الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرطان البيروقراطية.. النمسا نموذجاً

كرم خليل

2018 / 1 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


نظرية الدواوينية أي "البيروقراطية" تعني نظام الحكم القائم، في دولة يشرف عليها ويوجهها ويديرها طبقة من كبار الموظفين، الحريصين على استمرار وبقاء نظام العمل، لارتباطه بمصالحهم الشخصية حتى يصبحوا جزءاً من نظام العمل، ويصبح نظام العمل جزءاً منهم.
يرافق البيروقراطية جملة من القواعد والسلوكيات وأنماط معينة من التدابير تتصف في الغالب بالتقييد الحرفي والشكلي للقانون والتشريعات، جاعلة البيروقراطية لب نظام العمل الاقتصادي والسياسي لعقلانية المجتمع، فينتج عن ذلك الروتين، وبهذا فهي تعتبر نقيضاً للنظام الحركي الخلاق، حيث تنتهي معها روح المبادرة والإبداع الخلاق، وتتلاشى فاعلية الاجتهاد المنتجة ويسير كل شيء في عجلة البيروقراطية وفق قوالب جاهزة تفتقر الى الحيوية.
العدو الخطير للمتغيرات الايجابية هي البيروقراطية، ومن المتعارف عليه في المجتمعات الدواوينية، هي الروتين الممل والإجراءات المعقدة التي ليس لها فائدة سوى تأخير المعاملات وتعقيدها، وهذا المفهوم بلا شك يعتبر مفهوماً للدلالة على الرجال الذين يجلسون خلف المكاتب ويمسكون بأيديهم بالسلطة في العمل وهي تشمل المؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص على حداً سواء.
نحن الآن نعيش في عصر تزداد فيه احتمالات القهر، الذي يتعرض له الأفراد من البيروقراطية، حتى فى ظل الدولة الديمقراطية. فإن قهرها للفرد أصبح الآن بعيد الصلة عن شكل الملكية، عامة أو خاصة.
كلنا الآن نواجه هذه الاحتمالات، ويبدو أنها تزداد مع مرور الزمن. ذلك أن من طبيعة الأمور، مع التقدم التكنولوجي، أن يكبر حجم المشروع، ومن ثم يزداد ما يتمتع به البيروقراطيين من سطوة، ويزداد عدد المتعرضين والمتضررين من هذه السطوة.
بعبارة أخرى، نحن نعيش الآن في عصر تزداد فيه أهمية مشكلة البيروقراطية، وتتراجع أمامها مشكلة ملكية المشروع. «الفرد فى مواجهة الإدارة» هذا فيما يبدو، المشكلة التى تحتل شيئا فشيئا مكان الصدارة فى حياتنا الاجتماعية، بعد أن كانت المشكلة طوال القرنين الماضيين هى مشكلة الانقسام الطبقي بين من يملكون ومن لا يملكون.
ان السلوك البيروقراطي يفتقر الى المرونة وهو دائم النزوع الى تحويل البيروقراطية من أداة ووسيلة الى غاية وهدف، وعلى هذا النحو تتم عملية استبدال الهدف ومن ثم يصبح الشكل أهم من الجوهر، وبذلك تتحول عملية التنظيم البيروقراطي الى غاية عقيمة في حد ذاتها، بدل أن تكون وسيلة ناجحة للوصول الى الأهداف المحددة، وعندها تكون النتيجة الوقوع فيما لا نهاية له من الأوراق والملفات والإجراءات، وتتحول الى روتين يعيق عمل المؤسسات وطبيعة عملها في المجتمعات ولدى الأفراد.
في هذا الصدد يقول مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق وباني معجزتها الاقتصادية «حررنا بلدنا من البيروقراطية. حتى أنه يمكن. خلال أربع وعشرين ساعة. لإحدى الولايات الماليزية أن تقرر إنشاء مصنع جديد. هل البيروقراطية سيئة السمعة لهذه الدرجة التي تستخدم فيها عبارة "حررنا" فهذه العبارة وأقصد "حررنا" و" تحرير" عادة مرتبطة بالاستعمار والعبودية والظلم.. إلخ.
ربما هناك عامل مشترك بين أحد صفات الإدارة البيروقراطية واستخدام عبارة (حررنا بلدنا) كما ورد آنفاً وهو المركزية. بمعنى أن السلطة الإدارية في كلتا الحالتين يكون مصدرها شخص واحد أو سياسةً واحدة وهي عكس الاستقلالية التي تعني «تمتع شاغلي الوظيفة بالحرية مع التصرف والقدرة على اتخاذ القرارات المرتبطة بوظيفة».
في إحدى المرات وأنا اشاهد إحدى الفضائيات الأجنبية، شخصان ضل دربهما في صحراء قاحلة مترامية الأطراف. وظلا يسيران حتى تمكن منهما الجوع والعطش والإرهاق الشديد فسقط أحدهما. غشياً عليه من شدة العطش بينما واصل الآخر سيره بصعوبة بالغة حتى شاهد مبنىً صغيراً وحاول أن يجمع ما تبقى له من قوة ليصل إلى ذاك المبنى, وسقط أمام الشخص الواقف على بابه وفتح فاه بشق الأنفس وهو يردد: أريد ماء, أرجوك بعض الماء! رفيقي سقط.. رد عليه الشخص الواقف أمام الباب: أسف إنك لا ترتدي ربطة عنق والنظام يشترط ذلك لدخول الفندق.
علق مقدم البرنامج على تلك الطرفة قائلاً: هل تعكس تلك الطرفة وجهاً من أوجه الإدارة البيروقراطية والمتمثلة في التصلب والافتقار إلى المرونة؟ إليك عزيزي القارئ هذا الموقف الذي حدث معي في دولة النمسا البيروقراطية، كنتُ ذاهباً بعد أن حصلت على تصديق وتوقيع ثلاثة من المسؤولين ولم يبق إلا توقيع المسؤول الأخير. لقد أمضيت ما يقارب الأربع ساعات وأنا اطوف من إدارة إلى إدارة وأخيراً وصلت غرفة الانتظار للحصول على التصديق الأخير.
جاء دوري ودخلت على المسؤول الذي بدأ في تفحص المستندات والتأكد من وجود التوقيعات اللازمة. رفع المسؤول رأسه وبابتسامة تنم عن انتصار وكأنه اكتشف شيئاً خطيراً لم يلتفت إليه أحد من قبله وقال: أرجو أن تراجع المسؤول السابق لأنه ختم المستندات ونسي التوقيع! ذهبت إلى المكتب السابق وانتظرت طويلاً حتى عاد المسؤول ووضع توقيعه. ثم أسرعت إلى مكتب المسؤول الأخير ولكني لم أجده. الأمر الذي اضطرني للعودة في اليوم التالي.
ربما دخلت دهاليز البيروقراطية دون أن أشعر، ففي اليوم التالي، تأخر ذلك المسؤول وعند استفساري عن امكانية تصديق الاوراق من قبل مسؤول آخر يحل محل ذاك الذي اضطر إلى التأخر. أجابتني السكرتيرة: كل الأمور في يد المسؤول الغائب. يمكنك أن تراجعنا في الغد. عبارة سهلة يتم تداولها ولكن ليتهم يعلمون وقعها على المراجع.
وربما نحن في حاجة في عصرنا هذا وهو عصر التكنولوجيا والسرعة إلى ما يعرف بـ «الحد من البيروقراطية De-bureaucratization» والذي يهدف – كما تقول المصادر الإدارية - إلى «التخفيف من العناصر الأساسية للبيروقراطية في التنظيم الإداري وذلك من خلال تطبيق درجات أقل من الرسمية أو المركزية أو التخصص. بحيث يكون الهدف من ذلك زيادة قدرة التنظيم على الاستجابة للمتغيرات البيئية» عزيزي القارئ هل عدنا إلى ما قاله باني المعجزة الاقتصادية لماليزيا، لنتحرر من سطوة البيروقراطية؟ في هذه الدول التي تعتبر نفسها متقدمة.
في مؤسسات العمل كثيرا ما نسمع عن المعاناة مع "البيروقراطية" التي تجعل الفرد مقيدًا بالقوانين واللوائح التي وضعت لضبط إيقاع العمل. الكثير من الحكومات دون الاوربية حاولت الحد من آثار البيروقراطية باستغلال التقنيات الحديثة وتقليص الخطوات التي يجب أن يقوم بها الفرد لإنجاز معاملاته. إلا أن روتين العمل الحكومي لا يزال يؤرق الكثيرين في عدة دول، وعلى رأسها النمسا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإمارات وروسيا.. تجارة في غفلة من الغرب؟ | المسائية


.. جندي إسرائيلي سابق: نتعمد قتل الأطفال وجيشنا يستهتر بحياة ال




.. قراءة عسكرية.. كتائب القسام توثق إطلاق صواريخ من جنوب لبنان


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. أزمة دبلوماسية متصاعدة بين برلين وموسكو بسبب مجموعة هاكرز رو