الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن إنكار الهولوكست.. القيم الغربية , إذا كان هناك ما يسمى بالقيم الغربية, تنهار

نائل الطوخي

2006 / 2 / 28
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


تتوالى ردود الأفعال العالمية على حكم المحكمة النمساوية بحبس المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينج و الذي كان قد شكك في عام 89 في إصدار هتلر أوامره بالإبادة الجماعية لليهود. ما يلفت النظر هنا ليس فقط حماقة إنكار الهولوكست, و التي لن تفيد إلا مجموعة يمينية من النازيين الجدد يروجون للتفوق العنصري الغربي الذي يأتي على رأسه الجنس الألماني, و يكرهون كل المختلفين, عربا و يهودا وسودا, و لكن أيضا الحماقة المقابلة, حماقة حبس كاتب بسبب رأي عبر عنه منذ سبعة عشر عاما, الهوس العالمي بتجريم من يشكك في الهولوكست و الذي يقابله البرود اللا متناهي لحجة حرية التعبير إزاء نشر الصور التي تسيء للرسول. يأتي الجدل من إسرائيل حول الحكم بحبس المؤرخ ديفيد إيرفينج مستعرا بشكل خاص, فبوصف إسرائيل هي وريثة اليهود في العالم, كما تحب تصوير نفسها بغض النظر عن مدى هشاشة هذه الصورة, فإنها تصبح المدافع الأول عن الذكرى المقدسة للهولوكست. هنا يكتب الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة هاآرتس مقالا يحلل فيه هذا النفاق و استغلال إسرائيل له. و كالعادة, و لأن مقالته حملت عنوانا مثيرا يدافع عن المؤرخ البريطاني "لا تحبسوا إيرفينج" فقد أثار ردود أفعال كثيرة للغاية, تراوحت ما بين السباب المقذع و الإعجاب و القليل من النقاش العقلاني لمقالة لا تسلم هي الأخرى من بذور الأيدولوجيا الصهيونية. يقول جدعون ليفي:
***
"الكلمات لا تقتل, لذا ليس هناك من قول يمكن بسببه دفع الإنسان للسجن. أساس حرية التعبير مطلق, حتى عندما يتعلق الأمر بشيء حقير و مثير للسخرية مثل إنكار الهولوكست, من يبدأ بالتشكيك في هذا المبدأ لن يعرف أين يتوقف, هل إنكار الهولوكست اليهودي يستحق العقاب و إنكار الهولوكست الأرمني على يد تركيا لا. و لماذا لا؟ ألأن هناك أبيد فقط "مليون و نص المليون" شخصا؟
و ماذا عن التجاهل العالمي, العنصري, لمقتل مليون من أبناء التوتسي في رواندي أو عن القتل الجماعي لأربعة ملايين في الكونغو؟ العالم يتجاهل هذه الهولوكستات, حتى إذا كان لا ينكر وجودها بصراحة, و لم يفكر أحد في معاقبة شخص ما بسبب هذا التجاهل المستفز. الرسوم الكاريكاتيرية الدانماركية, و التي مست ملايين الأشخاص, ألا تستحق العقاب؟ و كذلك إنكار الأعمال الإجرامية لإسرائيل في الأراضي المحتلة, حتى و إن كان لا يمكن مقارنتها, بالطبع, بأي هولوكست. كان لليهود هولوكست, و كان هو الجريمة الأكثر إخافة في تاريخ القرن العشرين, ليس من شبيه له في شيطانيته, و من يتجرأ على إنكاره يستحق الإدانة, العزل و المقاطعة, حتى الطرد – و لكن بأي حال ليس الحبس.
ألقى المؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينج محاضرتين هامشيتين في النمسا في عام 1989. قال في نوفمبر ل300 مستمعا احتشدوا في القاعة في مدينة لوبان المجهولة أن هتلر لم يأمر أبدا بإبادة اليهود. في حجرة خلفية بعد ذلك بأيام ادعى أن "أوشفيتز كانت أكذوبة". ينبغي تجاهل هذه الطرفة الشيطانية, الساخرة, الصادمة, المسرنمة, الجادة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالآذان النمساوية- و لكنها لا تستحق الحبس. في مؤتمر دولي في بريسل سمعت لأسابيع بعضا من مريدي النظريات عن الارتباط المزعوم بين الموساد و انفجار برجي مركز التجارة العالمي. و عندئذ؟ هل ينبغي حبس هؤلاء الأناس المجانين بسبب كلماتهم؟ هل سيتوقف إيرفينج و مريديه عن الإيمان بنظريته لأنه تم الدفع به إلى السجن؟ حبس إيرفينج لن يؤدي إلى توقف الموجة المظلمة – و يمكنني أن أقول: الهامشية – من إنكار الهولوكست, في العصر الذي تحظى به ذكرى الهولوكست باعتراف غير مسبوق. في الولايات المتحدة, و التي يتم فيها تقديس حرية التعبير و لذا فليس بها أي قانون ضد إنكار الهولوكست, يتزايد الانشغال بهذا الموضوع. ليس هناك تقريبا من مدينة هامة بدون متحف عن الهولوكست.
هنا يتم طرح السؤال عن السبب الذي من أجله يهم إسرائيل جدا لهذا الدرجة مطاردة منكري الهولوكست, إذ يتعلق الأمر بمجموعة صغيرة جدا, في العالم الذي يحترم أكثر و أكثر ذكرى الهولوكست. هل يهتز اليقين في عدالتنا؟ حق إسرائيل في الوجود, كنتيجة للهولكوست, أقوى من كل منكريها, بمن فيهم رئيس إيران. يتسلل الشك أنه هنا بالتحديد لم نتعلم درسا هاما: لا يجب على إسرائيل أن تحاول استخلاص أرباح تافهة من ذكرى الهولوكست و لا ينبغي أن تعاود استغلالها لأجل إثارة المشاعر, كما فعلت على مدار السنوات. لإسرائيل الحق و الواجب في قيادة الصراع العالمي ضد العنصرية و معاداة السامية, و لكن عليها أن تحترس من أي تلاعب بروح الكلمات المخيفة لجولدا ميئير: "بعد الهولوكست, مسموح لليهود أن يفعلوا أي شيء".
بدلا من محاربة منكري الهولوكست, من الأفضل بالنسبة لنا أن نركز على استخلاص الدروس الصحيحة منها. أحد الدروس هي أن العنصرية هي عنصرية, سواء توجهت تجاه يهود و تم التعبير عنها في الإبادة المنهجية أو توجهت ضد فلسطينيين و تم التعبير عنها في حبسهم القاسي في تجمعاتهم, خلف الأسوار و الجدران. تجاهل هذا الدرس هو نوع معين من الإنكار, يمكن لانعكاساته أن تكون أكثر قسوة من محاضرة أخرى لإيرفينج."
***
في هذا المقال كما هو ملاحظ لا يكون ليفي جذريا بما فيه الكفاية, و أحيانا لا يكون جذريا أبدا. يقول هو: " و من يتجرأ على إنكاره – يعني الهولوكست - يستحق الإدانة, العزل و المقاطعة, حتى الطرد, و لكن بأي حال ليس الحبس." هنا لا يعارض الكاتب عقاب باحث على رأي أدلى به و إنما على نوع العقاب, و هو ما يشكل ردا هزليا على النزعة الأصولية المنادية بتجريم الرأي المخالف أيا كان, تثير هذه المساومة السخرية, حيث يمكن بسهولة جدا استغلالها في الاتجاه الآخر, الأكثر عنصرية بكثير. يقول قارئ في ملاحظة ساخرة على هذه الجملة: "وفقا لجدعون ليفي ف56% من الفلسطينيين الذين اختاروا حماس, و التي تنكر حق إسرائيل في الوجود, يجب أن يطردوا." هذه هي خطورة مغازلة الجمهور, إبقاء العقاب على حرية التعبير كما هو مع تخفيف درجته فقط. يقرر القارئ طرد الفلسطينيين من أرضهم لأنهم انتخبوا من ينكرون وجود إسرائيل. و كأن إنكار, أي نفي حدوث, حدث تاريخي كالهولوكست مشابه لإنكار, أي عدم الاعتراف بشرعية, دولة قامت على ذلك المزيج الطريف بين الاستعمار و العنصرية.
غير أن الأكثر هشاشة من كل شيء في المقال هو دفاع الكاتب المطلق عن إسرائيل, إسباغه البداهة شبه الأسطورية عليها, و كأنها العنقاء التي تولد من رحم رماد المحارق و الإبادة. يقول: " حق إسرائيل في الوجود, كنتيجة للهولكوست, أقوى من كل منكريها, بمن فيهم رئيس إيران.", تأملوا: هنا يتم ربط إسرائيل بالهولوكست, و هو الربط التقليدي و الهادف لإثارة عطف العالم ليس على اليهود و إنما على ظاهرة سياسية و هي دولة إسرائيل, التي كانت قد دعت إلى إقامتها الصهيونية قبل الهولوكست بما يقرب من خمسين عاما, كما بدأت الهجرات الصهيونية لإسرائيل قبل الهولوكست منذ بداية القرن, أي قبل الحرب العالمية الثانية بعقود. يلاحظ هذا قارئ آخر فيقول ردا على جدعون ليفي: "الهولوكست حدث, و التأكيد عليه أو إنكار أمم العالم لن يغير الحقائق.. دولة إسرائيل بصراحة ليست وارثة تراث الهولوكست و هي نمت هذا الهاجس الهولوكستي كمجرد حجة سياسية. لذا يبدو أن الهاجس الإسرائيلي عن موضوع الهولوكست مصاب بعدم احترام الذات الواضح, و هو الأمر المميز للشعب اليهودي في العالم, لأن شعب إسرائيل لا يحتاج لتصديق العالم أو إنكاره لوجود الهولوكست."
في نفس الوقت لفت نظر القراء محاولة تعرية النفاق التي قام بها جدعون ليفي في مقاله بين إنكار مذابح الأرمن و إنكار الهولوكست, فحاول أحدهم تبريرها قائلا: " تجاهل العالم لمقتل الأرمن هو تجاهل سياسي. تجاهل العالم لمقتل أبناء التوتسي هو تجاهل عنصري. و لكن إنكار الهولوكست ليس عنصريا أو سياسيا. إنه شامل "ثقافي و فلسفي" حيث إن الإنسان الأبيض المثقف لا يقف أمام السود و البدائيين. في إنكار الهولوكست تتحارب قوتان تشكلان نفس الثقافة الغربية و بهذا المفهوم فهو جوهري و وجودي بمفهوم الخير و الشر." أي أنه سواء إنكار الهولوكست أو تأكيده يأتيان من عمق الحضارة الغربية. هذا يسهم قليلا في تخفيف صورة وحدة الغرب التي تحاول إسرائيل تأكيدها في خطوة أولى لربط نفسها به, فمثلما أن الحدث الأول, الحرب العالمية الثانية بهولوكستها الرهيب, قد دارت رحاها في الغرب الذي يأخذ في التعفن, فإن الحدث الثاني, الصراع بين من ينكرون الهولوكست و من يؤكدون حدوثه, يدور في عمق الغرب. و الغرب الواحد, المتماسك الذي تحب إسرائيل تصوره, هو الغرب الذي يتم دوما تخيل أنه جنة الديمقراطية و حقوق الإنسان و حرية التعبير, هو ذلك الذي ينهار الآن ليس فقط بفعل الصراع بين مبدأ حرية التعبير و مبدأ حبس "أو عزل أو طرد" ذوي الآراء المختلفة, إنما بسبب تسيد الفريق الثاني الساحة تحديدا, ذلك الذي تم التعبير عنه في حكم المحكمة المأساوي, و في الهوس المحموم, غير العقلاني, للتأكيد على حقيقة بسيطة لا تحتمل كل هذا التشنج المثير للسخرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسلسل إيريك : كيف تصبح حياتك لو تبخر طفلك فجأة؟ • فرانس 24 /


.. ثاني أكبر جامعة بلجيكية تخضع لقرار طلابها بقطع جميع علاقاتها




.. انتشار الأوبئة والأمراض في خان يونس نتيجة تدمير الاحتلال الب


.. ناشطون للمتحدث باسم الخارجية الأمريكية: كم طفلا قتلت اليوم؟




.. مدير مكتب الجزيرة يرصد تطورات الموقف الإسرائيلي من مقترح باي