الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إعلامولوجيا سورية

محمد علاء الدين عبد المولى

2006 / 2 / 24
الصحافة والاعلام


ربما كانت هي المرة الأولى التي يتاح للمشهد الإعلامي في سورية بعد عقود من الزمن أن تظهر فيه لغة مختلفة ومتناقضة (حسبما تزعم على الأقل) مع ما هو سائد ورسمي. وكنت أود ألا أشارك في هذه اللحظة رغبة في انتظار ما قد يتجلى عنه هذا الازدحام غير الممنهج بالكلام والنقض والردود المتتالية. ورغبة في امتحان أن ما يجري ليس فورة تنتهي بانتهاء حماس البعض للتعبير من باب رفع العتب وأداء الواجب الوطني. إن ما يجري من نشر مقالة ورد عليها هناك ما هو أهم منه، وهو الأمر الذي يدخل في ضرورة الانطلاق من قاعدة لحوار ثقافي شبه معدوم في سورية. نقول شبه معدوم حتى لانتهم بالعدمية. ولكن علينا ألا نعيد شعار التفاؤل المجاني لأن الشرط الزائف لهذا التفاؤل قد كفّ عن الحضور. فلنعترف بأن (الحوار) الحالي كما هو ظاهر يتم من دون حوار حقيقي بسبب غياب الشروط الموضوعية للحوار ولا سيما أن الاستبداد بالرأي و(المراوغة) في المكان وتسيير الكلام بلا معنى، كل ذلك مع الأسف أصبح جزءا لا يتزحزح من ثقافتنا السورية البائسة. وفي مثل هذه الحالة يصبح أمام اللغة الحاضرة مسؤولية الخوض في الحوار وفي الوقت نفسه وبنفس اللحظة تأسيس تقاليد جديدة للحوار الذي كان غائباً. ولكن الحوار الجاري تغيب عنه حسبما يبدو الرؤيا البعيدة التي تربط الظواهر بتاريخيتها. ويتم تجاوز واقع ليس تجاوزه إلا تأكيدا على خلل في غاية الحوار. فإذا كنا نتحاور حول الفساد وخراب الروح الوطنية وسيادة الانتهازية في شتى السبل والأصعدة، فكيف يخطر في بالنا أن نتعامل مع ماضٍ أسس لكل هذا بصمت وغضّ نظر؟ لا بد من أجل حفر الواقع أن ننبش في الماضي (سواء أكان هذا الماضي مجردا أم مشارا إليه بحرفيته) وحتى لو كان مجردا لأسباب تتعلق بالرعب التاريخي الذي ما زال قسم كبير منا يتغلغل فيه، فإن العقل يفرض نوعا من جرأة ومكاشفة في نقد هذا (الماضي) خاصة وأن شكلا أساسيا منه ما زال (حاضراً) يتحكم برقاب العباد والمؤسسات..
أمام هذا الواقع يشعر المرء بحذر من أن ما يجري من تشجيع الانتقاد والاختلاف إنما يجري من أجل استثماره وطرحه كسلعة بديلة في السوق. والانطلاق من الموقف العقلاني يتطلب أن يكون الأمر غير ذلك. فيكفينا خوض معارك جانبية لا نريد تعميق رؤيتها ووظيفتها الحقيقية، بهدف توظيف نتائجها باتجاه خاطىء. أي بصراحة لا نريد الخوض في حرية مربوطة بأطراف خفية... والحرية ببساطة لا تعطى بقرار رسمي ولا تعليمات لوزير إعلام أو مدير مؤسسة إعلامية...في ظل هذا الكلام نتساءل هل نحن قادرون على التأسيس لمناخ حوار ثقافي يتناول المسائل العالقة كلها دون تمييز وتفضيل؟ هل صار متاحا إعادة تقييم الأداء السياسي والاقتصادي في مرحلة ما أثرت في الحاضر الذي نعاني منه وفي تشكيل ماض ما زالت أعباؤه تقبع على رؤوسنا؟ هل صار ممكناً أن نفعل ذلك دون الخوف من تخويننا واتهامنا بالتعامل مع الأشباح اللامرئية؟ قد يشعر المرء بأن ثمة تخوّفاً من أن وقت ذلك كله لم يحن بعد بشكل أساسي. لا شك أننا لا نريد قلب ماكينة الزمن بسرعة ذهبية. ولا نزعم أن ما يجري ليس مفيدا. ولكننا نأسى لأنه ابتدأ بفعل هجين وليس أصيلاً. أي أن الأمر يبدو وكأنه (يراد) لنا الآن من قبل جهة فوقية خفية منتفعة أن نغير لهجتنا وطريقة كلامنا وأسئلتنا في الوقت الذي كان الأمر عكس ما هو عليه قبل فترة وجيزة في ظل الجهة الفوقية نفسها.ولكن مع كل ذلك التخوف لنعطي للسؤال الثقافي مبرره العميق. وهو السؤال الذي لا ينطلق من الظاهر المتبدّي أمامنا بل يذهب فيما هو مخفي وغير معبر عنه. المثقف السوري مريض جدا وعلينا البحث في مرضه. وهذا لا يمكن دون الرجوع ولو خطفا إلى الوراء. فما نعاني منه من تخوف وحذر هو نتاج مرحلة بأكملها أنتجت إيديولوجيا الحزب الواحد القائد (الأحادية والواحدية والأحدية). فلنتخلص من نتاج هذه الأيديولوجيا ولننقضها بممارسة عقلانية. لذلك لا يفيد أن نشتم أحدا ولا نسيء إلى أحد. فالعقلانية سلوك لا يعنى بشتم مسؤول والحطّ من كرامة أحد. هناك مجتمع بكامله يتململ ولم يعد قادرا على الاستماع للشتائم التي ثبت أنها جزء من تكريس حالة ما وإطالة عمرها حتى الأبد. لذلك من هنا تأتي أهمية قراءة الماضي لامتلاكه من جديد عبر وعيه ومساءلته دون خوف ولا تهديد...
لا شك أننا لسنا معنيين بالتبشير اللاهوتي بأننا إذا فعلنا ذلك فسوف نفوز بالجائزة الكبرى ونحصل على مكانتنا الحقيقية في سلم الحريات والحقوق المدنية. فالأمر ليس مسارا ميكانيكيا يتم تشغيل عجلاته بالتتالي. إذ لا بد من مراكمة الأسئلة والنقد بكل تأمل. والأهم من ذلك أن يحصل المختلفون على مناخ الاختلاف على أعلى المستويات ليتحقق لهم الحس بالأمان الداخلي ومتعة النقد والشك والقلق.
والمشكلة أن بعض ما يحدث يثير الغرابة المضحكة. وذلك لأنه نتاج عادات الماضي الذي نصر على وضعه موضع المحاكمة العقلية والأدبية والأخلاقية. فمن جهة يبالغ المسؤول الإعلامي في رأس السلطة الإعلامية في الطلب من الإعلاميين أن يمارسوا النقد وأن يتناولوا بالكلام كل ما يريدون والتحرر من الخوف و... الخ نرى من جهة ثانية (لا نقول رئيس تحرير صحيفة) بل مديرا لقسم ما يضع الخطوط الحمراء ويصر على توضيحها بأن يضع تحتها خطوطا حمراء أخرى لينتبه إليها من يكتب في الجريدة (من خارج وداخل الملاك!) هذا يشبه إلى حد بعيد أن نسمع بأننا يجب أن نكافح الرشوة وبعد دقائق نرى شرطي المرور يوقف السيارة العامة والخاصة والمحملة والفارغة يقترب من نافذة السائق ويتظاهر بأنه يوبخه بينما هو يمد له يده التي ترتدي الكف الأبيض لترتد الكف محملة بالرشوة وليصبح لونها أسود من الداخل... وهذا يشبه أيضاً وغلى حد التطابق أن يصدر أمر من أعلى سلطة ممكنة ويبقى أمرا مكتوبا لا أحد يريد تنفيذه. وهذا ما نقرؤه يوميا في صحفنا التي تكشف لمن يتابع أخبار الفساد فيها أن الوقت ما زال مبكرا على تحويل اللغة من بيان إلى سلوك...
وإذا عدنا إلى الإعلام نتابع أن مصطلح الخط الأحمر بات باهتا ومملاّ ومثيرا للاشمئزاز في عصر الانترنت الذي يعاني هو الآخر من نقائض (الإعلامولوجيا) السورية من خلال حجب المواقع أو بعض النوافذ فيها والمثير للشفقة أن هناك ما لا يمكن حجبه أبدا وأن هناك وسائل عديدة للاحتيال على الموضوع فلماذا يصر الرقيب على تلبيس المواقع حجابا؟ ومن هو هذا الرقيب؟ فعلا من يكون؟ إذا كان هو الرقيب القديم فهذا دليل صريح على سيادة قيم الماضي.
قرأت في رد لرئيس تحرير صحيفة مركزية (أن أديبا ما عندما ينشر في صحيفة محلية يعتقد أنه يمنّ عليها، فإذا حذفت بناء على ذلك بعض عباراته غير المناسبة للعادات والتقاليد فإنه يحرد). ويرى (أن صحفنا المحلية تنشر مواد على درجة كبيرة من الأهمية ولا سيما في المجال الثقافي والدراسات)... ونحن في صدد السؤالات الماضية نرى في مثل هذا الكلام ما يلي:
1ـ مازال هذا الخطاب يتعامل مع المبدع والأديب تعامل المدير مع الموظف عندما ينبه المدير موظفه لتقصير في العمل مثلا. فهو يريد أن يغير للأديب بعض كلماته. وهو يعرف أن هذا الأديب (يحرد) ولنلاحظ وصف الحرد الذي لا يليق بمقام أي أديب حقيقي. فالأديب عندما يعبر عن موقفه من التدخل في مواده فالأمر يتعلق بالموقف والمبدأ لا بالحرد و(الولدنة). ثم لماذا نتهرب من الاعتراف بأن الصحيفة أية صحيفة من مصلحتها أن يكتب فيها أدباء معروفون وأسماء مشهورة ليست بحاجة لشهرة ولا تسويق وأن كل ذلك يصب في سمعة الصحيفة؟ لماذا نصغر الأديب هكذا؟ فقط من أجل أن نمنّ عليه بأننا ننشر له؟
2ـ ما زال هذا الخطاب يشعر بالأفضلية وأنه (أحسن شيء) من خلال ليّ عنق الحقيقة علنا. فمواد صحافتنا الأدبية ودراساتها أفضل مما تقدمه الصحف العربية الأخرى. وكأنه لا يمكن أن أثبت ذاتي إلا بإلغاء الآخرين. وهذا أيضا من العادات التي أسّستها أيديولوجيا الماضي القريب. ونتساءل هل حقا يقرأ هذا المسؤول الإعلامي الدراسات النقدية في صحف عربية أخرى؟ وهل يعتقد حقا أن ما يقدمه (على الأقل في صحيفته هو) هو أفضل مما يقدمه على سبيل المثال جابر عصفور والياس خوري والراحلان إدوارد سعيد وهشام شرابي، وأدونيس وياسين النصير وشوقي بزيع وصلاح فضل وعبد الملك مرتاض ومحمد جمال باروت ومحمد عابد الجابري؟ وكل هؤلاء - نقادا ومفكرين ومبدعين - ينشرون في صحف عربية... فهل صار هؤلاء نموذجا سيئا نفضل عليه خواطرنا البائسة ومراجعاتنا الهزيلة ونصوصنا التي عفا عليه الزمن؟ بل علين الاعتراف بأن ما يقدمه بعض مبدعينا الكبار(الذين يفتخر المسؤول الإعلامي بأنهم ينشرون عنده) باتوا يجترون ذواتهم وأمجادهم ولغتهم ولم يبق منهم شيء مهمّ غير تاريخ أسمائهم فقط...
أخيراً... ليس المهمّ المشاركة في هذه اللحظة الضرورية من باب التفاخر. بل من أجل أن نضع مرآة نقية لنرى فيها وجوهنا وأخطاءنا وتقصيرنا علنا نقترب من الخطوة الأولى من حوار إعلامي سوري نصرّ جميعا على ضرورته...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسم تشييع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي تبدأ من مدينة تبري


.. مقاطعة حفل ممثل هوليودي لدعمه للاحتلال الإسرائيلي




.. حزب الله: استهدفنا مواقع إسرائيلية في الجليل الأعلى ومزارع ش


.. الاتحاد الأوروبي يفعّل نظام كوبرنيكوس لمساعدة إيران.. ماذا ي




.. استشهاد رئيس قسم الجراحة بمستشفى جنين