الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باليه فوق الجثث - قصة قصيرة

حيدر سالم

2017 / 11 / 9
الادب والفن


باليه فوق الجثث


فتحت دلال عينيها على إتساعيهما ، و كأنها ستشرب ذهن سولاف الماثلة أمامها ، تشرب كلماتها بإصغاء صاف لاتشوبه إنفلاتة ما ، لا تسور ألانفاس المنطلقة مسافة قصية ، تتحاضن الانفاس الحارة ، مصبوغة بتنغيم القاف و غين ترن كإيقاع ثابت لاتقضمه أنياب الملل ، تتحدث دلال بإسهاب و عذوبة :
- وك باليوم اللي ماجيتي فيه غحنا للقاعة الثانية ، كثيغ كبيغه ، المدغسه شغلتو لل mp3 أعلى دغجه لأن القاعة مصمميها بشكل ميطلع صوت منها ! وي قبانها ألوانها حلوي وكبيغه كنا نغفع غجلينا عبالك غاح نضغب السما ، وكل شوي نقول بأعلى صوتنا
One tow three and four .
أصوات رعد تنبئ عن مطر سيزور التراب ، تنكسر الأصوات تحت الريح الهوجاء ، ما أن ينبع صوت من مكان حتى تغلفه الرياح ؛ وتسد طريقه للبوح . رغم البرد كانت دلال تتعرق ؛ تتندى ، جبهتها السمراء تطرزها أفصاص لؤلؤ ، يالترافتها ، تجلس متكورة على نفسها كأنها قماشة مرمية في وسط المكان ، يلف شفتيها إرتخاء ناعس يبللهما بالخدر ، تنساب يديها منفعلة مع شرحها لسولاف ، بينما الضوء شحيح لا يقوى على إيضاح وجهيهما كاملا ، يدخل فاترا ، يسقط مرشوشا كقطرات هنا وهناك ، يندلق ، يفوف الروائح بهالة مضببة مغشية ، تقطعه الظلال و الاشياء ، و دلال مأخوذة بحرارة منفعلة حول ذاكرتها عن آخر درس تغيبت عنه صديقتها الحميمة سولاف ، أو ما تسميها ( best friend ) كانتا غالبا ما تلتقيان في بيت دلال لوسعه وهدوءه فهي وحيدة أهلها ، و يغشاهنّ الانهماك ساعات في تمرينات الباليه و الأحاديث و الضحك و أحيانا البكاء .
لم تقطع الجامعة لقاءيهما رغم إن معدل كل واحدة فرض عليهما الانفصال في الدراسة . بدء المطر ينقض في الخارج ، ينهمر على الارض ، و يحفر الطين عميقا ، يرسم نهيرات صغيرة ، تنحدر بقوة الى إتجاهات عبثية ، كانت أم دلال تجلس باكية ، تضع يدها على خدها في أقصى زاوية ، مدفونة داخل عتمة و برودة المكان ، و زاد من خفيتها سوادها الذي ترتديه ، تنظر بحسرة غاصة الى وحيدتها المندمجة بالكلام ، لكنه سرعان ما انقطع حين سقطت على وجه دلال قطرة مطر ، مشت رويدا فوق وجهها الناعم حتى وصلت لشامتها فوق حنكها ، و استلقت عليها ، تبعتها قطرات سريعة على شعرها الفاحم ، حينها صرخت بصديقتها :
- وي سولافه مطغت
لكنها كانت صامتة دون حراك ، أعادت بنبرة متكسرة ، تربك كلماتها ضحكة طفيفة متحشرجة ، نادتها كما يحلو لها تدليعها :
- سولافه ؟ سو ل اا فه !
ول يا س و لا ااا فه ما تبللتي ؟
حينها إنتفضت امها لتحضنها ، و تضمها لصدرها .
لم تعيد إليها ما قالته مرارا بموت صديقتها هناك في الموصل ، وهي التي رأتها بأم عينيها تتلاشى تحت أنقاض البيت بعد ما دكه الصاروخ ، غائبة تحت ركام السقف وقدمها تخرج من تحت الطابوق مكفنة بجواريب الباليه ، كانتا قررتا الاستمرار بالتمرينات حتى في حالة الحرب ! لم تخرج دلال من البيت بصرخة ، لم تخرج بدمعة ، خرجت بنظرة ساهمة على قدم سولاف و حين دلفوا الى الشارع أغمضت عينيها كأنها دفنت المشهد في دهاليز عصية داخلها !
تخترق خيمتهم زخات المطر ، تمتلئ الارضية طافية فوقها القدور و الاحذية ، داخل المخيم إنتفض الجميع ليحاولوا السيطرة على الخطر القادم ، أغراضهم البسيطة تنهشها المياه ، لم يفي الساسة بتوفير الكرفانات اليهم في بغداد ، المدينة الساحرة ، فقدت بريقها وقواها الخفية ، لم توفر لهم سقفا !
دلال تعبئ السطل ماءا من الارض ، محمولا مع طين لزج ، تنغرز في يديها أسنان البرد ، و يحول بشرتها السمراء ، الى حمرة طفيفة ، الجميع يغرفون الماء و يرمون به بعيدا عن أغراضهم ، أطفالا ، نساء ، شبان ، كهول ، الجميع يدفعون بالخطر الى أبعد مكان تعينهم عليه سواعدهم ، الجميع في حفلة غرف الكارثة !
ترفع قدميها بصعوبة من الطين ، و تتذكر كيف كان هروبهم من الموصل صعبا ، محاطين بالموت ، دخانه يستشري في أوردة المكان ، تصبغ الجدران رائحة المصيبة ؛ سوداء ، مهدمة ، و حتى مشتعلة !
تسد أكوام الحجارة أفواه الطرق ، تهز الشوارع حركة متوترة ، أسراب رصاص تاتي مجتمعة كخلية نحل فوق الرؤوس ، إنفجارات تزعق كبوق يهلل لقيامة قامت ، قيامة لم يعد بها الله ، ترتدي دلال جواريب الباليه و تقفز من طريق ﻻخر فوق الجثث الملقاة دون مبالاة ، تتحاشاهم بالوثوب ، الرضع و الشيوخ و النساء ، تقفز كانها ترقص الباليه فوقهم ، لم تعلم هذا تمرين آخر أم أخير ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟