الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بريطانيا الاستعمارية: تدمير الكيانية الفلسطينة لصالح الصهيونية

خالد الحروب

2017 / 12 / 31
القضية الفلسطينية


تحكمت في فلسطين ومصيرها في حقبة الاستعمار العسكري البريطاني التي بدأت سنة 1917 ثلاثة سياقات دولية ثقيلة الوطأة والتأثير على الواقع الفلسطيني وقلصت هوامش الحركة إلى الحد الأدنى. السياق الاول هو سياق التوافق الدولي عبر صك الإنتداب الذي اصدرته "عصبة الأمم" في تموز 1922 والذي اعتبر ان مسؤولية بريطاينا في فلسطين تتمثل في تسهيل إقامة وطن دولي لليهود (نسخاً عن تصريح بلفور سيء الصيت عام 1917). وهذا معناه ان الدول الكبرى أنذاك، وأهمها المنتصرة في الحرب العالمية الاولى: بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، روسيا، تقف بقوة خلف المشروع الصهيوني. السياق الثاني المُتصل بالأول عضوياً هو تصدي بريطانيا "بإخلاص" لتنفيذ تصريح بلفور والإعلان علانية ان تنفيذ التصريح هو السياسة والهدف المُحددين لغايات الإنتداب البريطاني في فلسطين بحسب صك الانتداب المذكور. أي ان الوظيفة المناطة في بريطانيا كدولة منتدبة على فلسطين هي تسهيل اقامة وطن قومي لليهود فيها. والسياق الثالث اقليمي ويتمثل في الهشاشة العربية التي رافقت حقبة الاحتلال البريطاني لفلسطين، حيث كانت اغلب البلدان العربية خاضعة إما للإستعمار البريطاني نفسه او الفرنسي، والمستقلة او شبه المستقلة منها كانت ضعيفة بنيويا وتواجه تحديات البناء والاستقلال. ولم تتوقف هشاشة الوضع العربي عند درجة عدم تقديم اي اسناد حقيقي للفلسطينيين، بل تجاوزته إلى ما هو ابعد إذ تم توظيفها والتلاعب بها ضد الكيانية الفلسطينية وخاصة مع الحكم الهاشمي الناشيء في شرق الاردن، والطامح لضم نصف فلسطين إلى اراضيه (الضفة الغربية والقدس).

على ذلك، ومن منظور موضوعي بحت يأخذ هذه السياقات الثلاث بالإعتبار يتبدى لنا ضيق هامش العمل والمناورة وانخفاض سقف النضال امام الحركة الوطنية الفلسطينية الضعيفة اصلاً، والتي وجدت نفسها في مواجهة مشروع كولونيالي عالمي الصبغة ومؤيد من الدول الكبرى بحماسة. ولم يكن بمقدور قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية واحزابها وتجمعاتها ومناضليها إيقاف المشروع الاستعماري البريطاني الصهيوني المُدجج بالتأييد الدولي، وبالإمكانيات الاقتصادية والعسكرية والمؤسساتية البريطانية، وبالخبرة اليهودية العالمية، والإسناد الامريكي المتصاعد بحدة منذ اوائل الاربعينيات. حتى لو امتلك الفلسطينيون آنذاك افضل القيادات السياسية الممكنة واستطاعوا تجاوز خلافاتهم كلها لما تمكنوا من كبح جماح المؤامرة الهائلة التي كانت اكبر من قدراتهم وقدرات اخوانهم العرب المجاورين لهم ايضا. فالمشروع الصهيوني كان آنذاك قد تحول مع دعم "عصبة الامم" له إلى مشروع اممي مدعوم من الدول التي انتصرت في الحرب الكونية الاولى، فكيف يمكن لأي قوى محلية ضعيفة ولا تتمتع بأي دعم دولي او إقليمي من إيقاف المد الهائل لذلك المشروع؟ ولا يعني هذا ابداً ايجاد مسوغات لسوء إدارة القيادات والحركات الفلسطينية في تلك المرحلة، ولا التساهل في محاكمة تلكؤها المتكرر في إلتقاط جوهر الصراع آنذاك، وكون بريطانيا هي العدو الاول والجذر المؤسس لنمو ونجاح الصهيونية في فلسطين. كما لا تبرر تلك المُحددات السياقية تواصل الإنقسام داخل الحركة الوطنية وفشو العائلية والمصلحية والإنتهازية وامراض اخرى عديدة. لك الشيء المرير الذي يستوجب الإشارة هنا هو أن تلك المُحددات السياقية والضاغطة على العمل الوطني الفلسطيني ما تزال كما هي حتى هذه اللحظة. فهناك الدعم والتأييد الكبير الذي تحظى به إسرائيل من قبل الدول الكبرى، وقبل ذلك كله اصبح "المشروع الصهيوني" دولة ذات شرعية اممية تقف وراءها الامم المتحدة بإعترافها الباكر والرسمي بها، ثم هناك سياق الضعف العربي الإقليمي وهشاشته وخلافاته على امتداد عقود طويلة، وهي الخلافات التي وُظفت لإضعاف الوضع الفلسطيني وإنهاكه.
لكن كيف اشتغلت بريطانيا على تنفيذ تصريح بلفور و"إلزام" عصبة الامم لها بكونها الدولة المنتدبة على فلسطين بتسهيل اقامة وطن لليهود فيها؟ يمكن رصد، وبما تتيحه المساحة المتوفرة هنا، بعض الخطوط العريضة للسياسة البريطانية الاستعمارية في فلسطين التي لعبت دور القابلة القانونية في ولادة الدولة الصهيونية. وأهم ما يمكن الإشارة إليه ابتداءً هو تبني الإدارة البريطانية خلال ثلاثين سنة من احتلال فلسطين لسياستين متعاكستين تماماً في فلسطين: الاولى هي تدمير اي إحتمالات لنشوء اي كيانية وطنية فلسطينية، او قيادة فلسطينية وطنية موحدة، او اقتصاد وطني متمأسس ومستقل، او تعزيز الشعور الوطني الجمعي لدى الفلسطينيين وتبلوره بإتجاه التوق لإقامة دولة مُستقلة nation state. والسياسة الثانية هي دعم وتطوير ورعاية تأسيس البنى التحتية لإقامة دولة يهودية بما يعني ذلك تعزيز القيادة السياسية التمثيلية ومأسستها، وتكريس الإقتصاد القوي والمستقل، وبناء قوة عسكرية تشكل نواة الجيش الذي حارب العرب سنة 1948، وتسهيل الهجرة اليهودية من اجل خلق كتلة سكانية كبيرة تحمل عمليات البناء المؤسساتي الحثيث التي اشرفت عليها بريطانيا. وهكذا وبمعنى اوضح اشرف الاستعمار البريطاني على بناء حكومة داخل الحكومة الانتدابية، واقتصاد داخل إن لم يكن مستقبل عن اقتصاد الدولة المستعمرة، ونقل مفاتيح السيطرة على البلاد للحركة الصهيونية تدريجياً. وعلى صعيد الكيانية السياسية التمثيلية عملت الإدارة البريطانية على تعزيز ودعم مأسسة سياسية وقيادية وسط اليهود، والتعامل مع المنظمة الصهيونية العالمية (والوكالة اليهودية والمنظمتان عملياً اسمان لنفس التداخل المؤسساتي) بكونها الممثل الرسمي السياسي والشرعي ل "الشعب اليهودي في فلسطين"، في الوقت الذي رفض فيه تشرشل مقابلة الوفد الفلسطيني في لندن في اوائل العشرينيات بكونه يمثل عرب فلسطين، وقبل الجلوس معهم بصفتهم الشخصية فقط.

ولأن الهجرة اليهودية كانت هي الركن الاساسي لكل المشروع الصهيوني وتوقف على نجاحها ودوام تدفقها إلى فلسطين نجاح وفشل المشروع برمته، فإن بريطانيا لم تؤل جهدا في تسهيل تلك الهجرة (وايضا بحسب ما نص عليه صك الانتداب الاممي!). ولأن بريطانيا كانت تعلم ان الغضب الفلسطيني والعربي يتصاعد بسبب قدوم هؤلاء الغرباء إلى البلاد، فقد اتبعت القادة البريطانيون سياسة كسب الوقت من خلال الطلب من القيادات الفلسطينية بالصبر والانتظار وبأن الحكومة في لندن تنظر في مطالبهم وشكاواهم. أما على الارض فقد عملت بريطانيا بجدية على تأمين زيادة عددية لليهود عبر الهجرة وبناء الكيانية السياسية والاقتصادية للمشروع الصهيوني.
في ذات الوقت وعلى الصعيد الفلسطيني اتبع البريطانيون سياسة "فرق تسد" الاستعمارية بحذافيرها، وقاموا بتغذية الصراع بين القوى الفلسطينية المُتنافسة، كتلة "الحسيني" وكتلة "النشاشيبيي". وقد تجسد ذلك منذ انتخابات منصب مفتي القدس عام 1921 واختيار المندوب السامي البريطاني للحاج امين الحسيني ليخلف كامل الحسيني بعد وفاته. وكان الشيخ حسام الدين جار الله، مرشح "النشاشبة" قد فاز بأعلى الاصوات. لكن الإدارة البريطانية ارادت تعزيز اقطاب متنافسة في الساحة الفلسطينية، خاصة وان رئاسة البلدية كانت بيد راغب النشاشيبي رئيس الكتلة النشاشيبية عملياً. ليس هذا فحسب بل قامت الادارة الاستعمارية بتوظيف القيادات الفلسطينية المعتدلة لإمتصاص الغضب الشعبي ومطالبتهم تهدئة الثائرين في كل حقبة انتفاضية عبر تقديم الوعود الفارغة بأن الإدارة سوف تستمع لآرائهم وتحسن من الاوضاع، وحدث ذلك في ثورة يافا سنة 1921 وهبة البراق 1929 وكذلك في ثورة واضراب سنة 1936. وقد ادى ذلك الى خلق شرخ عميق بين تلك القيادات والمزاج الشعبي الغاضب.
وبهدف الإبقاء على سقف النضال والمطالبات الفلسطينية منخفضا فقد عملت بريطانيا على معاقبة القيادات الفلسطينية المعتدلة في حال غيرت من مواقفها واستراتيجياتها كما حدث مع الحاج امين الحسيني بعد عزله من مناصبه ومطاردته ثم هربه إلى خارج فلسطين سنة 1937. ونفي اخرين إلى جزر سيشل، واعتقال اخرين. وفي نفس الوقت توظيف واستدعاء هذه القيادات وقت الحاجة كما حدث في مؤتمر لندن سنة 1939 واستدعاء المنفيين في سيشل لخلق تمثيل فلسطيني يعطي شرعية لأي اتفاق محتمل. وقد واجهت بريطانيا مشكلة تشكيل وفد فلسطيني للمؤتمر حيث لم تقبل بوجود امين الحسيني، كما ان جمال الحسيني الرجل الثاني بعد امين الحسيني كان مبعدأ في روديسيا.

برغم وضوح السياسة البريطانية الاستعمارية وعدائها للعرب والفلسطينيين واشرافها اللصيق على إقامة المشروع الصهيوني فقد ظل الإنقسام والإرتباك بشأن الموقف من بريطانيا احد ابرز الخلافات بين القيادات الفلسطينية آنذاك. دار السؤال المركزي حول اعتبار بريطانيا عدوا محتلا ويمثل خطرا على فلسطين يوازي خطر الحركة الصهيونية أم اعتبارها خطراً مؤجلاً بالإمكان تحييده مؤقتا والتفرغ لمواجهة الصهيونية؟ وينبني على ذلك هذا السؤال واجابته توجيه النضال ضد الصهيونية وبريطانيا معاً، او ضد الصهيونية وحدها واعتبار الإدارة البريطانية الاستعمارية طرفا محايداً او ليس عدوا. كان التقدير العام للقيادات الفلسطينية التقليدية والمدينية صعوبة خوض معركة ضد الخطرين في آن معاً، ويمكن ان نفهم (وليس بالضرورة ان نقبل) هذا التقدير إذا استدعينا المُحددات والظروف السياقية الدولية والاقليمية الضاغطة المُشار إليها اعلاه. لكن تبقى الإشارة إلى المُقارنة المريرة مع الوضع الفلسطيني الحالي التي تفيدنا بأن إنقسام وإرتباك حقبة العشرينات ظل عاملاً مُشتتا للنضال الفلسطيني لجهة إعتبار الغرب المؤيد والداعم لإسرائيل، وخاصة الولايات المتحدة، عدوا للفلسطينين ام طرفاً يمكن تحييده ولو جزئياً. وتجدد هذا السؤال الصعب بأوضح تجلياته مع اعلان ترامب القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.

** جزء من ورقة قُدمت لمؤتمر "مائة عام على "تصريح بلفور"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومعهد عصام فارس، الجامعة الامريكية، بيروت 13 و14 ديسمبر 2017

Email: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت