الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-ديسمبر الآخر-

أمينة الحامدي

2017 / 12 / 19
الادب والفن


ديسمبر، آخر شهور السنة. مخيّلتي تمنحني صورة بانوراميّة للوجود: في البدء أرى شابا يتلمّس طريقه إلى قلب فتاة جميلة أحسبها حوّاء. يكتب قصيدة بمداد قلبه، يبثّ فيها خلجات روحه، توقه إلى خدّ أسيل يلعق شهده، و فم مُنمنم يعبّ من رحيقه دون ارتواء، ورحم يَنْبتُ فيه فيتخلّق كيانا آخر.
ديسمبر يهبها جمالا فتّانا، حُمرة تعلو أرنبة أنفها، بُخارا جميل يصعّد من فمها كتنّين أسطوريّ، يُلهب روحه و يُحرق ما نظم لها من كلمات.
هناك على الضفة الجنوبيّة للمتوسّط، تقف امرأة ترمق الأفق، تمدّ يدها للغائب، فتمسك يد الخذلان. غادرها زوجها ذات فجرٍ في مركبٍ من مراكبِ "الحرّاقة" بحثا عن الجنّة.
في البحر تلقّفه الحوت. هو رجل أٌمّيُّ، يَضِيقُ عليه بطن الحوت و لا يسعفه لسانه بتسابيحَ لربِّ الحوت. ترفع امرأته كَفّيْها، تًتْلُو أًوْرَادًا أُمُوميّة عظيمة. في البحر وعلى الضفّة الأخرى من المتوسّط تلُوح أنوار كعمود في السَّماءِ، ألقى الحُوت ما في بَطْنه و تَخَلّى. خرج زوجها يتهادى، مُمْتَقِع اللّون، مهِيضَ الجناح. لا شجرة يقطين في الأرجاء، لا شجرة غربيّة و لا شرقيّة. فقط جبال شامخات و أزرق مُمْتَدٌّ يهدر صباحا مساء.
في الجانب الآخر من الكون، عجوز ذات وقار، تخيط وشاحا لابنها، فديسمبر برده يعضّ القلوب. كان وحيدها. في ديسمبر الماضي خرج باحثا عن الجنّة، قال له الإمام:"أترك الزوجة والأهل والولد، و لبّي نداء لا يُردّ". بكته بدموع حرّى، استجدته أن لا يذهب. لكنّها الجنّة يا أُمّي، سنلتقي هناك. وابتلعه الغياب.
في مدينة الأنوار، في مقهى بُوهيميّ قديم، تجلس فتاة عربيّة، شعر أسود كليل وعينان تشعّان، تترشّف قهوة وتدخّن غليونا طويلا. في الركن المقابل لها، شابّ يبكي بين يدي حبيبته الباريسيّة، تحدّثه بكبرياء:" سترى صُوري على الصحف و المجلاّت، سأكون ملكة تتهادى كفراشة تنشر الشذى. لا تكن أنانيّا، إنّها الجنّة."
ترمقهما الفتاة العربيّة بابتسامة ماكرة، تنفث دخانا كثيفا يُغطّي وجهها. تُمسك الغُليون بيمناها و تُتمْتِم:"الرجال يبكون يا جدّي. لمَ قلت إنّهم قطعان ذئاب؟"
تدفع للنادل ثمن قهوتها مع الكثير من البقشيش و تغادر مخلّفة الغليون وراءها.
ديسمبر الماضي لم يهبني الكثير. اليوم سلبتُه كلّ شيء. ها أنا ذا أجوس بين حلم و حلم، أداعب السّماء، أُمسك القمر بيميني ونجمة الصبح بيساري وأغنّي كالرعاة.
في الحلم رأيت نفسي في الجنّة. طرقت الباب ففُتح لي، أخذني خازن الجنان إلى قصرٍ مرمريّ، حدائق وأعناب، صوت ناي شجيّ. في الردهة الكثير من الكتب، أمُدّ يدي لأخذ كتاب فينطّ صاحبه في وجهي باسما:" أهلا بك سيدّة البدايات و النهايات، لقد رأيتك قادمة، سمعت حديثك و أختك ذات عشيّ عن ملحمة غلغامش و عشتار المقدّسة.
ينطّ آخر بعينين نصف مفتوحة :"أنا سليل الساموراي "يوكيو مشيما"، أخبروني أنّك تحبين الأدب الياباني و لباس الكيمونو، هذا "ياسوناري كواباتا" و هذا "هاروكي موراكامي".ولا تسألي عن الهاراكيري، ذاك البعث العظيم."
ينُطّ آخر في هيئة صُوفيّ حزين:"أنا شيخ الإشراق، هل مازال النّاس يُسبّحون باسم قاتلي؟"
في الزاوية شجرة خضراء بها أصناف شتّى من الثمار، تضوّع طيبها فملأ المكان. تحتها وفي هيأة المُتأمّل يجلس شيخ بلباس بسيط. اقتربت فهمس بصوت خفيض:"الألم في رُوحك قد أزهر فبدت قُطُوفه دانية، العالم أعمى وقلّة من يبصرون".
أنت بُوذا المستنير؟ سألت.
ارفعي بصرك، انظري بين أغصان الشجرة و اقطفي الثمرة المتوهّجة.
كانت ثمرة بهيّة تسرّ النّاظرين، مددت يدي أخذتها فانقلبت كتابا. إنّه الدامابادا قرآن بوذا.
أقرأ في "سورة الوعي":
استيقظ، فكّر، وانظر
كُن في الدّربِ ليشرق فيك النّور"
أفيق لشراسة الإنارة. كانت أمّي. إنّه الفجر تأخّرت عن الصلاة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي