الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شمولية التحرر استجابةً لتحدي شمولية الاستبداد

محمد بن زكري

2018 / 1 / 1
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


المجتمع الذكوري ، بطبيعة علاقاته الداخلية (التراتبية) غير المتكافئة ، وبحكم بنيته الثقافية البطريَركية المحافظة ، وتاريخه المتناسخ خارج قانون وحدة و صراع الأضداد ؛ هو مجتمع استبدادي ومتخلف ، بما هو مجتمع طبقي ، تقوم العلاقات الاجتماعية / الاقتصادية فيه ، على أساس تفاوت هائل في حجم القوة بين : المهيمن و الخاضع ، فهو مجتمع منقسم رأسيا و أفقيا ، على خلفية الفرز الاجتماعي الحاد ، ما بين الأعلى و الأدنى ، و ما بين السيد و المسود ، و ما بين المستغِل (بالكسر) و المستغَل (بالفتح) . و من الثابت تاريخيا أنه على مختلف درجات سلم الترتيب و التمايز الطبقي ، تقع النساء دائما ضحايا التسلط الذكوري ، بفعل آليات توزيع العمل و تقسيم الأدوار - اقتصاديا و اجتماعيا - بين الأقوى و الأضعف ، كثقافة سائدة . و لا زالت بقايا ثقافة المجتمع الذكوري عالقة بالذاكرة الجمعية للجنس البشري ، حتى في أكثر المجتمعات الأوربية تقدما و تحضرا ، و لعل أكثر ملامح تلك الثقافة التمييزية بروزا ، هو ما نلمسه في سلوكيات التحرش الجنسي بالنساء .
إنه مجتمع استبدادي ، لأن العلاقات فيه تنبني على أساس ثنائية المتسلط / المقهور ؛ حيث إن الحاكم يستبد بالشعب ، فيتسلط عليه بفائض قوة جهاز الدولة ، ويقهره سياسيا باسم الديمقراطية . وصاحب العمل - أو المدير - يستبد بالموظفين و يهيمن عليهم ، بقوة القانون (و ليس من قانون محايد) . والزوج يستبد بالزوجة ، و يُخضعها لإرادته و رغباته ، بقوة تأثير الأحافير الأسطورية . والأب يستبد بالأبناء ، و يمارس عليهم القهر - الذي يأخذ شكل التكييف التربوي - المادي و المعنوي ، بقوة طقوسية الامتثال . أما الاستبداد الأكبر ، فهو الذي يقع على الأنثى في المجتمع الذكوري ؛ حيث تكون الأنثى هدفا لممارسات القهر - في شتى صوره - من طرف كل الذكور مجتمعين .. ومن طرف الدولة و المجتمع و العرف و القانون و الموروث الديني .
و هو مجتمع متخلف بالضرورة ، لأن كل شيء فيه محكوم بمرجعية ثقافة أحفورية ماضوية ، هي نتاج فكر خرافي ، كانت قد أفرزته ظروف عصور غابرة ، من بدائية حياة الإنسان وطفولة العقل البشري . حتى إن المجتمع الذكوري (الأبوي) في القرن الواحد والعشرين ، كثيرا ما يتكشف عن أنه ليس غير امتداد – خارج التاريخ – لمجتمع القبيلة البدائية في الأدغال والكهوف ، إبّان أزمنة ما قبل بزوغ فجر الحضارات البشرية ، عندما كان رئيس القبيلة (الذكر) ، هو في ذات الوقت زعيمها صاحب الكلمة الفصل في تنظيم العلاقات داخلها ، وهو قائدها في النزاع مع القبائل الأخرى ، وهو كاهنها الأكبر المؤتمن على أسرارها وطقوسها الدينية ، بمساعدة مجموعة من الكهنة / السحرة (الذكور) . وعندما يموت رئيس القبيلة (الأب الروحي) ، يتحول إلى طوطم من طواطمها المعبودة . وفي هذا الواقع المجتمعي المسكون عقائديا بخزعبلات الخيال الأسطوري ، ليس من أهمية أو دور للمرأة في واقع ومنظور المجتمع الذكوري – بما هو مجتمع متخلف – إلا ارتباطا شرطيا بوظيفتها البيولوجية ، كأداة إمتاع و تفريخ ، أو وظيفتها الاجتماعية المكرسة لخدمة الرجل و تعزيز فوقيته العلائقية ، محكومة في ذلك بشروطِ دونيةٍ عدميةٍ شمولية ، تنتزعها من ذاتها الإنسانية ، و تجردها من العقل و الضمير ، و تحيلها إلى كائن مستلب ، يستبطن دونية وضعه الاجتماعي المؤسطرة .
و ليس بخافٍ أنه في زمن ما يسمى (القرية الكونية) ، و بالرغم من الانجازات المذهلة لتكنولوجيا الاتصالات ، و على مسافة 69 عاما من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، و بعد مرور 38 عاما على إقرار اتفاقية سيداو ، لا زالت التقارير تنقل إلينا معلومات و أرقاما مرعبة عن مختلف أشكال التمييز ضد النساء ، و لا زلنا نجد أن مجتمع الاستبداد الذكوري عموما ، و مجتمع الاستبداد الشرقي على وجه الخصوص ، لا يتعامل مع المرأة كإنسان كامل الأهلية (بما هي إنسان أنثى) ، و لا يسلّم لها بالمقدرة على التميُّز و الإبداع ، و لا يقبل بها في الممارسة السياسة الفعلية على مستوى اتخاذ القرار ، إلا بشرط أن تتخلى عن أنوثتها ، وتتحول إلى كائن بشريّ ممسوخ ، لا هو أنثى ولا هو ذكر ، أي أنّ على المرأة أن (تسترجل) ، حتى يقبل بها المجتمع الذكوري كإنسان مساوٍ للرجل ، فالمرأة في منظومة ثقافة المجتمع البطريركي ، و في لا وعي الرجل (و في وعيه أيضا) ؛ كلما كانت أوفر حظا من الأنوثة و جمال التكوين الأنثوي ، كلما كانت أقل نصيبا من العقل و القدرات الذهنية و الإمكانات الإبداعية ؛ بما يبرر دونية وضعها ، كسمة لصيقة بطبيعتها المؤنثة ، و يعقلن لاعقلانية اختزال كيانها في البعد الجنسي لجسدها ، كأداة لإمتاع الرجل و القيام بوظيفة الإنجاب .
ولأن دونية المرأة في المجتمع البطريركي ، هي دونيّةٌ شمولية لا إنسانية مفروضة عليها من الخارج ، و لأن القهر الذي يمارس عليها جندريا ، هو قهر شمولي لا إنساني ، فإن نضال طلائع حركة تحرر المرأة ، يتوجب أن يكون نضالا ثوريا شموليا ؛ يرتفع في رؤيته النظرية ، وفي مقاربته الفكرية التحليلية لمعطيات الواقع ، وفي أدائه العملي على الأرض ، إلى مستوى شمولية القهر وشمولية الإلغاء وشمولية العذابات ، التي عانت وتعاني منها المرأة ، كإنسان مستلب ، مقهور ، ومغترب - قسرا - عن إنسانيته . وإن الأغلال الشمولية التي تكبل المرأة ، لا يمكن التحرر منها إلا بشموليةِ حركةِ نضالٍ ثوري - للتغيير الجذري - على الصعد كافة .. فكريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ؛ تقدماً باتجاه صاعد ، و بوتائر متسارعة ، إلى غايةِ شموليةِ تحرر المرأة ، الذي هو في العمق والجوهر تحرر للمجتمع كله و للإنسانية بأسرها ، من مظالم شمولية الاستبداد ، المؤسس تاريخيا على شمولية القهر الطبقي و الجندري و شمولية الثقافة البطريركية .
لِذا فإن المرأة أولا و الرجل ثانيا ، و خاصة في المجتمعات المتخلفة ، بحاجة ماسة إلى ثورة اجتماعية / ثقافية شمولية الوعي التحرريّ ، تأسيسا على منطلقات تغيير بنية التكوين المعرفي ، و تحديث طرق التفكير ، و تفعيل العقل النقدي ، وصولا إلى وعي جدلية و اتجاه حركة التاريخ . و هي ثورة (فكرية) ، لا بد أن تشكل حركتُها التغييرية قطيعة نقدية مع ركام ميراث العقل الخرافي ، ليتحرر الفكر الإنساني من أثقال يقينية أحافير ميتافيزياء التعويض الإيهامي للمعذبين في الأرض ، تعلقا بتخييلات اليوتوبيا أو طمعا بملذات الماخور السماوي . و هي حركة تغيير تاريخي ، تهدف إلى التحرر من شمولية الثقافة البطريركة ، و تستمد طاقتها الدافعة من وعي النساء بالأساس المادي و الثقافي لدونية وضعهن الاجتماعي . و المرأة هي مَن عليها أن تتقدم صفوف هذه الثورة ، ففي عصر استبداد راس المال المعولم (عولمة النمط الراسمالي) ، ليس مِن تحرر إنساني حقيقي ، إلا بتحرر النساء من سلطة الاستبداد الذكوري ، و ليس من حرية أو كرامة للمرأة إلا بوعيها لذاتها ، ككينونة إنسانية غير مشروطة الاستقلالية ، و سيطرتها عقلانيا على مصيرها ، و امتلاكها المطلق لحرية ضميرها و حرية التصرف بجسدها ، بمعزل عن أي إكراه مادي أو معنوي .
و عندما نذهب إلى القول بأن الثورة القادمة - بالمفهوم التقدمي للثورة - ستكون النساء بالضرورة في مقدمة طلائعها النضالية ، فإن ذلك - فيما نرى - ليس من قبيل الأحلام الطوباوية أو تهويمات الطفولة اليسارية ، بل لأن الظروف اللا إنسانية ، التي تعاني منها المرأة ، كمواطِنة و كأنثى و كإنسان مقهور ، هي الأسوأ و الأقسى على وجه الإطلاق ، و لا بد لهذا الواقع من أن ينتج نقيضه ، هذا أولا . و ثانيا لأن كل المؤشرات تدل على أن نسبة الوعي عند النساء (الوعي بالأساس المادي و الثقافي لدونية وضعهن) ، تبدو أكثر ارتفاعا مما هي عليه لدى الرجال . و من ثم فإن المرأة مرشحة (تاريخيا) لقيادة ثورة فكرية ثقافية اجتماعية قادمة ، للتحرر الإنساني ؛ هي في جوهرها ثورة العدالة الاجتماعية / الاقتصادية ، و ثورة المساواة الجندرية ، و القضاء على كل أشكال التمييز ضد النساء . على أننا ندرك أنه فيما عدا الحالات الفردية المتقدمة أو إرهاصات الحالات الجماعية هنا أو هناك ، كحالات لها دلالتها الإيجابية الواعدة ؛ فإن الثورة - بهذه الرؤية - لا تبدو مدرجة على جدول أعمال حركة التحرر النسوي العالمية في المدى المنظور ، لكنها تظل احتمالا واردا عندما تنضج ظروفها الموضوعية في مجتمع ما ، و تظل أفقا مفتوحا للنضال و انتزاع المكاسب و الانتصارات ، باتجاه موعد مع التاريخ لاستحقاق شمولية التحرر، استجابة لتحدي شمولية الاستبداد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ