدم اليه الطعام و يعتنى به و له غرفته الخاصة ، لا يعدو كونه حشرة لا تندرج مع حياتهم البشرية الرتيبة ، ويبقى يطل عليهم من عينيه الحشرية و هم بدورهم ينظرون اليه من خلال أعينهم المختلفة ، هذه الهوة موجودة و تمثل قطيعة تامة ، على الرغم من الخيوط التي تنطلق محاولة ربط العالمين المنفصلين ، الملتصقين . هذه العلاقة تحمل نقائضها و تتكون من رحم تضاداتها ، تبدو في صراع اضدادها ، لكن صراعها الواقع هذا ؛ هو ملامحها الخاصة ، التقاسيم التي تحمل غضونها و نعومتها و اخاديدها الخاصة ، معتمة و مضيئة .
يجد كافكا نفسه محكوما عليه بتهمة يجهلها في " القضية " ، و لا يصحو من كابوس التهمة حتى يقع في رحلة طويلة الى " القصر " ، ومن جديد يجد نفسه يركض و يزحف و " يملخ " نفسه و لا يصل الى القصر المراد .
هذا الكافكا ، التركيبة الاكثر نضوجا التي جادت بها الحياة عن الغرباء ، هؤلاء الذين يطلون على الحياة من نافذة بعيدة و لا يكونون فيها الا في هيئة " مسخ " او " متهم " . ليست الغربة المنشودة هنا هي غربة لفكر ، بل هي غربة عن كل شيء ، رفض تام لكل هذه المعطيات المتواجدة في هذا العالم المكتظ . كتب البير كامي رواية " الغريب " وهي من أهم الاعمال السردية الفلسفية ، التي تتخذ الرواية طريقة لايصال الفكرة التي يريدها السارد / المفكر . و هكذا " الغثيان " لسارتر و " كائن لا تحتمل خفته " لكونديرا و " الطاعون " مرة اخرى لكامي ، تحمل هذه الروايات الغربة الفكرية المتصادمة مع الحضور الواقعي للعالم الملتبس و موقفهم منه ، لكن هذه الاعمال و غيرها حتى و ان حملت الغربة " الفكرية " هي في الظاهر مختلفة لكنها متجانسة مع هذا الواقع لانها جزء منه ، لكن المسخ هي حضور ضبابي لشخص لا ينتمي لهذا العالم ، بينما الاسماء المذكورة أعلاه يصارعون وجودهم لانهم ينتمون اليه ، أما كافكا فهو المرمي في فخ لا ينتمي اليه و لا ينظر اليه الا كحفرة ملعونة يرفضها .

و ليست هذه الغربة الكافكوية هي ذاتها كابوسية ادغار الان بو ! اعتقد ان قصة الغراب لا تنتمي الى تلك الغربة ، لكنها اقرب الى الغرائبية ، بينما قصتة " القلب الواشي " هي من تحمل هذه الغربة التي نحاول تلمسها مع كافكا . فتبوح لنا عين القاتل في قصة " القلب الواشي " عن حملها نفس الظلال التي تكفن خطوات صديقنا ( ك ) الماشي بدون وصول الى " القصر " .
ليست " المسخ " و حدها من بين كتابات كافكا تبقى هكذا بعيدا عن متناول الآخرين الذين يعتاشون على ما يصادفونه ، لكنها تتجلى بأغلب اعماله و لا اريد الجزم بكلها ، فهذه " القضية " و " القصر " و قصص قصيرة كثيرة مثل " المسافر " و " حكاية صغيرة " شواهد واضحة . إن الروايات او القصص القصيرة التي تقع بين ايدينا عظيمة وليست سهلة ابدا ، لنأخذ " آنا كارنينا " هذه الرواية الخالدة ستعيش طويلا ، لقد جسدها تولستوي افضل ما يمكن حتى اذا اردنا أن نحذف فقرة منها سيبدو الثلم واضحا ، و هذه الدقة لا تخرج الا من رسام تفيض يديه بالدقة و الجمال مثل تولستوي ، لكن الفكرة نفسها موجودة في حقل الحياة ، و اي فلاح يستطيع جنيها ، ستبقى دقة العمل ، دقة اللوحة مرهونة باصابع و روح الرسام . لكن " المسخ " ستبقى مكانا لا يخترقه العابرون ، يدخلونه لكنهم لا يتواجدون فيه ، يبقون خارجه ، إنها منطقة لا تدخلها لمجرد إنك تخطو فيها ، و حتى كافكا او اقرانه من الغرباء او ما يحلو لي تسميتهم " الكارثيين " ؛ سيبقون ضيوفا على هذه المواضيع التي تبدو فوتوغرافية ، حيث تصطاد الطريدة التي امامها ، تقتنص المشهد ، و هذا ليس ثلما او عيبا ، لكنه عاديا ، لذلك نرى كيف تغدو وجوههم واجمة تعيسة حين نذكر اسم كافكا او جليل القيسي ، و هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر .

أود التعريج على والدنا جليل القيسي . قصة جليل القيسي منفردة و تلعب في ساحتها الخاصة لوحدها بعيدا عن التاثيرات الخارجية ، فهو و إن كان داخل " مملكة الانعكاسات الضوئية " فإن هذه الاضواء مفلترة و تدخل صافية لتغفو بين اصابعه الفريدة . و هكذا مع آخرين تفردت قصصهم حتى وان وقع هؤلاء بالتقريرية لكنهم انتجوا قصصا تبقى متعذرة عن الاخرين ، عن فوتغرافية القصص السائدة ، ومثال على هذا مجموعة جمعة اللامي " اليشن " ، وبعض القصص لاخرين هنا و هناك . يبقى جليل القيسي يصول ويجول في القصة القصيرة العراقية ، يلعب بمفرده في ساحته و كلنا نحل ضيوفا عليه ، ننجح مرة و نخفق مرات ، فليس الجميع لديهم تلك النظرة التي تتفرس بالحياة كسكينة تخترق عظامها و تنخرها و ترفضها تماما ، بل ان الاغلب يرسمون واقعهم و يلتقطون له الصور شديدة الوضوح و الجمال و يحركون بعض الاشياء فيه ليبدون اكثر حرفية و موهبة ، و ينمقون ادواتهم و يعمقونها ، لكنهم لن يكتبوا كمطرودين من هذه الحياة الى الابد مثل جليلنا الفريد . ورغم اننا قد نذهب مع جليل القيسي الى اماكن واقعية قد يصادفها اي شخص لكننا نرافقه بخطواته التي تحل كضيف خفيف و لا تنتمي الى هذه الامكنة التي تدخلها ، بل تكون زائرة . بل إننا نبحر معه في " جروشنكا " و " صورة نادرة لفرانتس كافكا " داخل عوالم لا يعرفونها الكتاب البقية .
ستبقى ملامح الكتاب ، و حتى ملامح قصصهم الفوتغرافية ، ستبقى واجمة و حتى مرعوبة ، رغم ابداعاتهم ، لكنهم يعرفون الفرق او يشعرون به على اقل تقدير ، عندما يسمعون اسم كافكا و جليل القيسي وغيرهم !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_