الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البطل الفكرة

صيقع سيف الإسلام

2017 / 12 / 25
الادب والفن




الأرق ، السهو في القراءة ، التقوقع داخل العقل و اختفاء الواقع المحسوس ، استبدال هذا الواقع بالأشياء المجردة فقط ، بالتحديد الأفكار هي هذه الأشياء المجردة ، تركيب المعاني و خلقها في قالب جديد يخدم الفكرة التي تسيطر عليك ، سقطة قطرة مطر و ارتدادها ، بسمة طفل يمرح برجليه مشيا و قفزا ، متابعة كل حركة تصدر من إنسان ، كل ردة فعل تأتي من قطة الحي ، كل هذا و ما سواه أعراض متتابعة تتناسل و تصير وحيا خاصا يصيب صاحبه بالصرع و الرغبة في الصراخ ، يصاب بمس من الجن ، غير مرة يرفع يديه ليجس نبض صدغيه ، لكن ما معنى أن يكون لي " فكرة " ؟
إن معنى امتلاكي لفكرة في مغزاه الأعظم أن وطني في السماوات ، لكنه دونما شك يأتي على أهداف دونية ، هي الأخرى لها مكانتها ، ومكانتها سياقها و سوقها لهذا الوطن القابع في السماوات . . . إن مجرد الدخول في فن التحدث عن هذه الفكرة ، لا بلوغها ، هو سمفونية في حد ذاتها ، هي أغنية لرقصة بوليرو ، هي شعر إليوت و سباحة في أرضه الضائعة ، و إذا ضاع المرء في أرض لا يداري المسار فيها ، تخلص من إحساسه بيديه ثم رجليه ، وصولا لعينيه ، سيغدو يمشي في تلك - الارض الضائعة - بعقله فقط ، يتحول لفكرة مجردة ، معنى سام يعتلي على عرش داخل النفس ، ملكوت النفس ، و إذا كان من بداية لنا لتعريف الجنة التي فقدها آدم ، لن تعدو هذه البداية في التعريف عن التجسد الكلي داخل فكرة معنوية تغادر بك سلاسل هذا الكون المادي و الطبيعي ، و إذا كان من انطلاقة صحيحة لتفسير معنى الشجرة التي أكل منها آدم ، شجرة المعرفة ، لن تعدو هذه الانطلاقة عن أن نزع الفاكهة من الشجرة المقدسة هو نزع للفكرة ذاتها عن طبيعتها المجردة المثالية ، و نزعها جعلها تتلبس بلباس يكسو التجريد و هو الطابع المادي المغالط ، ثم تكون العودة للجنة ، كما يعود التفسير للتعريف ، أن تتصل الفاكهة من جديد بالشجرة المقدسة ، أي أن يعقل الإنسان ، أن أعقل أنا الفكرة بحقيقتها ، أعقلها و هي متصلة بأمها الشجرة ، لا سوى ذلك ، ثم يكاد يبرز للروح الواعية ملامح هذه الجنة الصغيرة ، قبل ولوج الكبيرة ، و ملامح الصغيرة هي ولادة ثانية ، فهل أنا أقصد إلا ما شرحه ابن تيمية لما ذكره المسيح ، قال شيخ الإسلام : في الدنيا جنة ، من لم يدخلها ، لم يدخل جنة الآخرة ، و قال المسيح عليه السلام : لن يدخل الملكوت من لم يولد مرتين . . . بادرة ذهنية قد راودت عقلي عن نفسه ، فصرت إذا جلست ساعات مديدة للقراءة و المطالعة الغزيرة ، صرت أبحر في عالم من الخيال يخدم فكرتي ، يخدم التي تخصني ، الفكرة ، إذا اتفق و قرأت اسطورة سيزيف ، إذا اتفق و متحت من الكتب المقدسة للفلسفة الوجودية ، استقرأت أنبياء الوجودية ، بل اذا اتفق و غصت في سيرة عن أحد سجون سيبيريا ، أزور جثثا عفنة ، و أستمع لاعترافات مساجين ، غدا يجلدون ألف جلدة بالسياط أو العصا ، ربما يعدمون و يستأصلون حتى ، إذا اتفق و ألمعت بمفهوم العقل الجمعي للمجتمع البشري ، ألمعت بعلم نفس الجماهير من غوستاف لوبون حتى فرويد . أعود فأقول : إذا اتفق كل هذا جملة واحدة ، لم يزل إلا ذخيرة وبارودا ينقشع في ذهني يؤسس لتلك الفكرة ، و هو تأسيس يصيب بالمرض ، فلا تكاد تبصر الصفحات ، و لا تدري عن المؤلف قصده و مراده ، الصفحة تتلو الصحيفة ، و الصحيفة تتلو الصفحة ، أنت بين كل ذلك تهيم في واد غير ذي زرع ، واد أنت تزرعه تحت وطأة هذيان و حالة هيسترية ، أقرب ما تكون للجنون ، كزخ المطر ، كوابل الرصاص ينهمر من غير تؤدة ولا هوادة ، يقضي الحال بك إلى رغبة هز رأسك بعنف ، و صفع وجهك ، يقضي بك الوضع إلى الصداع المزمن ، حتى تغيب عن وعيك ، و يبرز لك كل شيء في أعظم صورة ، يفقد الانتحار صورته البشعة ، هو مستساغ الآن بل ولذيذ جدا ، لعل الضوضاء تنتهي و يتوقف الضجيج ، ربما لطم جمجمتك في الحائط سيساعد ، لكن لا ، لاجدوى ، في قلب ذلك الضجيج و تلك الضوضاء ، تكمن لذة ، أعظم لذة ، لذة الفكرة المجردة ، لذة أرغب في انمائها و حقنها ، لكن ليس بالكتب الآن ، لا ، فهي تمدني برغبة في الصراخ و العويل ، و الرقص بمرح شديد ، تمدني برغبة غرس أظافري القصيرة بين تلافيف بشرتي ، راسما عليها وديانا حمراء ، أنهارا غامقة . أن أخرج إلى العالم و أرى الخضرة و السماء الزرقاء الصافية أفضل لي ، حتى إذا تركت عتمة القبو الذي أسكن فيه ، عتمة هي كضوء الشمس بالنسبة لي ، قلت حتى إذا تركت عتمة قبوي ، و رأيت أول بشري يمشي و يدب على هذه الأرض ، اجتالتني فورا أحاسيس القرف و الشفقة و فقدت الأشياء كل معانيها ، هي تنتحر أمامي ، تنتحر عند قدمي هذا البشري الآدمي ، الكمال ، المثالية ، الحكمة و الذكاء ... الخ . كلها تموت ، تذبل ، بين طيات التراب ، لا تعود للحياة إلا اذا عبر طفل بريء ، أو مرت فتاة صغيرة تمرح و تزهو ، هذا الطفل و هذه الفتاة هما مواد فكرتي التجريدية ، يعظمان من لذتي ، ويغذيان ما أنسجه فيغدو أسمى و أرقى . الطفل أقرب لكائن مجرد منه لكائن واقعي ، أقرب للسماوات منه للارض ، وهو بذلك أقرب للفكرة و الفاكهة المتصلة بالشجرة ، لن يهزمني سواه ، يخفق له قلبي و تذرف له عيني ، و تبتسم له شفاهي ، لم أعد أبحث عن هدف ، مثل بحثي عن الرجوع طفلا ، فلا تكبر إنه فخ . هذه الحياة بوفرة مواردها ، لوحة أعانت في خدمة الفكرة التي تخصني ، أي أعانت في لذتي و شهوتي التجريدية ، أي مرة أخرى أعانت في ضجيج صاخب و ضوضاء عارمة تعصفني بشدة و قوة ، بدل سيزيف و أنبياء الوجودية و العقل الجمعي و سطوته ، هناك الجبال و الكهوف و النبات الأخضر ، هناك النحل و الزهور ، هناك الاضطرابات النفسية للإنسان ، والتي تظهر في أدنى الحركات و أصغرها ، أن يصدر عن جنون للسلطة و التسيد في أسلوب طرح تحية أو ترديد كلمة وداع ، أن يكون في لب كتابة جملة قصيرة خيلاء فارط و كبر واسع ، أن يحوي جذر رمشة عين ألف قصة وقصة . كل ذلك و يزيد هو غذاء تمتصه جوارحي ثم عقلي ، خدمة للفكرة ، خدمة لبطلي ، و بطلي هو فكرتي . . . كما سيزيف يدحرج صخرة في العالم السفلي ، دحرجة من علو لسفل ثم من سفل لعلو ، كما عصفور القبرة يزغرد و يلحن قصيدة شجية لأنثاه ، كما سجين في سيبيريا قام بقتل أبيه ليرث ماله . كله يأتي مقهورا ، عبدا خاضعا في كون ليس هو الكون المحكوم بمبدأ العطالة أو القانون الثاني للديناميكا الحرارية ، بل عبدا لكون فكرتي ، و أنا أعيش في كون فكرتي ، من دون مبدأ العطالة ، حيث كون الصلابة ، كون قوانين نيوتن ليس إلا حلما في كوني الحقيقي المطلق ، حلم لبطلي ، وأنا هو بطلي ، و بطلي فكرتي ، بطل هو الأسير في زانزانة سيبيرية على سفح جبل مائل ، بها صخرة تروح و تجيء ، يفتتها البطل بقصيدة العصفور و لحنه ، يكفر في اثرها نبي الوجودية بقدسيته ، يعرف جراءها أنبياء الحقيقة . . . لا أحاول أن أكون غامضا بقدر ما أريد تعريفكم ببطلي ، فكرة تخصني ، بنائها هو لذتي القصوى ، قد أدخلتني عالم المثل الأفلاطوني ، فقدت من خلالها الشعور بما تسمونه الواقع و الوجود ، بدأت أشاهدها في كل الموجودات ، شاهدتها في الحجر ، عاينتها في السحاب و السماء ، لامستها في خفقان الفؤاد و احتقان الدم في الدماغ ، صرت أحياها ، أتنفسها ، رويدا رويدا شرعت الأحجار تغيب و السحب أفلت بأفول السماء ، أما قرقعة القلب و الدم فسكنت ، حتى إذا أغمضت عيني مرة واحدة ، ثم فتحتهما ، اختلف كل شيء ، ما في الواقع الآن إلا فكرتي ، ما في الوجود الآن إلا بطلي ، ما في الكون الآن إلا كوني ، ثم صفوة القول : ليس من كون إلا كون فكرتي ، انتهى كل شيء عداه . . . و لأن طبيعتي طينية ، وأبي يظل آدم مهما كان ، فعلي أن أقطف فكرتي من شجرتها المقدسة ، لزام مني سلب بطلي حقيقته الجوهرية التجريدية و نقله لعالمكم ، لعالم آدم و حواء . كتابة هذا الكون الحي الذي أعيشه بين غلافين ، لا لتقديمه وعرضه ، و لا حتى للإصلاح ، و لو هذا الأخير بمكان مهم ، غير أنه ليس بالأهم . الأهم هو إسكات ذلك الضجيج الصاخب المتراكم و الضوضاء الفاقعة ، التي تصم الآذان ، و تنزفها ، الأهم هو التفريغ ، التخلص قليلا من تلك اللذة الكاملة و العظيمة جدا ، هي لذة لا يطيقها جسد و لا عقل ، ليسوا من تكوين واحد ولا جوهر متشابه ، يجب تسريب شيء من طاقة اللذة إلى العالم الثاني السفلي الأرضي ، و البطل سابقا هو كيان لا حدود بارزة له و لا سياج يحيط به يحدد معالمه ، تدوين البطل هو تحديد له و طرحه في صورة أقرب ما تكون للمثالية ، في قالب يجعله بارز الأركان ، فيضاعف ذلك من شأن اللذة ، يضاعف من شأن الجنة ، لكن من غير ضجيج أو صخب ، بل مضاعفة صافية ، مفرحة مبهجة للنفس ، فيزول الأرق و السهو ، ينقطع الغوص العميق المنسي للذات ، لتعود صفحة الكتاب من جديد مقروءة دونما ارتحالات ذهنية عويصة مرهقة ، ولا أسفار فوق كونية زمانية تسلب الأغوار ، يستعيد الانتحار صورته البشعة ، و يجفو الرأس الحائط و يقف منه على مسافة ، تهجع النفس و تسكن ، فلا تشعر أنها تتضخم حتى تكاد تنفجر ، و تتناثر اشلاءا مشتتة . . . فأين زمن التدوين ، اللذة عظيمة و الضجيج يتكاثف و يتصاعد ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل