الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دكه خشبية متآكلة وسط عشبٍ جاف

هدى يونس

2018 / 1 / 6
الادب والفن


دكه خشبية متآكلة وسط عشبٍ جاف
هدى يونس

وسط حشائش جافة تخترق أرجل السائرين ..
تتحمل هي وخز إبرها مرتدية جيبه قصيرة وبلوزة حريرية ..
مواصلة السير حتى تجلس على دكه خشبية بعدها تخرج تنهيدة محتضرة ...
يتطاير شعرها الفضي المسترسل و يعابث بشرتها الملساء ..
تحاول وقف العبث وتجمعه بيديها الواهنتين شديدتي النظافة ..
بينما عيناها غارقتان في استرجاع أحداث .. وتترقب أحداثًا قادمة ..
بعدها تحرك رأسها في اتجاهات مختلفة تستطلع المكان ..
تقوم من جلستها متوجهة إلى مصدر ماء ضئيل ، تغسل يديها وتحكم تجفيفهما بما يتاح لها من
ملابسها بعد نفاد المناديل.
*******
جلستُ على دكه خشبية ممددة الأرجل في إنتظار إبنتي ..
المكان يخلو من الجالسين في ساعة الظهيرة الحارة ، تحركت الشمس في مواجهتي
إنسحبت ، وإحتميت بالظل الكائن والممتد من شجرة متشعبة على دكة آخري ..
غفوت تحت تأثير الهواء البارد الذي تلاحق على وجهي ..
سمعت حوارًا هادئًا وبأسلوب متحضر إنتبهت لوجودها ..
كانت تحكي وتشرح الأسباب مسترجعة أحداثًا تؤكد ما تقوله ولم يكن الطرف الآخر موجودًا ..
الحوار متشعب يشمل أفراد أسرة ، تأثير المناصب والمواقع الثقافية والاقتصادية ..
تردد بالفرنسية عبارات اعتذار - اعتراض - موافقة - تأكيد - مخاوف ..
انسحبتُ وتركتها لأن موعد إنتهاء دروس ابنتي قد قرب.
*******
بعد انقضاء شهور الصيف ..
رأيتها ترتدي ملابس شتوية أنيقة وشديدة النظافة وتضع كوفية حول رقبتها ..
المكان الوحيد الذي به الشمس هو الدكة التي تجلس عليها ، هربت من الهواء البارد وجلست ..
تزحزحت من مكانها ، إبتعدت أكثر عنها ، طلبت أن أقترب منها ومن مصدر الشمس جوارها ..
شكرتها وصمتُ ..
كانت تحرك رأسها ويديها بلا كلام وكأنها تستكمل حوارًا ..
بعدها تصله بحديث عبارة عن فترات صمت ..
سمعتها توجه كلامًا لي تسألنني عن أفضل الطرق لمواجهة البرد ..
ذكرت مشروبات عديدة وتواصل بيننا حديث في أمور مختلفة ، وتحليل لسلوكيات البشر ..
وعن التحول الذي ساد بين الأهل ، ونتواصل في أمور عشناها معًا ..
برغم الانتقال المفاجئ أحيانًا من أمور نفسية إلى مواقف شديدة الخصوصية ، تشركني معها
وكأنني عاصرتها ، أتمالك نفسي بسرعة وأتعايش معها .
طوال اللقاءات التي تمت بيننا من دون موعد، أترك لها الحرية الكاملة في الحديث أو الإمتناع.

*******
حضرت يومًا بعد أذان المغرب والبرد في أكثر حالات الانخفاض ..
قالت : ما حكمك علىَّ ؟ هل أخطأت ؟ .. لم أسألها عن ماذا ؟
وقلت : نحن البشر معرضون للخطأ والصواب وليس علينا عقاب الذات ، بل الإفادة والإستعداد لما
هو قادم ..
هزت رأسها مستحسنة الرد وصمتت..
بعدها : .. كنت أستغرق معظم يومي في مراقبة حوائط قذرة ممتلئة بالشقوق ، وتسكنها حشرات متنوعة اتخذتها بيوتًا ، أتابع تحركاتها وحصر شروخ السقف وقضبان النوافذ العالية ..
لم يكن بيتًا للمسنين ولكن لمن خالفوا عرف الواقع واستمروا على قيد الحياة ..
فتم الحكم عليهم بالنفي والإبعاد عن الناس ..
وإذا أمروا بالخروج من المكان لم يستطيعوا التوافق مع مجتمع قاسٍ لا يخلو من السخرية والفرجة
عليهم باعتبارهم مغتصبي حقوق آخرين ، ويعودوا ثانية بإختيارهم إلى سجنهم!!.
كنت أتأمل علاقاتهم ، يتهامسون ، يتضاحكون ، يتألمون ، يصرخون ، يتعاركون ، ويكون العقاب
بلا مغيث ..
عند ظهور ذوات الأردية البيضاء أتخيل دائمًا حجرة إعداد الموتى بالمستشفى التي
كنت أعالج فيها مرضاي .. وتصمت .
بعدها تتنهد وتواصل الكلام
: لا يجدون من يتعاطف ضد قسوة العقاب ، وبعد جلسات العقاب يأتي التحول ،
يحاورون أنفسهم ، وعند ارتفاع سقف الهوان يحاورون الله دون حواجز بينهم وبينه ،
.. أما أنا كنت أتوجه إليه بعد عقابي بشكواي ، وعند ازدياد الوجع أطلب منه أن يعيدني
إليه فهو الذي أوجدني .
تتأرجح الحقيقة وانفعالاتها ، وتداعياتها ، أحيانا تلفظ نارًا و أحيانًا أخرى نورًا.
حالات الصراع مستمرة ..
ورغم كل شئ لا يستطيعون البعد ..
كلما خرجوا عادوا ثانية إليه ..
وكأنه طلسم سحر خفي غامض لا يستطيعون له مقاومة.
وتركت هي المكان تبحث عن مصدر ماء لتغسل يديها..
ووضعتني داخل دوامة لا أعرف بدايتها ولا نهايتها ..
أراها على البعد تعبر جسور اليأس ، تصارع الإغتراب وتلازمها هواجس الوحدة!!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل


.. كلمة أخيرة - شركة معروفة طلبت مني ماتجوزش.. ياسمين علي تكشف




.. كلمة أخيرة - صدقي صخر بدأ بالغناء قبل التمثيل.. يا ترى بيحب