الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة مُحكمة، وإيقاع سلس في فيلم قبر لاجئ

عدنان حسين أحمد

2017 / 11 / 14
الادب والفن


تراهن الأفلام الروائية القصيرة على التكثيف، والاختزال، والضربة الفنية التي تظل وامضة في ذهن المتلقي ويستطيع أن يتذكّرها مثل حلم خاطف وجميل. وفيلم "قبر لاجئ" أو "شاهدة قبر لاجئة كما ورد في عنوان الفيلم حرفيًا" للمخرجة الكورية الجنوبية هان كا- رام هو من هذا النمط المركّز الخالي تمامًا من الثرثرة البصرية. ولعل مردّ هذا النجاح المُذهل يعود إلى كاتبة النص ومُخرجته من جهة، وإلى تكامل فريق العمل برمته من جهة أخرى. وتبدو هان كا- رام، صاحبة "مثلما يأتي الربيع" محظوظة في التوفيق بين رؤيتها الإخراجية الصارمة التي تعتمد على جماليات السرد البصري المحبوك، وبين الخبرات المتاحة التي يوفرها المصور، ومسؤول الإضاءة، والمونتير، وكل القائمين على المؤثرات السمعية والبصرية التي تستطيع أن تتماهى مع طاقم التمثيل مهما كان صغيرًا أو كبيرًا بحيث يقترب العمل الجماعي من الإيقاع السمفوني المتناسق في دقته، وسلاسته، وعذوبته.
كتبت هان كا - رام سيناريو الفيلم بطريقة احترافية توحي بأنها درست فن السيناريو إلى جانب الإخراج السينمائي فهي خريجة الأكاديمية الكورية للفنون السينمائي ولما تزل في بداية مشوارها الفني لكن تجربتها الفنية الثانية تؤشر بقوة على ولادة مخرجة من الطراز الرفيع إن هي واظبت في عملها بنفس هذا الزخم الكبير الذي أبدتهُ في أول فيلمين قصيرين لا يغادران ذاكرة متلقّي الفن السابع ومحبّيه.
يمتلك السيناريو الذي كتبته هان كل مقومات القصة السينمائية الناجحة التي تضعنا في الدقيقة الأولى من الفيلم أمام المعضلة التي يجب أن تُحلّ على وفق حبكة مرسومة بعناية فائقة. وعلى الرغم من أن بطلتي الفيلم طفلتان حيث تبلغ دا - بن أربعة عشر عامًا بينما لا تتجاوز شقيقتها الصغرى هان - سول السبعة أعوام إلاّ أن أسئلتها عن الموت والحياة الأخرى هي أقرب إلى الطروحات الفلسفية منها للأسئلة العابرة التي تخطر في بال الآخرين عن الحياة والموت، أو الوجود والعدم. يأخذ الأب مع بنتيه جثمان الأم المتوفاة إلى المقبرة لكن مكتب الدفن يطلب أجرًا عاليًا لا يمتلكه ربّ هذه الأسرة الفقيرة الأمر الذي يضطره لأن يقوم برحلة طويلة إلى مسقط رأسها لكن الطفلة الصغيرة تشعر بالجوع فيضطر للدخول إلى أحد المطاعم، وبما أنه لا يمتلك نقودًا كافية فإنه يرسل الطفلتين إلى السيارة ويبقى هو المطعم منتظرًا الفرصه المناسبة للتملص من دفع فاتورة الحساب لكننا رأيناه في سيارة البوليس وكانت الطفلتان تنظران إليه بذهول كبير. لقد أوحت المخرجة بفكرة الهروب لكنها لم تتتبعها بالتفصيل، فالجزء يعوّض عن الكل، والتلميح أكثر بلاغة من التصريح، حيث وضعتنا أمام معضلة جديدة مفادها: مَنْ سيتدبّر أمر الجثة إذا كان الأب في قبضة الشرطة؟
تجازف دا - بن بقيادة السيارة لمسافة محددة لكنها توشك أن تقوم بحادثة سير فتركن السيارة على جانب الطريق لنكتشف وجودهما على ضفة نهر تجمعان كمية كبيرة الحطب الجاف التي تكفي لحرق الجثة ونثر رمادها ليس في البحر، كما جاء في وصية الأم، وإنما في النهر الذي تصورته البنت الصغرى هان - سول بحرًا.
أخلي سبيل الأب الذي لم يجد حرجًا في انتهاك القانون مثل سرقة السيارة التي عرفناها من سؤال البنت، أو تملصه من دفع فاتورة الطعام، أو محاولته دفن زوجته في مكان عام بعيدًا عن المقابر الرسمية على الرغم من وصيتها واجبة التنفيذ. وفي طريق عودته وجد السيارة مركونة على جانب الطريق وعلى مسافة غير بعيدة من ضفة النهر شاهد نارًا مشتعلة وبالقرب منها صبيتيه الصغيرتين اللتين أخذتا على عاتقيهما تنفيذ وصيه الأم التي استعصت على الأب رغم شخصيته المراوغة التي تقمصها بشكل رائع وجميل إلى الدرجة التي يتعاطف معها المتلقي ولعله يدين من خلالها الفوارق الطبقية التي تسهم فيها الدولة والمجتمع في آنٍ معًا.
لا يخلو الفيلم من فعل الدهشة والمفاجأة فالأم الميتة تخرج من تابوتها وتعتذر لإبنتيها عن المشكلات التي سبّبتها لهما في غيابها، كما شاهدنا الأم في المشهد الختامي وهي تجمع الأغصان الجافة، وتساعدهما في إعداد المحرقة في إشارة واضحة إلى أنها حاضرة معهما في السرّاء والضرّاء.
لابد من الإشارة إلى الأداء المتقن للشخصيات الأربع وخاصة البتين الصغيرتين اللتين تألقتا على مدى الدقائق الأربع والعشرين التي كانت ممتلئة بالحذر والشدّ والترقّب قبل أن تنفرج الأمور على يديهما، وتنحل العقدة في نهاية هذا الفيلم المشذّب الذي كان يتدفق بعفوية نادرة تذكِّرنا بأن وراء الكامير عين مصور مدرب يعرف ماذا يريد من اللقطة أو المشهد السينمائي الذي استوعب قصته جيدًا قبل أن يشرع في تشغيل العين الثالثة التي لا تهمل مشاعر المصور وأحاسيسه وتعتمد كليًا على الاشتراطات التكنولوجية. أما العبء الأكبر فيقع من دون شك على يد المونتير لأنه هو الكائن الوحيد القادر على بثّ الحياة في الـ Rushes أو "النسخة المتعَجَّلَة" التي ظهرت لاحقًا بإيقاعها المنساب الذي يخلو تمامًا من "المطبّات" والزوائد التي تُربِك آلية التلقي عند المُشاهد السينمائي الحسّاس.
جدير بالذكر بأن فيلم "شاهدة قبر لاجئة" قد عُرض في الدورة الثانية عشرة لمهرجان الفيلم الكوري بلندن لهذا العام، إضافة إلى ستة أفلام روائية قصيرة أخرى، ضمن برنامج الـ Mise en scène أو "تكوين المشهد" الذي يحدد حركة الممثلين، والكاميرا، والإضاءة، والديكور، وهذه الأفلام هي "منزل بدوني"، "عطش"، "بيني وبينك"، "غطس"،"المرأة الحشرة" و "ليلتان وثلاثة أيام". تتناول هذه الأفلام الروائية القصيرة موضوعات عاطفية، واجتماعية، ونفسية وأبطالها، في الأعم الأغلب ، هم فتيان وفتيات يتلمّسون طريقهم في الحب، والدراسة، والعمل، وتأكيد الذات وهي في مجملها أفلام سلسة، رشيقة لا تبعث على الملل أو الرتابة ولعلها أكثر الأفلام وقعًا وتأثيرًا على الجمهور الذي شاهد العروض السينمائية لهذا المهرجان النوعي الذي يترقبه محبّو الفن السابع من مختلف الجنسيات العالمية المقيمة في العاصمة البريطانية لندن وسواها من المدن الكبيرة في المملكة المتحدة لأن هذه الأفلام سوف تتجول لاحقًا في خمس مدن بريطانية رئيسة وهي شَفيلد ونوتنغهام ومانجستر وغلاسكو وبلفاست.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث