الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا لون الرحيل !

فيحاء السامرائي

2017 / 12 / 22
الادب والفن



1- الى شقيقتي
ليس هذا أوان رحيلٍ يا صنو نفسي، ما زال هناك كتاب مفتوح عليه نظّارتك، مقلوباً على صفحات لم تقرأينها بعد، وفي أناء صغير، تتناثر أوراق ريحان لم تجف بعد، وثمة ورود وطيور مرسومة على شرشف تركتيه دون تطريز، وهناك أيضاً، في ركن من الغرفة، سجادة صلاة مطوية يفوح منها ضوع عطر أليف، أمّا في الحديقة، فكثير من النباتات ألفت رائحتك وأنت تسقينها وتتحدثين أليها، يا لوجع الزهور! أراها اليوم هيفانة تطرق برأسها على تساؤل، أين ذهبتْ؟
حقاً، أين ذهبتِ؟ وفي البال أسئلة عديدة لكِ، لم أتوقع لوداع يليق بك أن يحمض ويتعتّق، فمازالت غفوة لرأسي لم يغمض لها جفن بعد ولم تتمدد في حضن حنانك.. أين ذهبتِ وتركتِ لي طمى أشواق وكلمات تنزلق من حروف لوعة، تطمرني على حواف نفسي؟
في بواكير فجر عراقي ملتاع وكامد، كنت مسجاة على سرير أنين، دقوا بأيد فجيعة محتملة على باب ممرضة نائمة في طلب قنينة اوكسجين كانت لتنقذ حياتك.. قالوا لها، سنجلب المبلغ لاحقاً، لا نحمله الآن.. نصحهم عابر، ادفعوا لكي تحصلون على ما تريدون.. هرعوا الى خارج المستشفى، ولما رجعوا بقنينة الحياة، رفع الطبيب يده نحوهم بحركة آسفة، انتهى الأمر.. ماتت.
يا أختاً أقرب لي من جَناني وجِناني، كنت تغنين لي في غربتي، " راح منّي لديار الغريبة".. صرت أغني لك، " أحباب چانوْ إلي راحو وخلّوني، چانوْ حياتي وهلي، وچانوْ ضوة عيوني".. لكن مَن لي بعد اليوم بحنجرة مورقة ولغة غضة بضّة حتى أملأ أناء حنجرة خاوٍ من الأغاني؟
بعيدة، وحيدة، باردة انت اليوم، تلاشيتِ الى ذهب نفْس يلمع بالذكرى.. تحْتكِ، ألا ينبت التراب ورداً وسنابل؟ وعيناك، هل هما بلا ضوء ترنوان الى زمن صفو وسكون؟.. عجباً، كيف تكون يداك بلا مثوى لياسمين وغاردينيا، لا تقويان أن تطالا ليلاً خلاسياً متعكزاً على قمر ضرير ونجوم نحيلة، تنكّس قبّعات شعاعها جزعاً ، هامسة بجلال: كم يلزم الموت من ظفر لينتصر!؟
يوم لسعتني حرقة فراقك، أيقنت انك لن تعودي أبداً.. لمحت ورود حديقتك تذرف دمعاً، فانتحبتُ معها.. لم تنتظريني حتى أودعك بما يليق من قول، قلبي عاتب عليك.. ها هي أصص ابتساماتي تتيبس، فأصير رفوف شجوٍ تتسطّر عليها فقداناتي.. موتك كان نصل دالف في حرير حياتي، أسمّر عينيّ على أكرة باب لحجرة مسرةّ مأمولة، علّك تأتين ولو للمرّة الأخيرة، لكي أفكّ أزرار فرح يأخذني الى ملمس ونعومة حكاياتك، علّني أجهد في نزع دبابيس أوصاب تنخس مغارزها نفسي، وأرفع عني ثقل أيام تهرم وتحدودب.. عاتبة عليك، أهكذا تعجلتِ المغادرة وحنثتِ بالورد؟
.............

2- الى سهام السلطاني

رأيتها تجلس على السرير بسمرتها ودعتها وآمال تفوق طول جديلة سوداء لها، وتشبه ليل متمهل في إطلاق سراح غبش وردي ناعس:
- سهام من سدة الهندية
أمتلأ أنفي برائحة قيمر، بنكهة أرغفة ساخنة يتقاذفها التنور، بسحر ريف ونخيل.. احتشدت في مخيلتي مياه معربدة جارية وبساتين رحبة ولهفة مزارعين آيبين الى ديارهم عند المساء.. يومها أبصرت صداقة مقبلة بجذور متشابكة ودروب متواشجة في ضرام أفكار متآلفة متلاقية، كالتقاء رأسينا عند سريرينا في السكن الجامعي، وأخرى متنافرة كتنافر أقدامنا في الاتجاه المغاير منهما، كما أي صداقة في الحياة.
يموج زمننا بانعطافات ملتوية متعرجة وثّابة، المباح فيها نزير، والمحظور مبذول ممجوج، متلفتة برجاء نحو أحلام تُسلب وآمال تَعطب.. كنا نقترف حياة متلاطمة، مفعمة باللاممكن وفالتة من المستحيل.. أعمار نضرة، تحاول دون كلل ولوج غايات غثة داكنة وغابات رمادية كثة، تشرئب بتطلعاتها وعزمها من أغوار عنفوانها، تسلك مجاهلها، ترتقي ذراها، تتعثر، يخذلها الطلوع، تنهض، تنظر عالياّ، تعاود من جديد، تروم الى تطويق خصر الجبال والصعاب، متسربلة بدفء نسغ منفلت من الشباب واللحظة، صانعة يومها بمرموقية ويفاعة وتلقائية، لا تركن لماض ولا تعوّل على آت، لكنها تسير بعناد رغم ان الطرقات تهرب من تحت أقدامها.
- سبحان الـ جمعنا بغير ميعاد
أنفخ غبار السنين عن الذاكرة، شيء ما جمعني وسهام، ربما عين النسيج متشابك الخيوط من حرير ذلك الزمن الصاخب المسجور بالملاحة والإجتهاد، سبعينية القرن المنصرم، يوم أبحرنا مع سوناتات ومسرحيات شكسبير، وحكمة ملتون وابداعات جويس، ومال قلبانا لجوى وردزورث حينما انبهر بوردة نرجس، ويوم خبِرنا عبث بيكيت وسخرية شو، وبكينا للوعة هيثكلف- برونتي، ويوم حلّقنا مع صوت فيروز وتوجعنا لعلاقات حب خائبة،ورغم ذلك، عاهدنا صديقنا همنجوي بأن لا نسمح للحياة ان تدحرنا حتى وإن تحطمنا.
هل تذكرين يوم نسينا نفسينا في سوق السراي فصرفنا كل ما نملك على الكتب وبقينا نتضور جوعاً طيلة الشهر، وكيف أكلنا في باب المعظم مشويات متخفّية تحت ذباب عراقي، وكيف تحملنا تثريب المشرفة لتأخرنا في أمسيات التضامن مع شعوب العالم، وكيف اتقدنا حميّة بعدما شاهدنا فيلم زاكو وفانزيتي في سينما الخيام وكنا على وشك الشروع بمظاهرة لتغيير كل ما ترتّب عليه عالمنا من أخطاء وزمننا من أوجاع؟
كيف تنسين نهاراً محبوس النور في قضبان سلطة واتحاد وطني، حين خبأت عندي أشياء ممنوعة وأنجدتك من مصير مؤلم لأنني كنت غير" مشبوهة " مثلك أيتها المشاكسة؟
ولما اخترتُ الألمانية كلغة ثانية واخترت أنت الفرنسية، أتذكرك جيداً تمرّين قربي وترفعين يدك نحوي بحديّة وجدّ:
- هايل هتلر
أكتم غيظي حتى أهتدي الى وسيلة تجعلك تتوقفين عن مشاكستك، أكتب بحروف فرنسية أغنية المطرب الريفي حضيري أبو عزيز ( جابوها دفع للدار، لا حنّة ولا ديرم ولا صفگة).. أسمعك تقرأينها بلكنة فرنسية بالغة الطرافة فأغرق في الضحك.
وتباعدنا.. افترقنا على مسافة خطوات من مغيب شموس وهطول مصائب، غمرتنا تفاصيل حياة داعرة جائرة.
لم أدرك يا سهام كم ان صداقتك مهمة شاقة باهرة نادرة، وكم ان رحيلك صعب، حتى نويت الكتابة عنهما!
ايه صديقتي.. يا من عينيك فجر متساقط بحنان على بساتين السدة، وغمازتيك مسرّتين متلألئتين في عذوق نخيلها.. لا تجعلي كثبان فقدك جاثمة على روحي بمرارة، لا أحتمل وجع إسترجاع كاوٍ ومشاعر فراق واخزة، لا أقوى على لفح هواء فقد وتلاش كصيف بلادي، ابعدي قلمي عن أحشاء الشجن وجلْد اللغة المتأسية الناعية الناعبة، دعيني ألوّح لك بمنديل وفاء لا أنعيك، اسمحي لي أن أغفو في مسقط قلبك علّ رائحة ذكراك الهادئة الصابرة تهدهدني وتسكنني.
ماذا تفعل مفردات لغتي حيال موتك؟ أخجل من رثائك وأنت حاضرة ومبثوثة في حياة كل الكلمات التي تأبى أن تترمل، لغتي المحنّطة أبعد من رثاء صداقةن بل أقرب الى ثراء صداقة..
رغم اني مثقلة برحيلك، سأوجه شراعي ضد موج الفجيعة وبحور النحيب، أدير دفة عقلي نحو ضفاف الإستذكار ومرافىء الزنبق والدهشة.. هل حقاً غابت؟
هل حقاً تغيب؟
لن أحزن.
ليسهو عنك النسيان، فستظلين تؤنسينني بغيابك الحاضر وحضورك الغائب، رغم كل غصة في قلبي وكل وحشة فيك ممتدة من ضفاف التيمز الى سد الهندية، أنديها بطمى الصداقة وغرْين الزهو بمعرفتك.
أختم الكلام وقلبي وتناسل الأحزان، لاننا سنبقى كما كنا معاً، نعلن اخضرارنا قبل تفتق الربيع، وستبقين أنت على قيد الزهر والإزدهار والنهار، بخالك المليح وكركرتك الرقراقة ومشيتك اللافتة للتمعن.
ايتها المحلّقة في ثرى وذرى النفس، ما يحزنني فقط هو انك اعتليت صهوة المسافات الطويلة ولم تبلغي حلمك، ولكن سترتاحين لو علمت بانك لم تكتوي في ذلك الجمر لوحدك، أحلامنا صديقتي على مرمى مسافات ماراثونية وسنوات ضوئية منّا ولا يكفينا عمر قصير للعدو نحوها، فسلام على روحك حتى مطلع المعنى من وراء الجراح والخيبات، سلام على زمن يجري بلا طائل ولا نائل وعلى مواسم بلا جنى قد لا يشهدها ما بقي من عمر.
أيتها الأرض، هنا ترقد صديقتي فرفقاً بها، كوني رقيقة على غمّازتيها ورؤوفة على جديلتها، تلك هي وصيتي، أنا التي ما زلت أحيا بعد كل رحيل ثقيل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اختي الكريمة.
سمير آل طوق البحرأني ( 2017 / 12 / 22 - 12:16 )
الرحمة والرضوان لهم جميعا وعظم الله اجوركم.
نحن بنو الارض وسكانها *** منها خلقنا واليها نعود
والسعد لا يبقى لأصحابه *** والنحس تمحوه ليال السعود

انا لله وانا اليه راجون.

اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟