الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما تيسر من سفر الطيبة البصرية .... - جبار صبري العطية -

فاضل خليل

2017 / 11 / 8
الادب والفن


المطر متواضع .. والدخان مغرور[*]
أن ثقافة وفنون العراق، تنهض من جروحها، وان المحن والعذابات هي التي أسست له أهم تجاربه الإبداعية، بدءا من أول احتلالاته، وما مر به من ويلات، مرورا بثورة العشرين وما أفرزته من إبداعات في الشعر والرواية والسينما والمسرح وسواها، وليس انتهاء بالاحتلال الأخير الذي أذاقنا الأمرين. وما مسرح السبعينات بل وحتى الأمس القريب بنسبيته إلا ما يتمتع به المسرح العراقي من تجارب عظيمة حصدت جوائز أهم المهرجانات. والمسرح قدم ويقدم المنجزات في ظل ظروف معذبة قاسية ودموية غالبا. ولم يكن جبار صبري العطية إلا واحدا من فرسانه الكبار.
هو رائد مسرحي عراقي نسبه البصرة، وهو اسم يقف بجدارة مع أهم الأسماء الرائدة في المسرح العراقي والعربي. هو واحد من رواد الواقعية في المسرح العراقي. سكن المسرح وسكنه أكثر من 40 عاما، ومات مسكونا به حتى بلغ به هذا العشق حد الوصية، فها هو في المشهد الحادي عشر من مونودراماه الشهيرة (تحت المطر) يتمنى على القائمين على تشيعه أن يصنعوا من مكوناته المسرح معدات لموته، من خشب وستارة، وان لا يتورعوا من وضع قلم وقرطاسا معه عند دفنه لموضوعات ادخرها كي يكتب عنها بعد الموت لا يمكن لغيره كتابتها. سأنطلق من مسرحيته المونودراما (تحت المطر) أغنية ألتم التي أطلقها العطية من المستشفى التعليمي بالبصرة وصية له.
من هنا تبدأ محنة الوحدانية عنده في المونودراما التي خص لها من المسرحيات: (تحت المطر)(1)، (ليلة الانتظار)، (جياع ولكن). صراع الذات في المونودراما. وهو ذات الصراع بين العطية وصعوبة الإنتاج في المسرح الذي يشكو منه مسرحيو العراق. بعض من المشتغلين بالمسرح ومنهم ( بيتر بروك ) اعتبروا ( المونودراما ) هروب من صعوبة الإنتاج، ونوع من الحلول السهلة في قيام عرض مسرحي بعناء أقل، وهو الدليل على أزمة المسرح الذي لم يعد قائما إلا في المهرجانات، وهو رأي أتفق معه كثيرا. كما أن (المونودراما) متهمة بالتساهل مع النص، فلا مانع أن يكون النص فيها (مونولوج monolog) من فصل واحد، أو نص أدبي يتعكز على قصة قصيرة، أو قصيدة شعرية، أو خبر في صحيفة... الخ. لكن المؤكد أن مسرحيات (المونودراما) عنده ليست بطرا برجوازيا، ولا ترفا فكريا حين يترك الكاتب وحيدا إلا من أدواته، حاملا مفردات العرض لسرد مشاكل النص وما يتولد عنه من الأحداث على خشبة المسرح، مثلما سيترك المخرج قبالة ممثل واحد، والممثل بوحدانيته الكبيرة أمام هول المسرح وجمهوره الذي لا يرحم. هكذا كان العطية في وحدانيته التي تنتظر منا إنصافا يستحقه كي يظل خالدا بيننا في إنتاجه الغزير الذي تركه. مثلما له في الاوبريت كتابة وإخراجا، (نيران السلف)، ثالث الثلاثية البصرية (بيادر خير) و(المطرقة)، هذه الثلاثية التي عرفت العراق بالفن البصري مسرحا وفنانين. ولمسرح (الأطفال) الحصة الأكبر، من نتاجاته وهمه، انطلاقا من المقولة الأثيرة: (خذوهم صغارا).
في قمة فرحه كنت أراه مهموما بالمسرح، ما أن ينفرج هم منها حتى تولد هموم أخرى أكثر إيلاما، ولم أفاجأ وانأ اقرأ بعضا من مذكراته التي نشرت بعد رحيله يقول فيها "أنا حزين، لأني لم تتح لي فرصة الحياة مرة واحدة كما أريد، ولم أكن في المكان المناسب لي"(2). ورغم خجله وانزواءه في أحايين كثيرة لكنه شكل أثرا كبيرا في مسيرة المسرح العراقي. كان مؤسسة مسرحية، كاتبا ومخرجا وناقدا، حمل هموم المسرح البصري عربيا بعراقيته. وتعمد الاقتراب من الآخرين عله يجد الحلول لديهم دون جدوى. وفاءا مني لدين قطعته للعطية يوما، تاه بين زحمة الحروب في وطني، وها هو الوعد يكتمل اليوم، لكن في ظل غيابه الحاضر، وتلك هي العلة يا نفسي!!؟ مأساة بحجم مآسي الحروب أحقق التزامي له. سأوفي ديني وسيكون وجهه الجنوبي بطيبته حاضرا معي وأنا أكتب عنه ومن خلاله عن تجربة المسرح في البصرة، بل ستكون معرفتي به منهلي الأهم في الكتابة، سيحضرني دوما بل سيكون شاخصا بين سطوري وأنا أدون من سماحة وجهه المتعب الجميل، اللاهث خلف هدف نبيل، كما الأهداف الارسطاطاليسه في موت الأبطال وهم يدخلون مآسيهم دون ذنب جنوه. لقد كان المسرح البصري ـ نسبة إلى البصرة ـ همه الأكبر ولم يكن سعيه الحثيث إلا ليكون ذلك المسرح حاضرا كما بقية المسارح في العالم، تماهى مع الموت من اجل تحقيق هذا الهدف. فكان مجاهدا مع بقية المجاهدين في حركة المسرح في البصرة من أمثال: توفيق البصري، عبد اللطيف الرديني، عزيز الكعبي، بنيان صالح، قاسم حول، حميد مجيد مال الله، ياسين النصير، قصي البصري ـ حسب مداخلة أسبق لبنيان صالح ـ وسواهم. مارس العمل في المسرح كاتبا، ومخرجا، وباحثا، وناقدا، وممثلا كانت البداية في تجربة جمعته بالمبدع القاص محمود عبد الوهاب يوم كان طالبا في ثانوية العشار، بمسرحية (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم، ممثلا طاولت قامته زميله في الدراسة، طعمه التميمي ـ سأعرف تفاصيل أكثر عن هذه التجربة لاحقا من صديقي الرائد الكبير محمود عبد الوهاب ـ. غادر التميمي بعدها البصرة ليحتل موقعا يليق به في بغداد، لكن العطية آثر البقاء في بصرته التي لم يرتضي عنها بديلا لا في بغداد ـ رغم جاذبيتها وأضواءها ـ ولا في سواها.

الهوامش:
*) مريد البرغوثي: منطق الكائنات [شعر]، إصدارات دار المدى، عمان – الأردن 1996، ص 76
1) جبار صبري العطية، (تحت المطر) إصدارات : دائرة الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة – بغداد.
2) هلال نافع العطية، حوار بعد الرحيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي