الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في اعتزال العالم

مروة التجاني

2017 / 10 / 31
الادب والفن


قد أتورط في خطاب مفرط في الطول إن أنا ذكرت هنا على وجه الخصوص كل الأسباب الطبيعية التي تدفع بالأشخاص المسنين إلى الانسحاب من التعامل مع الناس : فتغير أمزجتهم ، ومظاهرهم ووهن أعضائهم ، هذا كله يدفع بهم رويداً رويداً ، مثل معظم بقية الكائنات الحية إلى الابتعاد عن مخالطة أشباههم .

والكبرياء التي لا تنفصل عن حب الذات تحل عندهم محل العقل : فهي لم تعد قابلة للإغراء بأشياء كثيرة تغر الآخرين ، ولقد اطلعتهم التجربة على ثمن كل ما يرغب فيه الناس في مرحلة الشباب واستحالة التمتع به لفترة طويلة ، إن مختلف السبل التي تبدو مفتوحة أمام الشبيبة من أجل بلوغ العظمة والمتعة والشهرة وكل ما يسمو بالأنسان قد أوصدت دونهم ، سواء بسبب سوء الحظ ، أو بسبب سلوكهم ، أو لحسد الآخرين وظلمهم ، والدرب الموصل إليها طويلة جداً وشاقة جداً إذا تاه فيها الأنسان ذات مرة ، فالصعوبات تبدو لهم غير قابلة للتذليل ، والسن لم تعد تسمح لهم بإدعاء المجابهة .

يصيرون غير حساسين إزاء الصداقة ، ليس لأنهم لم يكادوا يجدون صداقة حقيقية ، بل لأنهم شاهدوا موت عدد كبير من أصدقائهم الذين لم يمكنهم الزمن ولا المناسبات من التخلي عن الصداقة ، ويقتنعون بسهولة بأنهم ربما كانوا سيظلون أكثر وفاءً من الذين تبقوا لهم .

لم يعد لهم نصيب من الخيرات الأولى التي ملأت مخيلاتهم في البداية ، بل لم يعد لهم نصيب من المجد تقريباً : وحتى ما نالوه منه ذوى بفعل الزمن ، وفي الغالب يفقد منه الناس وهم يهرمون أكثر مما يجنون .

كل يوم ينتزع منهم قطعة من ذواتهم ، لم تعد لديهم حياة كافية للتمتع بما يملكون ، وأقل من ذلك أيضاً لبلوغ ما يرغبون فيه ، لايرون أمامهم إلا الأحزان والأمراض والمهانة ، كل شئ شوهد ، ولاشئ يمكنه التحلي في نظرهم بنعمة الجدة ، والزمن يبعدهم خفية عن زاوية النظر التي تناسبهم لرؤية الأشياء ، ومن حيث يجب أن يروا هم أنفسهم .

أسعدهم لا يزالون قيد التحمل ، والآخرون محتقرون ، أفضل ما تبقى لهم هو أن يخفوا عن الناس ما يمكن القول إنهم بالغوا في إظهاره .

ذوقهم المتخلص من الرغبات غير المجدية ينزع عندئذ إلى أشياء بكماء باردة العاطفة ، فالمباني ، والزراعة ، والاقتصاد ، والدراسة ، كل هذه الأشياء تخضع لإرادتهم ، وهم يقتربون منها أو يبتعدون عنها كما يحلو لهم ، إنهم سادة أهدافهم وانشغالاتهم ، كل ما يرغبون فيه هو تحت سيطرتهم ، وبما أنهم تحرروا من التبعية للناس ، فإنهم يجعلون كل شئ تابعاً لهم .

أكثرهم حكمة يتوصلون إلى استغلال الوقت الباقي لهم لخلاصهم ، وبالنظر إلى أنه لم يبق لهم إلا نصيب قليل جداً من هذه الحياة فأنهم يتطلعون إلى حياة أخرى أفضل .


أما الآخرون فليس لديهم إلا أنفسهم على أية حال شهوداً على بؤسهم ، فيتسلون بآفات شيخوختهم الخاصة ، وأبسط استراحة تمثل لهم محطة سعيدة ، أما الطبيعة ، الواهنة والأكثر حكمة فغالباً ما تنزع عنهم مشقة الرغبة ، وأخيراً فأنهم ينسون الناس ، والناس في منتهى الأستعداد لنسيانهم ، بل إن غرورهم يجد عزاء في اعتزال العالم ، ومع الكثير من الضجر والارتياب والضعف ، عن ورع حيناً ، وعن تعود غالباً ، يتجشمون ثقل حياة عديمة الطعم ، وواهنة .

_ من كتاب حكم وأفكار / فرانسوا دو لاروشفوكو .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سكرين شوت | الذكاء الاصطناعي يهدد التراث الموسيقي في مصر


.. الطفل اللى مواليد التسعينات عمرهم ما ينسوه كواليس تمثيل شخ




.. صابر الرباعي يكشف كواليس ألبومه الجديد ورؤيته لسوق الغناء ال


.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس




.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-