الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق: تصادم القبيلة والأصولية الوافدة

فالح عبد الجبار

2006 / 3 / 2
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


يبدو أن شيخ القبيلة، التقليدي أو المحدث، يتجه حثيثاً الى المجابهة مع الأصولي المحارب، في عراق ما بعد الغزو، وبتحديد أدق في محافظة الأنبار، التي كانت تعرف أيضاً باسم قبيلتها «الأرأس الدليم».
يبدو التصادم وليد اللحظة. فمنذ فترة ومحافظة الأنبار تختبر سلسلة من التوترات بين الأصولي الوافد، ممثلاً بالزرقاوي وتنظيمه «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، وبين جماعات قبلية محلية تنحدر من شتى أفخاذ عشيرة الدليم، المتشعبة والواسعة.
وكانت هذه الصدامات تبدأ على مستوى الأحياء السكنية الصغيرة، بفرض طراز عيش معين، ولباس معين، وسلوك معين على الأهالي، ابتداء من خلع الصحون اللاقطة (هوائيات التلفزيون)، وجلد معاقري الخمر (حتى كانت جعة خالية من الكحول – ما يسمى «ماء الشعير») واعدام الحلاقين الخارجين على الزيّ الموحد.
وبدت الأصولية، في جانب منها، متوافقة مع الروح المحلية المحافظة أصلاً، وإن كانت تبدي غلوّاً وصرامة، بل قسوة، في التطبيق. وبقي التوتر بين مجتمع شبه قبلي محافظ وجماعة غالية محصوراً في النطاق الأخلاقي لسلوك الفرد وسط الجماعة: لباسه وشرابه وتصرفاته. وبقي أثر هذا التوتر ضيقاً إزاء المصلحة الأوسع التي جمعت الاثنين.
الأصولي الوافد كان في حاجة الى قاعدة محلية تمده بالمعرفة التفصيلية: معابر التهريب الحدودية، أوكار الاختباء، مواقع القوات الأميركية، وما شاكل. فالقادم من وراء الحدود سيظل أبكم وأصم وأعمى من دون هذا السند المحلي. في المقابل، كان المجتمع المحلي يفيد من الدعم المالي واللوجستي الذي يقدمه الأصولي الوافد، من أجل تعديل موازين قوى أدت الى تهميش هذه المناطق.
في لحظة من لحظات هذا التوافق، بدت الفلوجة، مثلاً، جمهورية طالبان مصغرة، مثلما كانت عسكرياً، بؤرة عنف لا يستكين. غير ان صقل التوترات أخذ يتسع بغتة، حين قررت جماعة القاعدة الانعطاف بتكتيكاتها الى اشعال فتيل حرب طائفية، واستهداف كل ما يمت الى الشيعة بصلة (على الهوية). وعلى رغم أن الأنبار محافظة سنية - عربية خالصة، لا تعرف داخل حدودها أي توتر إثني أو طائفي، فقد استقبلت، بعد الغزو، آلاف العوائل الشيعية من الجنوب تنتمي الى الحزب الحاكم سابقاً (يقدر عددها بنحو 30 ألفاًَ في عموم المناطق السنية الى الشمال من بغداد)، لكنها كانت جزءاً من حركة الاعتراض المسلح. وحوّلت القاعدة جزءاً من سلاحها الى هذه العوائل، مندفعة بعصبوية خانقة الى التصفية الجسدية لهؤلاء «الروافض». وبذا اندلع أول توتر داخلي، وتوسعت رقعة التوتر بتوسيع حرب القاعدة التي طاولت المواكب الدينية (في عاشوراء)، والكنائس، في شكل عشوائي أفقد العمل المسلح مظهره السابق (معاداة الاحتلال) وأنزله الى درك عنف سقيم يكاد لا يتميز عن الإجرام.
على السطح بدت الاحتكاكات بين المجتمع المحلي، وبخاصة العشائر، والأصوليين الوافدين، نابعة من تباين في القيم، وفي التكتيكات العسكرية. وعلى رغم أهمية، بل خطورة هذه الاختلافات، فإن التوترات تضرب جذورها في أعمق من ذلك.
الأصولية الوافدة في جوهرها بنيان تنظيمي وأيديولوجي جامح، عابر للجغرافيا والأقوام والأمم. أركانه بسيطة، وعالمه مختزل يقوم على نقاء عقائدي كوني لا وجود له إلا وسط جماعات صغيرة معزولة، مثلما يقوم على انضباط صارم يربأ بأية ولاءات أخرى (للقبيلة أو للمدينة أو للوطن)، ويقوم على ثنوية أخلاقية تشطر الكون شطراً مانوياً الى خير مطلق، وشرّ مطلق، ويرتكز على تكتيك واحد وحيد: حرب دائمة حتى الموت.
في المقابل، يتسم مجتمع الأنبار، المحافظ، القبلي الطابع، بسمات تضعه خارج مدارك هذه الأصولية. فهذا المجتمع يتميز، محلياً، بتضافر ثلاثة عناصر اجتماعية – سياسية، يمكن ايجازها بالعروبة والقبيلة والاسلام، وهي عناصر متداخلة، متشابكة، تضفي على الأنبار وضعاً خاصاً.
النزعة العروبية في هذه المحافظة ليست نخبوية (على مستوى القيادة) بل اجتماعية عامة. فالأنبار عانت لحظة الانتقال من الدولة العثمانية الى الدولة الوطنية (القطرية بلغة العروبيين) التي فصلت هذه المنطقة عن محيطها الشامي والأردني، وقطعت بالتالي روابطها التجارية والقبلية مع هذا المحيط. لا غرابة في أن يتحدر كثرة من زعماء الحركات القومية العربية من هذه المحافظة تحديداً، أو أن تكون موئلاً لأشد نزعات الوحدة الاندماجية مع المحيط العربي. وتمتاز الأنبار أيضاً بالروح الاسلامية المحافظة، التي تضرب جذورها في تحدر الدليم، في الأصل، من نجد، وتأثرها بالحمية الدينية. فهي موئل أهم عائلة دينية سنية (الألوسي) التي استوطنت تكريت وبغداد في ما بعد، وقدمت زعامات بارزة، مثل أبو الثناء الألوسي ومحمود شكري الألوسي وغيرهما. وبالفعل تعد مساهمة الأنبار في الحركات الاسلامية السنية مهمة بل حاسمة، حيث تنحدر كثرة من قيادات هذه الحركة منها.
لكن النزعتين العروبية والاسلامية تتداخلان مع البيئة القبلية المحلية تداخلاً لا فكاك منه. لقد كانت قبيلة الدليم وهي القبيلة الأكبر في هذه المحافظة (الى جانب قبائل أخرى: زوبع، الجنابيين) حتى آخر القبائل العراقية التي استسلمت لضغوط التوطين، والانتقال من الاقتصاد الرعوي الى الزراعة المستقرة. ولما فقد اقتصادها الزراعي – الحِرفي أهميته المركزية، تحولت الأنبار (شأن محافظات كثيرة) الى الخدمة الحكومية والعقود الحكومية. وعلى رغم ان سكان المحافظة يؤلفون 5 في المئة من نفوس العراق، كان لهم رئيسان للجمهورية (من مجموع 4 رؤساء)، وعدد كبير من رؤساء الوزارات في العهد الجمهوري، بل سادوا سيادة تامة في عهد الأخوين عارف (1963 – 1968). وفي عهد البعث، توسعت مشاركة الأنبار في المؤسسة العسكرية، مثلما توسعت مشاركتها في طبقة رجال الأعمال الجدد اعتماداً على مقاولات دولة مترعة بالنفط.
واجهت الأنبار بعد الغزو تهميشاً أو حرماناً لا يدانيه تهميش أو حرمان قياساً الى المحافظات الأخرى. الا انها لم تكن موحدة تماماً في خياراتها. يتضح ذلك جلياً من تفاوت مواقف نخبها الرئيسة الثلاث: زعماء القبائل (والبيوتات القبلية)، القادة العسكريين، وطبقة رجال الأعمال. وفي لجّة الصراع المسلح، طغت أهمية العسكر الذين تحولوا الى زعماء ميليشيات، مثلما طغت، ظاهرياً أو موقتاً، أهمية القوى الأصولية المسلحة.
وفي إزاء ما بدا أنه تهميش مستمر في اطار العملية السياسية الجارية (الانتخابات، الدستور)، تبلور وسط الأنباء ميل أقوى نحو العمل السياسي من دون التخلي عن العمل العسكري، بل اخضاع هذا الأخير لمتطلبات الأول. ولاحظ المراقبون، مثلاً، استتباب الهدوء في المنطقة أيام الاستفتاء على الدستور، وأيام الانتخابات البرلمانية الأخيرة (تشرين الأول/ أكتوبر وكانون الأول/ ديسمبر على التوالي). وبدا واضحاً ان القوة العسكرية للأصولية مرهونة تماماً بقرار المحيط المحلي، وليست قائمة بذاتها من حيث القرار والتوقيت. فالمجتمع المحلي لا يقاتل لكي يموت عن بكرة أبيه، بل يريد انتزاع أهداف سياسية، وتوسيع هامش التمثيل.
وبهذا المعنى يسير الطرفان، جل القوى المحلية، في جانب، والأصولية الوافدة، في جانب آخر، على طريقين متعارضين. هذا الطلاق سمح لقادة القبائل بالبروز مجدداً كقوة اجتماعية يحسب لها حساب.
ولزعماء القبائل في الدليم منابع متعددة للقوة، منها اقتصادية (بعضهم رجال أعمال، أو ملاك كبار) أو عسكرية (بعضهم يحمل رتباً عسكرية أو يتوافر على ميليشيا خاصة) أو قبلية (درجة تكاتف أبناء الفخذ، وعصبيتهم) أو سياسية (نفوذ هؤلاء في الدولة، من طريق التفاوض مثلاً) أو ايديولوجية (بعض زعماء القبائل بدعم قوى عروبية، أو اسلامية، أو مساندة وعاظ الجوامع).
وان تشابك العمل السياسي – العسكري، بالنسيج الاجتماعي القرابي يعطي رجال القبائل سلطة اجتماعية، أي مرجعية قيمية للتوسط، والتفاوض والتعبئة، لكنها لا تمنحهم سلطة قاهرة الى قوة القسر التي تحتاج الى وسائل عنف منظم. واذا كانت الأصولية الوافدة استسهلت قتل المعارضين أو المخالفين بالرأي في الأنبار، فإنها وقعت ضحية هذا الاستسهال، وهي اليوم تدفع ثمن تعدياتها على النسيج الاجتماعي وعلى المصالح التي يمثلها هذا النسيج، سواء في اطار الأنبار محلياً، أم في الاطار العراقي كله.
ويتلخص ذلك في تصريح زعيم قبيلة الكرابلة أخيراً الذي دان القاعدة، نازعاً عنها الشرعية، وواصماً اياها بالمروق بل بالارهاب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ