الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة الحافز والمؤثر

رامي أبو شهاب

2006 / 2 / 22
الادب والفن


كثيرا ما تستثير اللغة أجهزتنا العصبية عند القراءة، وكثيرا ما نواجه نصا يعمل على كسر توقعنا الجمالي فيدفعنا إلى الكف عن فعل القراءة، ، فتموت الرغبة على مشارف الجسد اللغوي للنص ، فما السبب يا ترى ؟
الإجابة نجدها لدى الناقد الإنجليزي أ. أ. رتشاردز، في دراسته للغة الشعرية تكوينها وأنساقها إذ يحددها بنوعين من اللغة: الأولى اللغة الرمزية، والثانية اللغة الانفعالية، وقصد باللغة الرمزية اللغة المستخدمة للتواصل، وهي لغة إشارية تهدف إلى وظيفة واحدة الإيصال، وبالتالي فهي لغة أقرب إلى التكون المنطقي العقلي وقابلة للقبول أو الرفض من حيث الصحة أو عدمه ، بينما قصد باللغة الانفعالية: اللغة التي لا تهدف إلى إيصال معلومة، فهي لغة مشحونة متحركة تهويمية، لا يمكن للقارئ أن يصل من خلالها إلى حكم منطقي بالصحة أو الكذب فهي لغة تتسرب تخاطب الإحساس والمشاعر لذلك تستشعر تلك النشوة في أوصال جسدك تحديدا عندما تقرا نصا شعريا، يقوم في بنيانه على لغة مشحونة بالتوترات والانفعالات .
الشاعر القادر على إثارة حفيظة القارئ هو الشاعر الذي يجعل من لغته محملة بالكثير من المواقف والرؤى والاتجاهات ذات العلاقة المباشرة بالقارئ على عدة مستويات، فإما أن تبعث فيه فكرة مبتكرة أو إحساسا ما نتيجة رائحة شيء ما أو صورة مشهد ما، تدفعه إلى شيء غامض لا يمكن له أن يفهمه، لذلك يشعر بالفضول والتحفز الذهني وكل ذلك مرهون بالنص المتشكل عبر اللغة .
فاللغة عبارة عن رموز تحل محل المجرد، وربما تكون أكثر عمقا عندما توحي عن طريق التداعي إلى شيء ملموس أو مجرد، فغالبا ما يوحي منظر الغروب إلى التفكير في الضعف والسكينة والشيخوخة1 ، ونتيجة لذلك يتضح ما للغة من أثر نفسي على المتلقي، بدفعه إلى محاولة الدخول إلى ماهية النص إلى حد التماهي أحيانا .
اللغة هي كائن متحرك عبر الزمن والمكان والتاريخ، فالشاعر حينما يكتب نصا فهو يقوم باستدعاء فضاء شعوري يتكون من عدة معطيات وربما شفرات رمزية، ولكن هذه الشفرات لا يمكن أن تتحول إلى تلك المثيرات ما لم يقم المتلقي بفك رموزها، وهذه الرموز يمكن أن تكون رموزا ثقافية متشكلة في وعي القارئ أو حتى رموزا حياتية من خلال تجارب عاشها القارئ أو حتى أحاسيس ورغبات مكبوتة، لذلك فإن اللغة هي المكون الأول لماهية النص، ومن ثم تتأتى المعطيات الأخرى كالخلفيات النفسية، أو السيسولوجية، أو حتى التاريخية .
إن الترابط العضوي بين اللغة المكونة للنص والمحيط الثقافي ذو ارتباط وثيق، فاللغة هي القادرة على بيان الفضاء الثقافي للنص، كما بينت ذلك جوليا كرستيفا في كتابها علم النص وقد أطلقت عليه مصطلح الأيدلوجيم .2
إن الخلفيات الكامنة وراء الكلمة هي القادرة على جذب القارئ لأنها تستعديه نحو فضاءات معينة ذات تكوينات متنوعة، تمتاز بحساسية عالية لدى القارئ فمحمود درويش عندما يستدعي حنينه لأمه وخبزها وقهوتها، فإنه يمارس على القارئ هذه اللعبة التي تعمل على خرق العوالم النفسية للقارئ، ومن ثم توجيهه نحو نقطة معينة تعمل على تحفيز التوترات العصبية، وبالتالي تحقيق الإعجاب بالنص، معتمدا على معطيات عدة أهمها: اللغة المختارة بعناية ورمزية اللغة، ومن ثم ذاكرة هذه اللغة و قدرتها على تحقيق التداعي المطلوب .
و تعمل اللغة على خرق الحدود الفاصلة بين الشاعر والمتلقي، وهنا يعتمد الشاعر على لغة مشتركة ذات مستوى متوسط لكن ذات ذاكرة جمعية واحدة، فهي توترية متشابكة تعمل على بناء رمزية عاليه بنقل المحسوسات إلى حالة مجردة كما ذكرت سابقا وربما كان سعدي يوسف أفضل من نتخذه مثالا على هذا النموذج :
" لليوم الثالثِ
لم أتناولْ قهوةَ صُـبحٍ ؛
ليس لأني لا أعرفُ كيف أُعِــدُّ القهوةَ
أو أني لم أشــتَـرِ بُـنّـاً
لا سُــكّـر
قد تتساءلُ : " ما شأني؟
" حقاً … ما شأنُكَ أنتَ ؟
ســواءٌ ، كانت لي قهوةُ صُبحٍ أم لم تكنِ
… الغيمُ ، مُسِــفٌّ ، دانٍ ،
هذا اليومَ ولم تَــتَــراءَ الشمسُ تماماً ، كالقهوةِ ،
منذ ثلاثةِ أيّــامٍ وأَزِيدُكَ أن فتاتي لم تأتِ ، ولم تهتفْ ، منذ ثلاثةِ أيّــامٍ
وأزيدُكَ أكثرَ أنّ قوائمَ باهظةً للغاز أتتني منذ ثلاثةِ أيامٍ …
وأخيراً : أنباءُ جنودِ " الحرس الأســود
" The Black Watch في بابلَ
… أنتَ صديقي العالقُ ، مثلي ، بالإنترنت
أنت صديقي ؛ إنْ لم أشْــكُ لكَ البلوى ، فَـلِــمَــنْ أشــكو ؟
الشاعر هنا يقيم حوارا مع القارئ، ولكنه حوار لا يمكن أن يحقق وظيفته ما لم يلجأ الشاعر إلى لغة رمزية تتواطأ مع القارئ، وهنا كان لكلمات القهوة والغاز والفتيات والانترنت أثر كبير إذ عملت على هدم الحدود الفاصلة بين الشاعر والمتلقي، وقامت أيضا بصنع ذاك الفضاء الثقافي الخاص بالشاعر، ونقله إلى أفق الكاتب .
إن إدخال كلمة (الانترنت) ضمن قصيدة شعرية، وربطها بكلمة ( العالق ) هي محاولة بناء صورة كلية بمعطيات كاملة، فالقارئ هنا يتوتر عصبيا إذ لامس في ذلك إشكالية وجوده، وهنا يكون التطور اللغوي والبنائي عالي الجودة، فالشاعر استطاع أن يطوع اللغة ويدفعها إلى أن تكون لغة شعرية بامتياز، وهنا تظهر ميزة الشاعر المبدع، فالعالم لم يعد يتقبل عالم الشعر المغلق بمعطياته اللغوية وكلماته المكرورة التي لا تمس فضاء المتلقي العصبي كي يتمكن من التحليل، فالإنسان عالق معظم يومه وراء شاشة الحاسوب، أو أمام قناة التلفاز، ولا يمكن أن تقدم له قصيدة تتحدث له عن تهويمات غريبة عنه وعن أفقه وعن مناخه الخاص، وما كان لينجح ذلك، لو لم يعمل الشاعر على توتير اللغة وبنائها ضمن الدرس الانفعالي الشعوري .
إن الشعر هو تكوين أولى عصبي، دعامته الأساسية اللغة، ولكن اللغة ربما تضل الطريق وتضل وبالقارئ أحيانا ،ما لم يعمل المبدع على إيجاد الطريقة المثلى في شحنها بشحنات عصبية، وتحميلها أفقا ومناخا ثقافيا مشبعا بالصور والروائح والأحاسيس والانفعالات أو ما يمكن أن نطلق عليه الوجدان أو اللذة، والتي تتجاوز مفهوم الإدراك الناتج عن طبيعة المنبه إلى مفهوم المعرفة واتخاذ المواقف ، وهكذا تتطور حساسية القارئ اتجاه الكلمات القادرة على مخاطبة كيانه العصبي بكل ما مختزن فيه من مواقف وصور و روائح وانفعالات وردود أفعال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله


.. ندى رياض : صورنا 400 ساعةفى فيلم رفعت عينى للسما والمونتاج ك




.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في


.. تأييد حكم حبس المتسبب في مصرع الفنان أشرف عبد الغفور 3 سنوات




.. عاجل .. إخلاء سبيل الفنان عباس أبو الحسن بكفالة 10 آلاف جنيه