الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وطنٌ بلونِ ألسماء

سعد الشديدي

2006 / 3 / 2
الادب والفن


في هذا الركام الممتد من الموصل الى البصرة ابحث عن عراقي الذي تركته مسجىً في غرفة الأنعاش. مقتصراً في محاولةٍ اخيرة على ما اخزنه في مكتبة الذاكرة. ماراً بشوارع وساحات يجوبها الصبية بدشاديشهم المتسخة وبيجاماتهم المرقعة سراويلها دائماً في منطقة الركبة. عابراً ساحة الزهراء وشارع النواب في الكاظمية متأملاً بكسل لوحات الخطاط أميري ومتفقداً رفوف المكتبات التي تعج بالكتب القديمة التي تثير رائحتها شهوتي تماماً كما تفعل بي رائحة النساء. مجبراً نفسي على اختراق ساحة عدن متخطياً بحذر عشبها الأصفر المصاب بنقص ابدي في كريات الدم الخضراء. ادخل بستان الجلبي، بستان عبد الهادي جلبي كما تسميه امي، لا ادخله بالضبط فلم يبق من البستان الا اسمه وما تبقى منه لم يكن سوى طيفاً من اغصان البرتقال المثقلة بالقداح وما يتناثر عليه من قطرات مطرٍ اختلطت بالأسمنت والطابوق واصوات السيارات والباعة المتجولين.
واقفاً امام بوابة متوسطة خديجة الكبرى للبنات منتظراً خروج الفتاة التي منحت لون عينيها للسماء ورائحة جسدهاالنحيف للخبز الطازج. متسمراً في زاوية من الشارع ومختبأً بمهارة العصافير الشيوعية القلقة كي لا يراني رجل الأمن الذي يبحث عني منذ زمن. عابراً بخطواتٍ ثابتة ارض عراقي الذي منحته حياتي منذ تلك اللحظة التي وقفناعصام وسعدي وانا امام صورة يوسف سلمان وأقسمنا ألا نخون العراق. كم كان عمرنا آنذاك؟

مسرعاً الى دور الأدارة المحلية في الناصرية وباحثاً عن اطفال كانوا يلعبون في الساحة الصغيرة الملاصقة لدارنا والمقابلة للبهو الذي كان مايزال قيد البناء. واقفاً بذهول امام الكم الهائل من النستلة والحلوى الملفوفة بالسيلوفان المتألق في دكان سيد فاضل متمنياً ان احصل من ابي على 15 فلس لأشتري زجاجة بيبسي باردة جداً. عابراً جدار المدرسة المركزية لاداء مراسيم الزيارة المقدسة للجدارية التي رسمها معلم الرسم الأنيق دائماً وأبداً حيدر الجاسم. لا ادري لماذا كنت دائماً اتخيل ان ذلك الفارس الذي يريد الخروج من الجدارية متجهاً نحوي على حصانه الأشهب هو علي بن ابي طالب. ماراً بشوارع هادئة لا يثقل امسياتها سوى رياح السموم القادمة من اقصى الجنوب لأصلَ الى محلات سيد علي. اراقب لعب الأطفال المحفوظة وراء الزجاج والتي لا استطيع ان الامسها بيدي ولو للحظة.
لكنني كنت امشي وبخطوات راسخة في ارض أعرفها وتعرفني. تشعر بنبض الوريد وتشم رائحة انفاسي وتحثو على رأسها التراب الذي كنت امشي عليه تبركاً. فأنا ابنها وسليلها ومن سيبني بيته عليها يوماً ويدوس ترابها ليترك ورائه آثار عجلات سيارته الجديدة وشماً على صدرها واعلاناً عن انتصار صغيرٍ آخر يحرزه صغيرٌ آخر من صغارها.

مستعيناً بما لدي من صبر قليل اتكأ على سياج النهرالذي يخترق بعقوبة، النهر الذي كان اسمه يوماً: النهر الخراساني، والذي اسميناه نحن لسبب ما خريسان. منصتاً لصوت الماء وملتفعاً بالضباب الذي يتصاعد منه ومحترقاً مع لون هدهدٍ أخضر حطّ يوماً على شجرة الرّمان المقابلة للنهر. ايُّ مخلوقٍ سماوي هذا الذي جاء من قصص النبيين ليسلّم على مدينة اودعت روحها بين يدي الماء وجسدها لصمت البساتين؟
لكنه جاء ليطير بثقة الحكماء في فضاء وطنٍ اختارني ان اكون واحداً ممن اصطفاهم لنفسه.

جالساً في مشحوف يأخذنا، ابي وأنا، عبر هور الصحين الذي قذف بزنابق الماء الصفراء والبنفسجية على سطحه الأزرق، متلذذاً بصوت المجداف وايقاع المردي وهو يلامس قعر الهور الذي اراه دونما عناء. مستمتعاً حتى بقرصات البعوض ومغموراً بشذى يومٍ آذاري مشمس اتثاءب راغباً بالنوم على كتف ابي وانا اراه بين غابات القصب والبردي مبتعداً يغيبُ ببطأ قافلاً الى المجر الكبير.

عائداً في ما تبقى من أحرفٍ باهتةٍ في مكتبة الذاكرة الى وطن لا اعرف ان غادرته ام لم اغادره. لم تأتني الجرأة بعد لكي اتخذ قرار عبور حدوده رغم انني لا اعيش فيه. اراه رؤية العين والمسه في حلمٍ قصيرٍ من على شاشة التلفزيون. يمرّ محترقاً وانا مازلت امشي على أرضه لا اعبأ بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة وقذائف الهاون التي تتساقط حجارة من سجّيل على رؤوس المارة في الأزقة وعلى سطوح البيوت التي كانت يوماً آمنة.
مازلت امشي كما كنت، أرافق الشعب، الذي اقسمت يوماً الا اخونه، في خطواته المترددة. خطواته الخائفة والمترقبة في ادغال زمنٍ موحشٍ تقتصّ فيه الساعة من الساعة التي سبقتها وحزمة ضوء الشمس في النهار من نور القمر في الليل المظلم. زمن يقتصّ فيه الجميع من الجميع.
احاول ان اعرف اين أصدقائي عصام وسعدي لأقف معهما امام خارطة الوطن، هذه المرة، لنقسم على ان لا نخون العراق. ولأقل لهما: ابررت بقسمي ولم أفكر يوماً أن اخون العراق. لا ترابه ولا شعبه. وانتما؟
اخبراني رجاءاً. سعدي... عصام.. طمناني. هل فعلتما؟ ارجوكم أن لا تفعلوا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي