الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شارل في المطر

فاتن واصل

2017 / 12 / 30
الادب والفن


أحببت طوال حياتي الأغاني الفرنسية الرومانسية لا سيّما تلك التي بصوت شارل أزنافور المغني الفرنسي أرميني الأصل، لا أفهم سوى القليل من اللغة الفرنسية لكنني أحب أن أنصت للمتحدثين بها. تعطيني دائما انطباعاً بأناقة مستخدميها، أما الأغاني فلها وقع السحر على أذني، إذ أنه بمجرد أن تبدأ الموسيقى ويبدأ المغني في الغناء تتسرب لأنفي رائحة القهوة الفرنسية المنبعثة من المقاهي الممتدة على طول شارع الشانزليزيه الشهير، وتمسح وجهي نسمات نوفمبر الباردة، وأرى لمعة مياه المطر الراقدة بين فواصل بلاطات الرصيف تعكس أضواء السيارات والمحال التجارية المتلألئة.
لذا بمجرد أن دارت الاسطوانة في الجهاز وانطلقت نغمات الموسيقى عادت لعيوني صور تلك المدينة الحبيبة بجنونها ومجونها، صخبها وملامحها، عادت لي الأيام القليلة التي قضيتها فيها خلال رحلات العمل القصيرة.. فاسترخيت تماما وتركت ماكينة الذكريات تدور.

هناك، في باريس تعرفت عليه، هاني المعداوي، وكنت في بدايات الأربعينيات من عمري وكان هو في منتصف العشرينيات شاباً يافعاً، ينحدر من إحدى العائلات المصرية التي لها باع في عالم المال والسياسة. ساعده والداه كي يصل للمكان الذي شغله وقتذاك، في واحدة من كبرى الشركات الفرنسية وذلك بعد تخرجه مباشرة في العام 95، كان يتحدث الفرنسية بطلاقة مما أهله للعمل بالشركة في مجال العلاقات العامة والموارد البشرية. جاء إلى فرنسا وعاش وحده بدون أصدقاء حقيقيين، مفعم بالطاقة والحيوية يحلم بالكثير، يمتلك المال الوفير الأمر الذي يغمره بالثقة وأيضا الغرور أحيانا، فمركز عائلته المرموق جعله يعيش في نفس مستوى الفرنسيين الأغنياء وأكثر. لكن كانت تبقى دائما حقيقة أنه وحيد يحتاج لمن يبوح له بالكثير، لم يجد من يثق بهم ليشاركوه مخاوفه وهمومه وأيضا أحلامه وجموحه.
ارتمى في أحضان مدينة النور بحثاً عن هوية تواقاً لحرية لم يحصل عليها في وطنه على الرغم من المال والسلطة. هنا استطاع أن يكون مثلما يريد تماما دون أن يحاسبه أحد أو يلومه مجتمع.

منذ عدة أشهر وفي حفل عشاء حضره كبار رؤساء شركات فرنسية ومصرية وفي نفس القاعة التي استقبلونا فيها منذ حوالي خمسة عشر عاما بالعاصمة باريس كان لقائي الثاني معه. كانت أعصابي مشدودة قليلا فأنا لا أحب تلك الأجواء الرسمية لكن كنت مضطرة للحضور بحكم عملي، وإذا بمن ينبثق من بين الجموع متجهاً نحوي هاتفاً :
هالة ! ..
ثم بعد أن لاحظ تعبير وجهي الذي يدل على أني لم أعرفه قال باستغراب :
مش عارفاني ؟ لحقتي تنسيني ؟ دول خمستاشر سنة بس.
ابتسمت بارتباك وخجلت من نفسي لأني لم أتعرف عليه.. همست لنفسي :
هاني ؟؟ يخرب عقلك مجنون زي مانت.
وتوجهت نحوه بابتسامة على وجهي أكدت له أنني لم أتذكره فقط لا بل فرحت بلقاءه.
تحول الشاب النحيف إلى رجل ناضج على جانبي رأسه تناثرت شعرات بيضاء، لكنه على أية حال مازال محتفظاً بوسامة لم تمحها السنون بل زادته جاذبية. يمسك بكأس من الويسكي بين أصابعه متجولا به ويرتدي بدلة رمادية شديدة الأناقة ويضع كوفية بيضاء تحيط وجهه بنقاء وهدوء غير عاديين. عيناه زائغتان قليلا من أثر السكر.
انحنى وطبع قبلة فوق خدّي ثم سحبني من بين زملائي متجاهلا اندهاشهم، متأبطاً ذراعي قائلا بصوت مسموع وبفرنسية سليمة:
tu me manques وحشتيني.
لفت لقاءنا انتباه الجميع، لكنني هربت من مواجههم بعيوني ومشيت بجواره مستسلمة ثم اتخذنا زاوية بعيدة في شرفة قاعة الاحتفال.

قبل ذلك بخمسة عشر عاما ز
دعاني بحماس لا يوازي زمن علاقتي به والتي بدأت في صباح ذلك اليوم قائلا بعد أن انتهيت من مهمتي التي جئت من أجلها إلى فرنسا وقد كانت المرة الأولى بالنسبة لي :
معقول تيجي باريس وتتحبسي في مكتب وما تشوفيهاش بالليل؟
قلت بلطف معتذرة:
اليوم كان مهلك وخلاص عاوزة أروح أنام عشان طيارتي بكرة الصبح بدري.
قاطعني ضاحكا:
خلاص يبقى نروح الفندق تاخدي شنطتك ونخرج نسهر طول الليل وأوصلك المطار الصبح.
ثم أكمل بنفس الأسلوب المرح :
وابقي نامي في الطيارة.. النوم كتير لكن باريس مش كل يوم.

ركبت بجواره في سيارته الاسبور السوداء الشبابية الأنيقة، انطلق بي لا أعرف إلى أين لكني كنت مستمتعة بفكرة خوض تجربة غير عادية ليست من تخطيطي. ضغط على جهاز الموسيقى بالسيارة وإذا بشارل أزنافور يغني أغنيته الشهيرة "لابوهيم" وهي واحدة من أجمل أغانيه، استرخيت في مقعدي ورحت أتطلع نحو المحال التجارية والمقاهي المضيئة. بدأت قطرات مطر خفيفة تظهر على زجاج السيارة.. ثم اشتد هطول المطر فأوقف السيارة وطلب مني النزول منها.. فنظرت له بشك في مدى جديته فيما يقول:
انت مجنون ؟ أنزل فين الدنيا بتمطر.
انزلي بس دي متعة من غير حدود.
سحبني من يدي وجرى في الشارع وأنا أجري معه غير مصدقة أني أفعل مثل تلك الأفعال الصبيانية.. تناولنا الآيسكريم وتشاجر هو مع بعض السكارى وضحكنا من أعماق قلوبنا، ألصقنا وجهينا بزجاج أحد المطاعم ولوثناه ببخار أنفاسنا، ذهبنا إلى كنيسة الساكركير وجلسنا مع باقي الشباب فوق سلالمها نراقب المدينة من أعلى.
كنت أقاوم رغبة شديدة في أن أدفن وجهي في صدره لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة، فقد خشيت أن يفهمني بشكل خاطيء، لا سيّما أنه كانت لديه شخصية جامحة مجنونة راغبة في تحطيم كل المسلمات.
ثم وفي امتداد لحالة الانسجام والفضفضة، حكى لي عن علاقة أقامها مع زميل يعمل معه في نفس الشركة واصفا مشاعر الحب التي يكنها له وسط ذهولي وصمتي الذي آثرت أن ألتزم به حتى لا يصدمه انزعاجي ويتوقف عن الحكي، فقد كنت سعيدة بثقته بي وارتياحه لصداقتي.
ظل على هذا النحو يقص علي باستفاضة تفاصيل علاقتهما العاطفية دون كلل حتى استقبلنا خطوط الفجر الأولى ومازلنا جالسين على سلالم الكاتدرائية العريقة وحكاياته لا تنتهي كعاشق لا يمل الحديث عن معشوقته.
أوصلني للمطار وظل لسنوات يراسلني ويحكي لي عن مشاكله مع صديقه، سافرت أنا بعدها إلى فرنسا عدة مرات لكنني أقمت في مدن أخرى غير باريس، وكنت أتصل به تليفونيا دون أن ألتقي به. يحكي لي عبر الهاتف تفاصيل أخباره مع " أندريه "، عن الرحلات والمشاجرات والحب والمغامرات .. كنت أحسده لكني لم أبح له أبداً بهذا الشعور. ثم انقطعت أخباره عني وتوقف عن مراسلتي وانشغلت أنا في عملي وحياتي ونسيت أمره. حتى التقينا هذا اللقاء الأخير.


نظرت في عينيه أتأمل وجهه والملامح التي نضجت، ثم سألته السؤال الذي يتوقع أن أوجهه له وكنت قد أجلْت طرحه خشية أن يلتحق بحديثنا أحد الزملاء، وأنا أعرف هاني فسوف يسترسل دون أن يهتم برأي الآخر:
أخبارك إيه ؟ وفين أندريه ؟ ما شوفتوش النهاردة مع المدعوين.
رد بحزن حقيقي :
أنا كويس .. بس انا وأندريه افترقنا من حوالي سنة.
ليه ؟
قال ومازالت علامات الحزن والشرود تكسو وجهه :
غيّار جدا لدرجة مربكة، كان ممكن يفضل يتخانق معايا طول النهار لدرجة تأثر عليا وماقدرش أشتغل. ما قدرتش أستحمل فقررنا أننا ننفصل. أنا بدونه ضايع لكن الحياة معاه تحولت إلى جحيم وكان لازم نبعد.

بدأوا بتقديم القهوة وتسللت رائحتها إلى أنفي وتسربت أيضا إلى أسماعنا آتية من القاعة موسيقى " لابوهيم" وصوت شارل أزنافور الأثيري.. رق قلبي وشردت ببصري أتامل منظر النافورة في حديقة المكان. أحسست بقشعريرة تدب في أوصالي بفعل برودة الليل وقطرات المطر الخفيف. وددت لو أرتمي بين ذراعيه وأدفن وجهي في صدره لكنه كان حزيناً هشاً شارداً بما يكفي لإطفاء رغبته القديمة الجامحة في تحطيم كل المسلمات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب