الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف قتلت أبي ؟

صيقع سيف الإسلام

2017 / 12 / 22
الادب والفن



أحيانا و بدون مقدمات ، يجد الإنسان نفسه يقوم بأمور غريبة النمط ، دونما سابق إنذار ، بل لو سئل عنها لاحقا لوصفها بالحمق و السذاجة ، غير أن هذه الأمور الغريبة و التي تأتي قهرا في كثير من الظروف ، إنما تنبئنا بشيء مهم ، أنها حقيقتنا الداخلية التي نجهلها ، هي تهمس في آذاننا قائلة : أنتم تجهلون ما يجري داخلكم ، أنتم لا تزيدون عن كونكم عبدة لللاشعور . . . كنت داخل زانزانة إنفرادية في انتظار حكم الإعدام الخاص بي ، وهو في الغد من الآن ، كان ذاك القفص معتما و نتنا بشدة ، و لم أحصل حتى على قسط نقي من الهواء ، و لاشك أن هذا من أسباب الهلوسات التي أصابت ذهني ، وأطلقت عقاله ، نعم أطلقت عقاله بشدة ، خصوصا حينما دخل الكاهن الذي أتوا به ، كي أدلي بالاعتراف الأخير ، لعل الرب يغفر لي ، وهو ما لم يكن مهما في نظري ، حال أنني بريء من الجريمة التي نسبوها إلي ، ولنعد للهلوسات التي اعترتني وقتها :

لم أنظر للكاهن على الإطلاق ، وكان قد بدأ في تلاوة أحد الأسفار ، و هو يمسك بصليبه الكبير ، حتى أنه نادى علي قائلا : يا ابني ، لكن طول مدة بقائه لم ألتفت إليه ولو للحظة ، رأسي منخفض و باصرتي على الأرض مرة ، وعلى النافذة الصدئة مرة ثانية ، حتى انفتق ذهني وصار يسمع صوتا داخليا يتحدث معه ، و راحت يدي تتحرك راقصة ، كأنني استمع لمعزوفة ما ، ثم شرع رأسي في التمايل و الهزهزة ، أنفاسي ترتفع ، فجأة قمت واقفا ، أحس حالي أنني وسط محفل جامعي ، وعلي أن أشرح فكرة حياتي الأخيرة ، بدأت أبصر الجمهور يحتشد بين حبات الحصى داخل الزنزانة ، عند قدمي الكاهن ، كانوا أناسا مثلنا ، لكنهم اقزام ، تجمعوا في صفوف ينتظرون أن ألقي بكلمتي ، حاولت أن ألمس أحد هؤلاء الأقزام ، لكن يدي مرت في جسده كأنه شبح ، وهو لم يكن شبحا صدقوني ، لمحتهم يصفقون لي و يصفرون ، بعضهم كان يحمل دفاتر لستجيل الملاحظات ، و آخرون يحملون كتبا في راحة اليد ، الحاصل أنهم كانوا جمهورا مثاليا ، فوقفت لهم وعدلت من لباس زانزانتي الأحمر ، ومسحت وجهي ، كان يحمل أحد أرجل خنفساء قتلتها البارحة ، و نعم ، نعم ، لقد صارت الخنفساء أيضا بين الجمهور جالسة ، و لو أن رجلها ناقصة ، لكنها بدت مسرورة و هي تحرك قرونها الاستشعارية ، و قد كنت خائفا أن تنتقم مني بعد إعدامي ، تقول الأسطورة : في الجحيم تنقلب الخنفساء ضخمة واصير أنا بحجم البرغوث ، و تفعل بي صنيعي بها ، أي تقتلع ساقي ، هناك أردت مداهنتها كما مداهنة البقية ، و اعتدلت من الأرض الوسخة جالسا على السرير الحاشو بالمسامير ، لكنه لم يبقى كذلك ، سريعا تحول لطاولة مناظرة و مخاطبة ، و أمسكت عودا مكسورا ، لكنه لم يعد عودا مكسورا ، بل صار قلما من أجود أنواع الأقلام ، أقسم لكم ، تعتقدون أنني مجنون ، بل لم أكن في حالة عقلية أفضل من ساعتي تلك ، حينذاك بادر الكاهن يلح من جديد : « ابني ، عليك أن تعترف و تنقذ نفسك التهلكة ، ابني لماذا لا تنظر إلي » ، وقد أجابته الخنفساء العرجاء بشتيمة قاسية ، إلا أنه لم يسمعها ، إن فن الشتيمة لعلم بحياله حقا . . . أخيرا حينما استوى كل شيء على قده ، بدأت محاضرتي الجامعية مع جمهوري الخاص ، قلت :

_أيها الأقزام ، أيتها الخنفساء الكريمة ، يتفق لكل صاحب موضوع أن يسهل عليه إيجاد عنوان يناسب موضوعه ، لكن يعسر في بعض الأحوال حينما يخدم أكثر من عنوان القضية المرادة ، و قضيتي التي أريد سردها على سادتكم ، يصلح عنونتها بالآتي : « لقد قتلت أبي » ، « أين أنا في أنا » ، فاختارو الأنسب لشخصكم . . . إن سبب كوني سأغادر الحياة غدا تحت رحمة حبل يصلح لرفع مرساة سفينة بأكملها ، هو أني قد قتلت أحد المارة العابرين ، وهو شيخ طاعن في السن ، و لماذا قتلته ؟ ... حسنا ، ببساطة لأنه قال لي : « يا ابني الغالي » ... لكم أن تتخيلوا شخصا يرتكب جناية التخلص من شيخ عجوز طاعن في السن ، شيخ لا يعرفه ، ولم يلتقي به في حياته أبدا ، يرتكب هذه الجناية لأن الشيخ ببساطة قال : « يا ابني الغالي » ، و قد احتارت الشرطة حينما سألتني و عاودت مرارا و كرارا ، لماذا قتلت هذا الرجل الطاعن في السن ؟ ، و أنا أجيبهم بكل هدوء و ببرودة أعصاب ، قتلته لأنه قال لي يا ابني الغالي ، و هذه الإجابة الغريبة التي لا يمكن لمخلوق في الكون أن يستدل بها ، إلا مخلوق واحد هو أنا ، قلت هذه الإجابة الغريبة حيرتني أنا نفسي كما حيرت غيري ، غير أن محل الإختلاف بيننا كان في مسألة حجة القتل ، هم لم يصدقوا حال أني فعلت الفعلة لمجردة كلمة يا ابني الغالي ، أما عند نفسي ، فيقين قاطع أني عملتها لتلك الكلمة وحسب ، غير هذا لا أعرف و لا أدري ، فهل تؤمنون بالحظ و الأقدار الإلهية أيها السادة ، أيتها الخنفساء الفاضلة ، لا يهم ، وأيا ما يكن ، حل هذا اللغز جاء من أحد المحبوسين معي ضمن الليلة الأولى التي رميت فيها داخل هذا المستنقع القذر ، فعجبا لذاك التفسير الذي سمعته ، وعجبا للمسائل التي استثارها داخل دماغي الصغير ، شعرت أنه لا وجود لي البتة ، وقبل أن نصل للتفسير ، خليق أن أذكر شيئا من تفاصيل الجريمة التي اقترفتها يداي .

كان يوما ممطرا ، و كعادتي كنت أحصي الغيوم المائلة للسواد منها للبياض ، وقد ركبت القطار الذي يأخذ أطول مسافة وصولا للمكتب الذي أشتغل به ، لأنني أحب السفر بالقطار جدا ، ولأن أعظم الأفكار تأتيني وأنا أراقب من نافذة القطار ، في كل حجرة من حجرات ذاك القطار ، كنت احل ألغازا فلسفية و معضلات فكرية عويصة ، تهب على خاطري كما يهب النسيم من حيث لا يدري المرء ساعة القيظ الحار ، فكما لكل فرد ميزة إلهام تحفزه و تجعل ذهنه في أقوى أحواله و شروطه ، كانت ميزة السفر هي ميزتي للإلهام ، عموما صعدت و اعتدلت في مقعدي ، لألحظ شيخا عجوزا بقميص زهرية اللون ، له شفاه غريبة قليلا ، العليا رقيقة نوعا ما ، السفلى أغلظ ، أما أصابعه فكانت طويلة و يحركها ببطء ، ولا شك تلك علامة على المكر و الدهاء ، أيضا عيون صغيرة مع عنق واسع ، ولا شك هذه علامة أخرى على المكر و الدهاء ، و لا أدري ماذا حدث لي ساعتها ، بعد ثانية واحدة من التركيز معه ، ثانية واحدة لا أكثر ، أؤكد لكم يا جمهوري العزيز ، يا خنفسائي البديعة ، صار راسي يتثاقل و بدأ الصداع ينال مني ، تأتيني صور متقطعة ، صور فيها لون زهري كثير ، و في أشكال مختلفة ، شكل ملابس ، شكل طلاء منزل ... الخ ... حتى اتكأت على العمود المحاذي لي كي لا أفقد توازني ، و بصعوبة حاولت رفع رأسي ، أريد هل يراقبني ذاك الشيخ ، إلا أنه لم يفعل ، بيد أنني ساعة رفع رأسي و مشاهدة عينيه الصغيرتين ، تملكني رعب شديد ، و صار قلبي يخفق بشدة ، و تحجر الدم في صدغي الاثنين ، بل تضاعف الحال ، لأجد نفسي اشعر بوجود كدمات على جسدي ، عنقي يؤلمني و يحدث خفقانا غريبا ، فخذي تشنجت كأن بها ازرراقا ، حتى توقف القطار فجأة ، و أنا بالكاد أقوى على التنفس ، كنت محظوظا أن مقعدي بجانب باب الخروج ، مثل مقعد الشيخ ذاك أيضا ، وقفت بصعوبة و تمشيت ببطء كي أبدأ بالنزول من القطار ، حينذاك تقدم مني العجوز قائلا : « ما بك يا ابني الغالي ؟» . حينئذ ، لا أعرف من أين أتت تلك الحركة مني حقيقة ، استللت قلمي المكسور و الذي أضعه دائما في جيب سترتي ، استللته و غرسته مباشرة في عنقه ، من ضربة واحدة سقط ينزف بشدة ، سقط ميتا ، و لم أنتبه لفعلتي إلا بعد وصول البوليس ، كوني في حالة من الغضب العارم ، غضب استعمر كل خلية من خلايا جسدي كاملة ، حتى الزبد أفرزه فمي من شدة الغيظ ، غيظ منعني من متابعة أسئلة المحقق ، يقول المحقق لماذا قتلته ؟ ، أجيبه وأنا أرتجف و عيوني تسيل دمعا ، مع كل دمعة اردد له ، قتلته لأنه قال يا ابني الغالي ، قتلته لأنه قال يا ابني الغالي ، قتلته لأنه قال يا ابني الغالي . . . كانت هناك صورة تظهر و تختفي ، ثم تظهر و تختفي ، ففي لحظة ترديد الرجل العجوز لتلك الكلمة ابني الغالي تبدل وجهه ، صرت أرى وجها جديدا ، شخصا آخر ، شخصا أكرهه ، أمقته بشدة ، رأيت وجها جديدا لا أعرفه البتة ، لكنه كان وجها يريد أن يؤذيني ، في داخلي أحسست أن ذلك الوجه الجديد و الذي لم يكن وجه الشيخ ، أحسست الوجه الجديد يعرفني جيدا ، و له سلطة علي ، أحسسته سيدوس فخذي و يمسك عنقي يخنقني ، و برغم أن العجوز لم يتحرك ، كنت متيقنا أن الوجه الجديد سيهاجمني ، هكذا بادرت لطعنه بقلمي المكسور . . . كما أجبت واثقا من قبل : علة الجريمة هي تلك الكلمة البسيطة ، يا ابني الغالي ، و التي شكلت لغزا للجميع ، إلا على صديقي السجين ، و بتبصر فريد ، استطاع أن يشرح القضية كلها من خلال لساني أنا عينه ، أي أنه قد استل ملفات من ذاكرتي القديمة المدفونة و التي لم يعد لها وجود في الوعي الخاص بي ، استطاع أن يجعلني أتحدث وانا ابن أربع سنين فقط ، و قد مات أبي حينما بلغت الخامسة من عمري ، فكيف استطاع هذا السجين أن يجعلني أتحدث بذاكرتي للأعوام الأولى من حياتي ؟ ، ببساطة لا أدري ، صفوة القضية أنني نطقت بتلك الملفات المدفونة فقلت :

كان أبي مصابا بهوس اللون الزهري ، لا يرضى بشيء إلا إذا اصطبغ سطحه باللون الزهري ، وكان يردد دوما أنه لون أمه المفضل ، لون فستانها الذي ماتت فيه ، فكان بيتنا أشبه ببيت أسطورة خيالية تحكى للأطفال عند النوم ، و كنت حديث عهد بالمشي ، إلا أن عيون أبي الصغيرة دوما رمقتني بنظرات شزر ، هو لم يردني أن آتي لهذه الدنيا البتة ، يلوم أمي دوما ، فإذا اشتد يأسه وبؤسه ، عمد إلى ضربي و أنا صغير ابن أربع سنين ، كان يملك لوحا مدببا يستعمله في النجارة ، عمله اليومي ، وبهذا اللوحة ، و بهذه الصفيحة ، كان ينهال على فخذي بشدة حتى يتحول لونها لأزرق داكن ، بعد أن يمسكني من عنقي بأصابعه الطويلة ، كم كان عنيفا حقا ، حتى يغمى علي في حالات عديدة ، أما محاولات أمي في الدفاع عني ، كانت تتجه دوما إلى نتيجة مؤسفة ، الضرب و التنكيل و الصراخ عليها ، المسكينة حالها الدائم تكرر بصوتها المكسور و لهجتها التي لا تسعفها ، تقول له : « هو ابنك الوحيد ، ابنك الغالي ، ارحمه » ، و بعد سماع أبي لعباراتها هذه ، ينطلق في وجهي ساخرا ، يقول ابني الغالي وهو يشد على أسنانه من الغيظ ، ابني الغالي وهو يلفحني بالصفعات ، ابني الغالي وعيونه الصغيرة تتمدد و تحمر من اجتماع الدم أو انفجار العروق ، ابني الغالي وهو يضع قدمه بكل قوته على فخذي و أنا أصرخ طالبا للعون و المدد ، ثم يقترب مني جيدا ، ويصرخ بشدة في أذني و هو يعصر راسي ، ابني الغالي ، هذه الكلمة الآتية في هذا الصوت العنيف الشرس المريض تخترق طبلة أذني و تصيبني بالصمم لبقية الليلة ، و لا أرتاح من أبي حتىى لو تركني و شأني ، فإذا غفوت لبرهة ، عايشت من الكوابيس المفزعة الشيء العظيم ، أحلم به يضربني و يعنفني و ينشرني بمنشار لصنفين ثم يعيد ربط بدني و رسكلته ليقوم بنشره قسمين من جديد . . . إن أبي لا يقدر على قتلي فهو يخاف من ظله ، هو متسلط جدا لأنه ضعيف جدا ، لأنه ابن أمه ، لأنه يشتاق إلى ذاك الفستان الزهري ، ويحن لذاك التابوت الذي يحوي جسد حبيبته التي أحضرته لهذا الكون ، لو سمعته يتحدث مع أحد قليل المعرفة به ، لقلت أنه رجل من طراز رفيع ، من طبقة راقية ، لكن مع من يعرفونه ، يحتقرهم ويزريهم ، يدوسهم معنويا إن كانوا على مسافة قليلة منه ، إما إن ان انعدمت المسافات ، كما هو حالي أنا وأمي ، فإذن سيعذبنا و يتمتع بصراخنا ، لذته و متعته أن يمتص رحيق آهاتنا ، لن يقتلنا ، فسيقتل بذاك مصدر متعته ، سيقتل سبب عيشه و غايته في هذا العالم ، و لأنه يجهل في صلبه لماذا تأتي اللذة من صرختي وبكائي و من صرخة أمي وبكائها ، مصدر المتعة اعتقاده أنه ينتقم لأمه ، أنه يستعيد بعض من روحها ، فكما تعذبت أمه يريد أن يعذبني ، كما صرخت و بكت أمه ، يريد أن يجعلنا نفعل و نعاني بشدة ، حتى يحقق شيئا من العدالة في قرارة نفسه ، هو في داخله لا يريد أن يشعر بالسعادة ولا أن يرانا نعيش السعادة ، كيف له أن يكون سعيدا وأمه ماتت تعاني في فستانها الزهري ، كيف له أن يسعد بابن له و زوجة جميلة و أمه رحلت في تابوت مغلق بفستان زهري ، إذن يجب ان لا يسعد هو ولا نسعد نحن ، ففي ذلك إثم وكفر ، علينا ان نعاني ، عليه أن يجعلنا نتذوق مرارة العيش بأتم معانيها ، هكذا ربما يمكن لروح أمه أن تهنأ قليلا ، أما روحه هو فهي مقموعة داخل هولوكست معنوي حتى يستر التراب جثمانه ، وقد ستر التراب جثمان أبي و عمري لم يتجاوز خمس سنين ، و لاحقا بعد سنة فقط توفيت أمي كذلك ، كي يتم أخذي و تربيتي و الاعتناء بي ضمن أحد ديار اليتامى .

إن قتلي لذلك الرجل العجوز لم يكن عشوائيا محضا ، فبأصابعه الطويلة و بقميصه الزهري ، و الأهم بتلك الكلمة يا ابني الغالي التي قصمت ظهري و أشعلت فتيل قنبلة موقوتة ، إن لحن الشيخ العجوز في قوله لتلك الكلمة ، وطريقة لعبه بأصابعه ببطء ، أيقظ تلك الصور القديمة جدا ، فرأيت وجه أبي بدلا من وجهه ، و رأيت العجوز بوجه أبي يهاجمني ، يريد أن يدوس فخذي و يشد عنقي خنقا ، على أن العجوز لم يبرح مكانه ، إنني أقول لقد قتلت أبي ولم أقتل العجوز ، بل لم أقتله أنا ، الجريمة الحقيقية كانت : طفل يبلغ خمسة أعوام يقتل أباه ، أما ظاهر المسألة فكنت أنا أقتل الشيخ العجوز ، أليس هذا كافيا لبيان براءتي ، و إسقاط التهم عني ، ولكن بعد التأمل سأقول : لا أريد العيش في عالم أنا مسلوب الإرادة فيه ، و هذا ما أوضحته لصديقي السجين ، و ها أنا أعيده عليكم أيها السادة الاقزام ، ايتها الخنفساء العرجاء ، نعم أقولها لك بصراحة الآن ، ولا أكترث أن يصير حجمي كالبرغوث فتعذبينني ، لا أكترث حقا ، قطعت أرجلك حتى استمتع بمظهر قطرات دمك اللزج اللاصق ، حتى إني تذوقته ، كان مقززا لكنه لذيذ ، أردت أيتها الخنفساء العفنة أن أجعلك تتذوقين شيئا من تعاستي ، وكما عشت هذه الحياة بأجنحة مقطوعة ، بظروف قاهرة ، بحالة نفسية مزرية ، أريدك أن تعيشي كحالتي ، قطعت أرجلك حتى تتعبي أكثر في تسلق حصى الزنزانة ، حتى تسقطي من أعلى الجدار بعد أن تصعدي فيه ، حتى أجعلك فريسة سهلة لغيرك ، فلا تملكي سرعتك الكافية للهرب و الاختباء ، ثم تنزفين رويدا رويدا و الحياة تتسرب منك ، و بدل دفء دمك اللزج ، يزحف داخل عروقك برد هذا القفص النتن ، و اتلذذ أنا ، إلهك أنا الآن ، أسلبك كينونتك ، إلهك أنا أقضي على مصيرك ، إلهك أنا اسلبك إرادتك ، فأنا إله مسلوب الإرادة كذلك ، و لا رغبة لي في حياة لا اختيار حر أملكه فيها ، فخذي معك هذه الوصايا إلى حتفك ، من جديد أقول : أعيد عليكم ما قلته لصديقي السجين آنذاك :

أنا لم أقتل العجوز ، اللاشعور هو من ارتكب الجريمة ، ولم يكن لي من حظها إلا كما لليد عندما يأمرها الدماغ ، فإذا كانت جريمتي ، ببدني ، لا بعقلي ، و ما كنت لأستفيق لسببها لولا بشاعتها ولولا براعة صديقي السجين في كشف اللثام عنها ، قلت فما يمنع أن حياتي كلها رهن اللاشعور ولست إلا ترسا تديره قوة اللاشعور لتحقق رغباتها ، إذا كان اللاشعور قتل الشيخ العجوز ولم أقتله أنا ، فلما لا يكون اللاشعور اختار المرأة التي أحبها ، و القطة التي أطعمها ، و الطموح الذي أهدف إليه ، و الصديق الذي أختاره ، و الموسيقى التي أنصت لها ، و الفن الذي أحبذه ، و اللون الذي أرتديه في ملابسي ، لما لا يكون اللاشعور هو الذي اختار كل هذا ، بل حقيق أن نقول : كل اختياراتنا مبنية على اللاشعور وليس لنا منها نصيب البتة ، فإن أردنا الكذب قليلا على أنفسنا ، استبدلنا كلمة « كل اختياراتنا » بكلمة « أغلب و معظم اختياراتنا » ، و لا محل لصدق كلمة « أغلب و معظم اختياراتنا » إلا في مرحلة طفولتي ، أيام كنت صفحة بيضاء ، أتلقف الأفكار من حولي ، أتلقف البيئة الاجتماعية و الفكرية ، ثم لما انتهت طفولتي ، صارت تلك الأوليات التي عشتها سجلا محفوظا ، و إنجيلا بحياله يهيمن على باقي حياتي جميعها ، فإذا عشت سبعين سنة بتمامها ، كانت خمسة وستين سنة محكومة بتفاصيلها وعمومياتها بالخمس السنين الأولى ، محكومة في كلياتها و جزئياتها بتلك الأعوام الخمسة، فيثور السؤال بلا ريب و لا مطية : أين أنا في أنا ؟ ... أين أنا التي تعطيني حق الاختيار المطلق ، دونما تبعية لظرف أو حدث ، و هل الأنا التي تختار توجد حقا ، فإن لم توجد، لا معنى لسؤال : أين أنا في أنا ؟ ، إذ هو سؤال يحوي أناتين ، أنا حرية الإرادة وأنا اللاشعور ، فإن كانت هناك أنا وحيدة بحيالها ، فهي حتما أنا اللاشعور ، و عليه أنا مسلوب الإرادة ، هكذا يا خنفساء وقعنا في مأزق وعر جدا ولا خلاص منه إلا بالموت وهو ما سيتحقق قريبا ، حين ينفد دمك اللزج من التسرب ، وحين يحيط حبل المشنقة بعنقي غدا ، إنه لأمر مؤسف و مؤلم جدا أن أكون قد عشت هذه الثلاثين سنة من غير أن أختار شيئا دونما تبعية للظروف و اللاشعور ، لم أختر شيئا حقيقة لنفسي كما يليق الاختيار ، بل لنقل أنني كنت مجبورا مقهورا ، أعيش فقط وهم الاختيار ، وهم أنني مقتنع بالشيوعية أو المسيحية ، وهم أنني عاشق للفن و الأدب ، وهم أنني محب لزوجتي ، وهم أنني أحترم ذلك الفيلسوف أو العالم ، وهم أنني أحتقر تلك الشخصية بعينها ... كلها أوهام و سراب ، عبد أنا خاضع لكل هذه الظروف ، خاضع للاشعور ، فهل اتفق لي أن اخترت شيئا ما ، ولو صغيرا ، فكرة ضئيلة فقط ، هل اخترت هذه الفكرة الضئيلة اختيارا حرا مرة واحدة في حياتي ، إذن لكان ذلك انتصارا كبيرا ، انتصارا هائلا بحق .

نزع الكاهن الصليب وهو يستمع لي و طوى الإنجيل ، وضعهما على السرير ، يبدوا أنه كان يستمع لي بشغف و أنا أخاطب الزائف ، بل لقد ظهرت عليه أمارات التأثر بما قلته ، و صار شارد الذهن لفترة طويلة حتى نهض يغادر الزنزانة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل