الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آنا أخماتوفا : في ذلك الوقت ، ضِفتُ على الأرض .

عبدالله عيسى

2018 / 1 / 9
الادب والفن


لم تكن حياة آنا أخماتوفا في ضيعة " تسارسكوي سيلو " حتى ربيعها السادس عشر طارئة على ذاكرتها المبدعة . فهناك ، حيث هذه الضيعة شبه منسيّة كانت إلى جهة الشمال من مدينة " أوديسا " المتاخمة للبحر الأسود ، واضطر والدها مهندس الميكانيك المتقاعد للإقامة فيها قبل حول من ولادتها في ٢٣ من حزيران من عام ١٨٨٩، تلمست روحها مكامن الجمال الذي أصبح فيما بعد متن طاقتها الإبداعية البكر ، كما تروي في سيرتها " باختصار عن نفسي " : " الحدائق الخضراء الندية الباهرة ، المراتع الممتدّة حيث كانت تأخذني مربّيتي ، ميدان سباق الخيل حيث تحجل المهور الصغيرة ، ومحطة القطارات القديمة ، وأشياء أخرى تجلّت كلّها فيما بعد في مجموعة جنة تسارسكوي سيلو " .
في ذلك المكان الذي ظلّ موحياً و قصيّاً في ملكاتها الإبداعية ، تفتحّت مدارك آنا أخماتوفا على عبقرية الطبيعة بأسمائها وألوانها ومفرداتها المتعددة على الأوصاف ، وعكفت لسبب لم تجد دونه سبيلاً على تعلّم القراءة متهجيّة ، كما تذكر ، كتابات الروسي العظيم ليف تولستوي ، ودونما لأي شرع لسانها آنذاك يلدغ بالفرنسية .
وإذ تتجوّل في سيرتها تذكر أنها صاغت بواكير أشعارها في الحادية عشر من عمرها ، لكنها تعترف " لم يبدأ الشعر ، بالنسبة لي ، مع بوشكين وليرمنتوف ، بل مع ديرجافين ونيكراسوف اللذين كانت أمي تحفظ جلّ شعرهما عن ظهر قلب " .
كانت دراستها في المدرسة القيصرية متعثرة ، وعلى الرغم من أن تحسناً ما قد شابها بشكل غير منتظر ، ولم تكن قد عهدته من قبل ، إلا أن آنا كانت تقدم على الدراسة دونما أية رغبة تتقدم بها إليها ، كما تتذكّر .
وظلّت تدوّي في ذاكرتها ساعات افتراق والديها عام ١٩٠٥ ، وتنوء بها دروب رحيلها مع أمها إلى الجنوب ، إلا أن حنيناً عارماً بقي يعود بها إلى هناك ، حيث الضيعة الأولى ، وبدأت تكتب شعراً ينذر بالانطلاق ، وإن بدا لها ، كما تذكر ، متعثراً . ولم تكن هتافات ثورة ١٩٠٥ قد وصلت إلى يفتابورا المعزولة عن العالم ، حيث عاشت العائلة ، إلا خرساء .
وبعد عصف الثورة بالمشهد الروسي بعامين أنهت أخماتوفا المدرسة في كييف ، وانتسبت إلى كلية الحقوق فيها . تروي في سيرتها : " كنت سعيدة جداً ، ونحن نتصفّح تاريخ الحقوق ، وخاصة اللاتيني ، لكن علاقتي بالكلية بردت تماماً حين شرعنا بدراسة مواد القانون . ثم تزوجت من نيقولاي غوميليوف ، فسافرنا إلى باريس لشهر واحد ، وحين عدنا إلى بيتربورغ أخذت بدراسة تاريخ الأدب " .
لابد أن زواج الشاعرة آنا أخماتوفا بالشاعر المبدع نيقولاي غوميليوف ، صاحب الثقافة الواسعة ، والإطلاع العميق على الحضارات الإنسانية ، وخاصة الشرقية ، بما فيها العربية والإسلامية ، قد منحها طاقة إبداعية وحياتية ذات قابلية كبيرة ، ففي هذه الآونة أنجزت شعراً مختلفاً ، أخاذاً وعميقاً في آن ، ضمته مجموعة " أمسية " ( منها اخترنا قصيدة " جنازة " ) .
وفي أعقاب الأزمة التي لمّت بالمدرسة الرمزية عام ١٩١١، ابتعدت عنها أخماتوفا ، أسوة بسواها من الشعراء الشباب ، والتحقت بالمدرسة الأكميزية مع عدد منهم ، بينما انضم آخرون إلى المدرسة المستقبلية .
وكان احتفاء النقد بمجموعة المساء التي صدرت بثلاثمائة نسخة فقط مفاجئاً وملفتاً عام ١٩١٢ ، العام نفسه الذي ولدت فيه ابنها ليف غوميليوف الذي اعتبر فيما بعد من أبرز المؤرخين المعاصرين في روسيا والعالم .
لكن النقاد والقراء لم يكونوا عادلين مع مجموعتها " السرب الأبيض " التي نشرتها عام ١٩١٧ ( منها اخترنا " خلوة " ، المدينة القاتمة " ، " شُلّ عن الابتسام فمي " ، " صلاة " ، و " مباركاً بالربّ " ) ، مقارنة مع مجموعتها " سبّحات " ( منها اخترنا " إلى م. لوزينسكي" و " إلى بلوك " ) ، فقد اعتقد الكثير منهم أن السرب الأبيض لم تحتفظ لذاتها بالمُنجَز الإبداعي الذي امتازت به سبّحات ، فيما علّلت أخماتوفا سرّ هذا الأمر بما أوردته في سيرتها باختصار عن نفسي ": " لقد ظهرت مجموعة السرب الأبيض في ظروف مخيفة ، كانت حركة المواصلات قد شُلّت تماماً ، ولم يكن بالمقدور إرسالها إلى موسكو . كل نسخها بيعت في بيتربورغ . الجرائد أغلقت ، والمجلّات أيضاً . ولهذا لم يكن لمجموعة السرب الأبيض ما كان لمجموعة سبّحات من الضجيج الإعلامي . الجوع والإنحطاط كانا يتفاقمان كل يوم " .
لكنّ أخماتوفا أخلصت لعملية تطوير أدواتها الفنيّة ، وطرح أسئلة إبداعية ، مع كل مجموعة جديدة . ومع أنها ارتبطت بجماعة الأكميزيين بروابط إبداعية وشيجة ، إلا أن حدود عوالمها ظلت تتحرك في مناخات أكثر اتساعاً وقابلية : فالتقديس الجليل للطبيعة ، وللذات الإنسانية ، ولروحها التي اتخذها الأكميزيون مذهباً ، ارتبط بلغة طيّعة ابتعدت عن التعددية التعبيرية التي اعتمدها الرمزيون الروس . فاللغة التي هي مادة الصنعة الإبداعية هي أساس الشعر ، وينبغي أن تتحرّر من ضبابيّتها ، وتداعياتها التجريديّة ، وهذا ما تميزت به أعمال أخماتوفا المتأخرة .
وإذ تطل أخماتوفا في سيرتها على مسيرتها الشعرية تضيف : " عملت بعد ثورة أكتوبر في مكتبة كلية الزراعة ، وفي عام ١٩٢١ خرجت إلى النور مجموعتي الشعرية " مزمار" ( منها اخترنا " مثل كنسر فتيّ" ، " أبداً " ، " و انتظرته " ، و" في الليل " ) ، وفي عام ١٩٢٢ ، أصدرت مجموعة " آنا ديموني" ( اخترنا منها " كيف لي أن أدبّ الصوت " ، " وليكن أن يعصف الأرغن " ، و " إلى كثيرين " ) ، ومنذ منصف العشرينات تقريباً بدأت أمارس باهتمام شديد المعمارية القديمة لمدينة بيتربورغ ، وقراءة حياة وإبداع بوشكين ، لكن لم تنشر أشعاري الجديدة ، في تلك الفترة " ، بينما أعيد نشر القديم منها .
لا شك أن الصلة الفنية لعوالمها مع التراث الشعري الروسي ، خاصة مع إنجازات الكسندر بوشكين ، أخذت تتأصل في ذلك الوقت ، على الرغم من اقتراب عالمها من إبداعات الكسندر بلوك ، فأصدرت مجموعات شعرية شكّلت إضافة فنيّة كبيرة للشعر الروسي ، مثل مجموعة " اليراع " ( منها اخترنا " الشاعر " ، " بالمراتع يفوح العسل البريّ " ، صور الكائن " ) ، ثم مجموعة " الكتاب السابع " ( منها اخترنا " موت"، " وكما في الألبوم " ، وكذلك مجموعة " وِتر" ( اخترنا منها " إلى ذكرى بولغاكوف " ، ومن ملاحمها " موسيقى قدّاس " ، إضافة إلى " مختارات " ، و" عدو الزمن " .
وظلت أخماتوفاً حتى النفس الأخير الذي داهمها في عام ١٩٦٦ مخلصة للشعر ، بالاشتغال في مختبره الإبداعي ، واكتشاف الإيقاعات الخلاقة فيه ، لتصبح من أبرز شعراء روسيا والعالم . هكذا تختتم الشاعرة سيرتها : " لم أتوقف عن كتابة الشعر ، أجد في الشعر علاقتي مع الوقت ، مع الحياة الجديدة لشعبي . عندما كتبت أشعاري عشت تلك الإيقاعات التي عُزفت في تاريخ وطني البطوليّ . أشهد أني سعيدة ، كوني عشت في هذه السنوات ، ورأيت تلك الوقائع التي لا مثيل لها " .

جنازة :

ألوّب عن بقعةٍ ما لقبرٍ .
أترى أيّها المسكونة أكثر بالضوء ؟ .
كمْ رطِبٌ أديمُ الأرض ،
ومكتئباتٌ على حوافِ البحر صدورُ الصخرِ .

وهْيَ المجبولةُ دوماً على الطمأنينةِ ،
المولعةُ بالشعاعِ الوهّاج .
سوف أبني على قبرها صومعةً
تكون لنا ، لسنين طوال ، كبيتٍ .

ويكون ثمّة معبرٌ بين الشبابيكِ
في جوفه نوقدُ السراجَ
فيغدو كقلبٍ مُعتمٍ
فيه حمراء تندلع النار .

وهْيَ تهذي ، أتعْلمُ ، من هوَسٍ
بأشياء أخرى ، بالسماويّ القصيّ ،
لكنّه ، لائماً ، لقّن الراهبُ :
" ليست لكم . ليستِ الجنّةُ للآثمين " .

آنذاك ، مُبيضّةً من الوجعِ العَتِيّ ،
رغتْ : " سوف أمضي معك " .
ها نحن وحيدان ، طليقان
وعند أقدامنا تضطربُ الأمواجُ الزرقاء .
١٩١١
***
إلى م . لوزينسكي

النهارُ الكهرمانيّ الكتيمُ يطولُ إلى غيرِ خاتمةٍ
كحزنٍ مستحيلٍ ، كانتظارٍ بلا محض جدوى .
والأيّلُ ، ثانيةً ، في المتحفِ الوحشيّ
، بصوتِه الفضيّ ، يحنّ إلى الشروقِ الشماليّ .
وأنا التي آمنتُ
ثمّةَ ثلجٌ أشدّ صقيعاً
لأولئك الفقراء جُرنُ المعموديّةِ الأزرق ، والمرضى
والمزالقُ الصغيرةُ للسباقاتِ الطويلةِ
تحت رنينِ أجراسِ القريةِ النائية .
١٩١٢
***
إلى ألكسندر بلوك (١)

ضائفةً حللتُ على الشاعرِ
منتصفَ اليوم ، تماماً ، الأحد .
السكونُ الكهلُ يقطنُ غرفتهُ
وخلفَ الشبابيكِ ينمو الجليد
وشمسٌ قرمزيّةٌ
على الضبابِ الأزرقِ المنعوثِ .
ياللصاحبِ الصموت
بما ينجلي يتقرّاني !

هكذا عيناهُ
محالٌ على أحدٍ أن يمرّ ، كما يشتهي بهما، بنعمةِ النسيانِ ،
ومن وجسٍ ، يهيء لي ، ألا أرنو فيهما
ذاكَ أجدى ، وفيما حولهما .

فيما يظلّ محفوظاً في لوحِ ذاكرتي كلامي معه
منتصفَ اليومِ الضبابيّ ذاك ، الأحدْ
في البيتِ الرماديّ ، العالي
عند مصبّاتِ " النيفا" (٢) في البحرِ .
كانون الثاني ١٩١٤.
***
خلوة

مرميّة فيّ ، هكذا ، أحجارٌ لا تحدّ ،
ومهملةٌ
حتى لم يعدْ يمسسني خوفٌ عليّ من سواها .
والبرجُ المُشادُ ، عالياً ، بين البروجِ العالياتِ
صار شِركاً . شكراً لبانيهِ
دعِ اكتئاباتها ، وانكساراتها تمرّ
من قبلُ ، من هناكَ ، كُنتُ أرى مطلعَ الفجرِ
وهنا يحتفلُ الشعاعُ الأخيرُ
وعادةً ، تهبّ من شبابيكِ غرفتي ، نسائمُ البحارِ الشماليّةُ ،
وتأكل الحماماتُ من بين يديّ حبوبَ القمحِ .
فيما ، هناكَ صفحةٌ لم تكتملْ بعدُ
سوف تكتبها ، بطمأنينةٍ وبساطةٍ إلهيةٍ ،
يدُ الوحيِ السمراء .
١٩١٤
***
المدينةُ القاتمةُ عند البحرِ الواجمِ
جذلى ، كانت بأرجوحتي ،
وبسريريَ الزوجيّ المُحتفى
وقد رفعتْ فوقه ملائكتُكَ الفتيّةُ ضفائِرَ الزهورِ
بحبّي المرير ِ
المدينةُ معشوقتي .
معبدُ ابتهالاتي
كُنتُ هادئةً ، بالصرامة ذاتها ، سرابيّةً
حين تمثّل لي ، للمرةِ الأولى ، عروسي
مرشداً روحي لصراطٍ من الضوء
ثم قادني ، مثل عمياء ، وحيي .
١٩١٤
***
وشُلّ عن الإبتسامِ فمي
وبالبردِ ريحُ الشمالِ تعضّ على شفتيّ .
وبي أملٌ ما أقلّ
وأغنيةٌ أكثرُ ..
الآن . سوف أعرّضُها للشماتةِ والدنٓس
هاذيةً
إنّ بي ألماً لا يُطاقُ
إذا مسّ روحي عن الحبّ شيء من خرَس
١٩١٥
***
صلاة :

هبني سنيّ العليلِ المريراتِ،
الأرقَ المستبيحَ ،
الحريقَ الداخليّ ، ولوعة َ الآهات .
وخذِ الطفلَ ، خذهُ ، والصديقَ
عطيّتَكَ السريّة ٓالمشتهاة َ
هذا دُعائي خلفَ صلاتكَ الكنائسيّة ،
وفي أثر الأيامِ المثقلاتِ بالبلوى هذه كلّها ، أدعو
كي تبقى المُزنةُ في أعالي روسيا القاتمة
غيمةً في مجدِ الشعاع .
١٩١٥
***
مبارَكاً بالربّ ، الشعاعُ الأوّل
سحّ على الوجهِ الحبيبِ
الذي مأخوذاً بالنعاسِ مسّهُ الشحوبُ القليلُ
لكنه ، بأقصى السكينةِ تلكَ ، غفا.

يُخالُ ، للقبلةِ دفء الشعاعِ السماويّ
وكما لو أن شفتيّ ، منذ دهرٍ ، لم تطأ شفتين
بهذي النداوةِ ، ولم تمسّ كتفاً أسمر .
والآن ، أرواحٌ متوفاةٌ ،
في سِفري الذي لا عزاءَ له
أحثّ إليه الأغاني
وأهدهدُ الشعاعَ الصباحيّ .
١٩١٦
***
إلى م . لوزينسكي

يطير ، لا يزال ، في الطريقِ الطويلِ
كلامُ الحبّ ، والانعتاق .
أنا التي في رعشِ ما قبل الغناءِ
أشدّ برودةً من جسدِ الصقيع فمي .
وقريباً ،
هناك ، حيث يلتصقُ البتولا الشفيفُ بالشبابيكِ
سوف يفحّ اليباسُ
وتنعقدُ الورودُ على الأكاليلِ اليانعة
ثم ّ تقرعُ الأصواتُ الرقيقةُ ، وبعدُ
الضوءُ سخيّ حدّ الجنون ِ كنبيذ ساخنٍ قانٍ
وهاهي الريحُ المعطّرةُ الدافئة وهجُ حواسي .
١٩١٦
***
مثل نسرٍ فتيّ بعينين سوداوانِ
، بتوحّدٍ سريّ مع الأعالي ،
مضيتُ بخفّةِ الروح
كما لو أني في حديقةِ زهورِ ما قبل الخريفِ
هناك
الورودُ الأخيرةُ ،
والهلال الشفيفُ تهاوى
على الغيومِ الشهباءِ الغزيرة .
١٩١٧
***
أبداً
أسمعُ صفيرَ صوتٍ حزينٍ
وأحتفي بغَرْمِ الصيفِ الجليلِ ،
بينما ، بأزيزِ الثعابينِ ، يجتثّ منجلٌ السنبلةَ
الملتصقةَ ، معتصمةً ، بأخواتها.
فتُنثرُ في الريح ، كالراياتِ في الأعيادِ ،
خلفَ أذيالِ الحاصداتِ المكيناتِ .
والآن ، هاهو ذا رنينُ الأجراسِ المغتبطة
يعبرُ الرموشَ المغبرّة للنظرة الطويلة .
لستُ على انتظارِ مغازلةٍ ،
ولا أنتظر الزلفَ المحبّبَ
حتى في هاجسِ عتمةٍ لاحدّ لها ، ولامفرّ منها .
فقط
تعالَ ، وانظر إلى الجنّة
حيث كنّا مغتبطَين ، وبريئَين
١٩١٧
***
وانتظرتهُ ، عبثاً ، كلّ هذي السنين
كما لو أنها غفوة مرّت بي .
لكن الضوء الذي ليس يُطفأ
، ثلاثَ سنين في السبت المقدّسِ ، توهّج ،
صوتي تجرّح ،
وساكناً بابتسامته ظلّ عروسي منتصباً أمامي .

وعلى مهَلٍ ، خلف الشبابيكِ
مضى ملأٌ بالشموع . آهِ ، أيها المساءُ الورِع !
خفيفاً ، قرقعَ جليدُ نيسانَ الرقيق
ودوّى فوق الحشودِ رنينُ النواقيسِ
مثل عزاءاتٍ سامية،
وترنّحتِ النارُ في الريحِ السوداء .
وكما لو أنّي ، في انبلاجِ السديمِ ، رأيتُ
النرجساتِ البيض على الطاولة،
النبيذَ الأحمرَ ، بارداً ، في الكأس .
يدي المبقّعةُ بالشمعِ
ارتعشتْ ، وهي تحتضنُ القبلةَ ،
فغنّى دمي : أيتها الجذلى ! ابتهلي .
١٩١٦
***
في الليل :

بالكادِ حيّاً ، يقف الهلالُ في السماء
بين السحبِ الصغيرةِ المنسابةِ ،
والساعةُ العابسةُ عند القصرِ تنظرُ
، بضيقٍ ، إلى عقاربِ البرج .

تعودُ إلى البيتِ الزوجةُ المسكونةُ بالخطيئةِ
بوجهها الشاردِ ، المتيبّس
بينما تلهبُ الهواجسُ المتوقدةُ ، الطاهرةَ
في أحضانِ الأحلامِ المضطربة .
مالي ، ولها؟ اليوم السابع ولّى
زافراً صعداءهُ ، قلتُ
، بالكلام البسيط ، للكونِ كلّه .
لكنّ الهواءَ ، هناكَ ، خنّاقٌ
تسللتُ إلى الروضِ
ثم رنوتُ إلى النجومِ
وتحسّستُ القيثارة .
١٩١٨
***
كيف لي أن أدبّ الصوتَ
من حبّكَ الغامضِ باللوعاتِ .
صيّرني شاحبةً مثل اصفرارٍ متعجّلٍ ،
أوهنَ العظمَ مني ،
بالكادِ أقودّ قدميّ .
فلا تشدُ بالأغاني الجديدةِ .
أتخادعُ الأغنياتُ طويلاً ، والأظافرُ
الهائجاتُ تنهشُ صدري.

ولكي يطفحَ الدمُ من حنجرتي ،
ويطفّ ، سريعاً ، على السريرِ ،
وينسلّ الموتُ من القلبِ ،
سأبقى إلى أبدٍ طافحةً بسُكري اللعين .
١٩١٨
***
وليكن ،
أن يعصفَ الأرغنُ ، ثانيةً ،
كأولِ رعدِ الربيعِ :
من وراء كتِفَيْ عروسِكَ ، عينايَ
نصف الموصودتينِ ، تحنوانِ عليك َ .

وداعاً ، وداعاً ، واثملْ بالسعادةِ
يا صديقي الأَلُوف ، أردّ إليكَ عهدكَ اللذيذَ.
وإياكَ ، إيّاكَ أن تقصّ على صديقتكَ الولهانةِ
شيئاً من هذياني الفذّ ،
حتى ينفذَ ، بِسُمّهِ الكاوي ، فيما بعدُ
توحّدكما المبروكَ السعيد

وأنا غاديةٌ لأحظى بالروضِ المُعجَزِ
حيثُ حفيفُ الأعشابِ ،
ونداءاتُ آلهةِ الشعر .
١٩٢١
***
إلى كثيرين

أنا صوتكمْ ، وذؤاباتُ أنفاسكمْ
وملامحكمْ في المرايا ،
وما فاضَ من رعَشاتٍ لأجنحةٍ فائضاتٍ سدىً ،
وسأبقى إلى أبدٍ معكم .

فحقّاً ،
لماذا إذن نهِمِينَ تحبّونني أن أظلّ مخضّبةً بالخطايا ،
وبالسَقَمِ المُرّ . حقّاً
لماذا ، بلا محضِ انتباهٍ ، تخصّونني دون غيري بأجملِ أبنائكمْ ،
ولماذا، إذنْ، أبداً ماسألتمونني عنه ؟. حقاً
وكنتمْ كمدخنةٍ ، بالمديحِ كثيرِ الدخانِ، تلفّون بيتي
المهدّم ، مثلي .
أبداً ، تقول الأحاديثُ ، أحاديثكمْ :
ليس لزاماً توحدّنا بالذي اعتصمتْ به روحان ،
لا ينبغي أن نحبّ بكلّ مزايا الجنون .

وكما يشتهي الظلّ أن يتحرّر من جسَدٍ ،
أو كما يشتهي جسدٌ أن يفارقَ روحاً
أشتهي الآن منسيّةً أن أكون .
١٩٢٢
***


الشاعر

باريس باسترناك (٣):

هوذا ، ذاتُهُ أشبه بعيني مُهرٍ ، يرمُقُ
، من زاويتَي لحظِهِ ، يرنو ، يرى ، يُدركُ ،
وبالألماسِ المُذابِ
تضاءُ الغدائرُ ، والجليدُ ينوءُ .

وفي الغيهبِ الليلكيّ ترقدُ الأشياءُ وراء البيوتِ ،
الأرصفةُ الوحيدةُ ، قُرَمُ الأشجارِ،
الأوراقُ ، والسحابةُ ،
صفيرُ الحافلاتِ ، خشخشاتُ قشورِ البطّيخ ،
واليدُ الوجلى في روائحِ " لايكا" .

كموجٍ مضطربٍ على شاطئٍ يلطُمُ ، أو يدوّي
يرعدُ ، أو يزبِدُ ، ثم يهدأ ، في خلسةٍ عنه .
ذاكَ يعني أنهُ يتحسّسُ ممرّاً بين الصنوبرِ ،
بحذاقةِ الخوفِ ،
لكي لا يجفلَ أفقُ الحلُمِ المُرهف .
أو ذاك يعني أنّهُ يعدّ الحَبّ
في سنابلَ فارغةٍ ،
أو ذاك يعني أنه عادَ للتوّ
إلى موقدِ الطبخِ الأسودِ الملعونِ
من جنازةٍ ما .

ومن جديدٍ ، يلدغُ الفتُورُ الموسكوفيّ ،
والأجراسُ البعيدةُ المميتةُ تجلجلُ في الأقاصي ..
من تاهَ على بُعْدِ خطوتينِ من البيت ِ
أين الثلجُ على حزامِ الأرضِ ،
هل انتهى كلّ شيء؟ .
ولهذا كلّه أشبّهُ الدخان " بلاوكون" (٥)
والآسُ تشبّبَ بالمقابرِ .
ولهذا كلّه يطفحُ ، بالرنينِ المنذِرِ ، العالم كلّه
في المسافةِ البكرِ لأصداءِ السطور.

وهو المُجازى بطفولةٍ لا تنتهي
به نوّرتِ العطايا ، وجهاتُ الانتباه ،.
وكانتِ الأرضُ كلّها تِركتٓهُ
فتقاسمها مع المخلوقاتِ جميعاً .
١٩ كانون ثاني ١٩٣٦
***
بالمراتِعِ يفوح العسلُ البريّ ،
والغبارُ بالشعاعِ المرسوم بالضوء ،
وبالبنفسجِ يعبقُ الفمُ البكرُ ،
فيما بالفراغ يلمع الذهب .
وبالماءِ تتضوّع الخزامى
والحبّ بالتفّاح .

لكنّنا ، منذ بدءِ الخلقِ ، نرى
أن الدم لايفحّ إلا بالدم .
وسدىً ، غسل نائب روما يديه
في أعين الشعبِ
وسط صيحاتِ الرعاع المشؤومةِ .
عبثاً ، مسحتِ الملكة الأسكوتلنديّة
، براحتيها الضيّقتينِ ، الرذاذ الأحمر
في القصر المخنوق بالظلمات .
١٩٣٣
***
صورُ الكائنِ ، حينَ يموتُ ، تتبدّلُ،
ترنو بعينينِ أخريين ، وتحوكُ
شفتاهُ ابتسامةً أخرى .
ذاك الذي أرى كلّما عدتُ من جنازةِ شاعرٍ .
وكثيراً ما تيقّنتُ .
قد ثبُتتْ رؤيايَ .
١٩٤٠
***
موت :

على حافّةِ شيء ما كُنتُ
شيء ليس له اسماً حقاً ..
سلطانُ النومِ الغلّاب
الهاربُ منكَ .
...
وواقفة على مشارفِ شيء ما
مشارف كلٌّ واردُها ، لكن بأوزارِهِ ..
لي حجرةٌ على هذه السفينةِ
الريحُ على الأشرعة ،
ولحظةُ الوداعِ الرهيبةُ
للوطنِ الأمّ
١٩٤٢
...
والغرفةُ لي ، حيثُ أبتلى
آخر مرّةٍ
، على هذه الأرض ، يطأني المرضُ الأعمى .
كأنّما يتسنّدُ على سيقانِ الحورِ البيضاء
العالياتِ في الممرّ .
إنّه الأولُ
، الأعلى شأناً،
كم ينضجُ ، في حكمهِ الجليلِ ، وينعمُ بالغبطةِ
الأوّل ،
الأعلى في شأنه ،
عندما يعبرُ الشبّاكَ الأغبرَ
تحلّقُ روحي لتحتضنَ الشمسَ ،
وتُهلك النومَ المميت .
كانون ثاني ١٩٤٤ . طشقند
...
عندما يستلقي البدرُ
، مثلَ كِسَرِ البطّيخِ الأصفرِ ،
على شفيرِ الشبّاكِ ،
ويعمّ الإختناقُ .
عندما يوصدُ البابُ ،
والبيتُ المسحورُ بأغصانِ النباتاتِ الرشيقةِ
الزرقاء المتسلّقةِ الجدرانِ ،
ويطفّ الماءُ الباردُ في الفنجانِ الطينيّ ،
والمنشفةُ الثلجُ ،
والشمعةُ الطويلةُ
توهّجُ ، كما في الطفولةِ ،
تستدرجُ فراش الليل ،
الهدوءُ يسقطُ مدويّاً ،
ولا يُسمعُ صوتُ كلامي .
عندها ، يتصاعدُ مضفرّاً شيء ما
من إطار لوحات " ريمبراند" (٦) ،
ويختفي ، هناكَ، فيها .
لكنني لستُ موطوءة بمسّ من خوف ،
ولا تأخذني الرعشة ُ ، أيّما رعشةٍ .
هنا التقطتني ، بطُعمها، الوحدة الغلّابة .
صاحبة القطّ الأسودِ تمسّده ، كعيني قَرنٍ ،
فيما قرينيَ في المرآةِ ليس يُغيثُ .
سوف أنامُ بكلّ أوصافِ اللذّةِ .
أيّتها الليلة !
تصبحينَ على خير .
طشقند ١٩٤٤.
***
١ كما في الألبوم تقريباً :

تُنصِتُ للبرقِ ، تذكرُني
تفكّر : اشتهتْ عاصفةَ الرعدِ .
تُصيّرُ رقعةُ السماءِ أرجواناً عاتياً ،
فيما القلبُ يبقى ، كعهدهِ ، في النارِ .
سوف يمضي هذا أيضاً ،
ذاك اليومُ الموسكوفيّ
حين ، في اقتفاءِ خُطى المشتهى ، أهجرُ المدينةَ
إلى الأبدِ
تاركةٍ ظلّي بينكم .

٢ بلا عنوان :

وسط جليدِ موسكو الكرنفاليّ ،
حيث ينسكبُ الوداع ، وداعنا ،
وحيث قد تقرأون الطبعة الأولى
لأغاني فراقِ عيونٍ مندهشةٍ قليلاً .
- ماذا ؟ مستحيل ؟
- بالطبع .
طاهرةٌ فيروزاتُ السمواتِ القدُسيّةُ ،
والأشياءُ من حولنا طيّبةُ النفسِ .

لم يفترقْ أحدٌ ، هكذا، عن أحدٍ .
هذا وسامُ بطولتنا.

٣ نخبٌ آخر بعدُ .
من أجلِ ثقتكَ العمياءِ بي ،
من أجلِ إخلاصيَ الأبدِيّ لك ،
من أجل الذي قادنا إلى هذه الحافّة !

فلنكنْ ، أبداً ، مأخوذَين بالسحرِ .
لكنّ الأرضَ لم تجئنا بشتاءٍ حاذقٍ بالروعةِ ،
ولم تكنِ الصلبانُ مزخرفةً في أقاصي السماء .
سلاسلُ الهواء أطولُ من الجسورِ ..
من أجلِ جاعلِ الأشياءِ تسبحُ ، منزلقةً ،
بلا محضِ صوتٍ .
من أجلِ من قضى أنّ لزاماً علينا ألا نلتقي .
١٩٦١١٩٦٣
***
إلى ذكرى بولغاكوف (٧)

هاأنذا ، لكَ ، بدلاً من زهراتِ القبرِ ،
وإشعالِ البخورِ . هكذا
عشتَ بصرامةِ الكفافِ القليلِ ، وحتى النهايةِ
، ببلاغةِ الإزدراءِ الأخّاذِ ، بلّغتَ .

وشربتَ النبيذَ ،
وليسَ كما يتفكّهُ الآخرون ، مزحتَ ،
وكنتَ ، بين جدرانٍ موصَدٌ عنها الهواءُ ، تختنقُ ،
أنتَ الذي أذِنتَ للضيفةِ الرهيبةِ أن تبقى
وحدها معك .
وها أنتَ لم تعدْ بيننا ،
وكلّ شيء موطوءٌ ،
عن هذه الحياةِ العاليةِ الكئيبةِ ، بالصمتِ الأعمى .
وحدَهُ صوتي ، مثل نايٍ ، يجلجلُ
حتى في وليمةِ دفنكِ الخرساءِ .

ومن تجرّأ ، أنا شبهُ المصابةِ بالجنونِ ، أن يصدّقني ،
أنا الناشجةُ الآن أيّامَ القتلى ،
وأعمارَ المفقودينَ والمنسيّينَ ،
المتقلبّةُ على نارٍ هادئةٍ .

من ، بملء قواه وفيضِ إرادته ،
من ، بنواياه البيضاء ،
كأنما حدثني أمس ،
وقد وارى رعشاتِ آلامِ ما قبلَ الموت .
١٩٤٠
***
موسيقى قدّاس

١٩٣٥١٩٤٠

لا .. ليس تحتَ قبّةِ سماءٍ أخرى دخيلةٍ
وليس في كنفِ أجنحةٍ غريبةٍ
كُنتُ ، آنذاكَ ، مع شعبي
هناك ، حيثُ ، لسوءِ الحظّ ، كان ..
١٩٦١

بمثابة مقدّمة :
سبعة عشر شهراً ، في سنيّ القمعِ الرهيبةِ ، قضيتُ في طوابيرِ سجنِ لينينغراد . مرةً ما ، أحدٌ ما وشى بي. حينذاك ، كانت امرأة بشفتين زرقاوينِ تقفُ خلفي ، ومن المؤكّد أنها لم تكنْ قد سمعتْ باسمي قط . صحتْ من الذهولِ الإعتياديّ الذي كان يعمّنا هناك ، وسألتني في أذني ( هناك همساً يُختلسُ الحوارُ ) :
- هل تستطيعينَ تصويرَ كلّ هذا.
وقلت :
- أستطيع ..
آنذاك ، انسابَ شيء أشبه بابتسامة على وجهها الذي لم يكن ، من قبلُ ، هذا .

١ أبريل ١٩٥٧. مدينة لينينغراد .


إهداء :

تنحني ، في حضرةِ الأسى هذا ، الجبالُ ،
ولا يندلعُ النهرُ الجليلُ .
وحدها ، ترابيسُ السجنِ الفتّاكةُ ،
وجحورُ الأشغالِ الشاقّةِ ، خلفها ،
والحسرةُ القاتلة .

لمنْ ، طازجاً ، يرفّ النسيم ُ ،
الغروبُ لمنْ يرِقّ ؟

نحنُ لا نعرفُ ،
نحنُ في كلّ أرضٍ كما نحنُ .

لانسمعُ غيرَ صريرِ المفاتيحِ المقيتةِ ذاتها ،
وخطى العسكريّ الثقيلات .
نهضنا كما لو أننا إلى صلاةِ الفجرِ ،
مستوحشينٓ ، ندبّ في العاصمة ،
هناك التقينا ، أنفاس قتلى هامدة ،
شمس أدنى ، والنيفا الضبابيّ ،
فيما أملٌ ما ينشدُ في الأفقِ .

النطقُ بالحكمِ .. على عجلٍ تهطلُ الدموعُ
من مآقي الجمعِ ، الدموعُ تجري فرادى .
كما لو أنها
، بأقصى وجعِ العمرِ ، استُلّتْ من القلبِ ،
وكأنها هائجةً انكبّتْ على ظهرها ،
لكنّها تمضي ، مرتجّةً ، وحدها .

أينهنّ اللواتي اضطررتُ أن أصادقهُنّ
في سنتيّ المسعورتينِ ؟
مالذي يلوحُ لهنّ في عاصفةِ الثلجِ السيبيريّ ،
مالذي يتراءى لهنّ في قرصِ القمر ؟

لهنّ أرسلُ تحيّةَ الوداعِ .

آذار ١٩٤٠



فاتحة :

كان هذا ، عندما ابتسم ٓ
لكنّه ميّتاً كانَ ، مغتبطاً بالسكينةِ .
بما فاضَ من ثرثرةٍ ، تداعى
على مقربةٍ من أسوارِ سجونِ مدينتهِ لينينغراد .
كان هذا ،
عندما مضتْ الأفواجُ المدانةُ ،
مخبولةً من الألمِ الفتّاكِ ،
زفرتْ صفّاراتُ القاطراتِ
أغنيةَ الفراقِ القصيرةَ ،
وانتصبتْ ، فوقنا ، نجومُ الموتِ ،
وتلوّت روسيا البريئةُ
تحتَ البساطيرِ الدمويّةِ ،
والعجلاتِ السُودِ لناقلاتٍ محملاتٍ بالمساجين .

١
قادوكَ ، مع مطلعِ الفجرِ ،
وخلفكَ ، كما في تشييعِ جثمان ، سِرتُ ،
انتحبَ الأطفالُ في الغرفةِ المعتمةِ ،
وعندَ الضريحِ نطفتْ شمعةٌ ،
على شفتيكَ برودةُ الأيقونة ِ ،
وعلى جبينكَ عرقُ الموتِ .. ليس يُنسى !
وسأبقى ، كزوجاتِ المعدومينَ بالرصاصِ الفتيّاتِ ،
أنوحُ
على أبراجِ الكرملين .

خريف موسكو ١٩٣٥.

٢
مطمئناً ، ينسكبُ الدونُ الهادئُ ،
الهلالُ الأصفرُ يلجُ البيتَ ،
يدخلُ في قبٌعةٍ مائلةٍ على جانبٍ رأسٍ .
الهلالُ الأصفرُ يُبصرُ ظلاً .
هذه المرأة مُعتلّةٌ،
وحيدةٌ هذِهِ المرأةُ .
صلّوا ، إذنْ ، لأجلي .

١٩٣٨

٣
لا . إن هذه ليستْ أنا .
هيَ أخرى تتمرّغُ بالآلامِ .
ليس بي ما يُطيقُ كلّ هذا .
بينما هِيَ .. مالذي يجري ؟
دعِ الأجواخَ السوداءَ تُغشي
ولتحملِ المصابيح ..
الليلة .

١٩٣٩

٤

أأُريكِ ، أيتها الساخرةُ
المعشوقةُ من كلّ الأصدقاءِ ،
آثمةُ " تسارسكوي سيلو" (٩)الجذلى ،
مالذي سيجري لحياتكِ
كما أنتِ - الرقمُ الثلاثمائة في الطابورِ مع النقلِ
ستظلّين واقفةً تحت الصلبانِ ،
تلهبينَ ، بدموعكِ الساخناتِ ، جليدَ العامِ الجديدِ .
هناكَ ، حيثُ يرتجّ حَورُ السجنِ ،
ولاصوتَ
كم من الأرواحِ البريئةِ تُجتثّ .

١٩٣٨

٥
بأشهريَ السبعةَ عشرَ أعوي ،
أناديكَ حتى تعودَ إلى البيتِ .
أنتَ ابني ، وروعي .
مختلطٌ كلّ شيء إلى آخرِ الدهرِ ،
وليسَ بي ما يُدرِكُ : من الوحشُ الآن ،
ومن الآدميّ .
أيطولُ انتظارُ اعدامكَ . وحدها
الورودُ التي تعفّرتْ بالغبارِ ،
ورنينُ البخورِ، وآثارُ
تمضي إلى غيرِ ما جهةٍ ،
والنجمةُ العظيمةُ ، قاصدةً ، تتفرّسُ في عينيّ
تنذرُ بمقتلكَ الوشيكِ .
النجمةُ العظيمةُ .

١٩٣٩

٦

تطيرُ الأسابيعُ العجولاتُ .
ماذا جرى . ولا عِلمَ لي .
كيفَ تجري حياتكَ ، بنيّ ، في قبضةِ السجنِ .
أطلّتِ الليالي البيضاءُ
كيفَ أمكنَها أن تعودَ ثانيةً
، بمُقلتيْ باشقٍ حرّاقتينِ
وتروي الأحاديثَ عن صليبكِ العالي ،
وموتكَ ذاكَ .
ربيع ١٩٣٩

٧

الحُكم :

وقعتِ الكلمةُ الحجريّةُ على صدري الذي مازالَ حيّاً .
لاشيءَ ، لاشيءَ . وحسبي تحسّبتُ من قبلُ .
سأعبرُ هذا على كلّ حالٍ .
لديّ ، اليومَ ، أعمالُ أخرى جمّةٌ :
ينبغي محوُ ذاكرتي كلّها ،
وعليّ ، لكي تتحجّرَ روحي ،
من جديدٍ
أن أتعلّمَ كُنْه الحياة .

ليس هذا كما كانَ
حفيفُ الصيفِ القائظِ
كما لو أنّه احتفالٌ خلف نافذتي .
وبي ، منذ وقتٍ بعيدٍ ، نذيرَ شؤمٍ
اختلجَ اليومُ المُشمِسُ
والبيتُ المهجورُ .

صيف ١٩٣٩.

٨

إلى موت :

مادمتَ ستأتي لا محالةَ ،
فلماذا لا تجيء للتوّ ؟
إني على انتظاركَ .
شاقّ عليّ ، ولاطاقةَ لي .
أخمدتُ الضوءَ ،
وأشرعتُ البابَ ..لكَ .
جئْ كما أنتَ : بسيطاً ، وغريباً .
كُنْ على أيةِ هيئةٍ تشاءُ .
مقتحماً ، كقنبلةٍ موبوءةٍ ،
أو متسللاً ، بصولجانكَ الحديديّ ، كمجرمٍ حاذقٍ ،
أو مسمّماً بأعقابِ التيفوس .

أو خُرافيّاً ، خالقاً نفسكَ بالذي سوّتْ يداكَ ،
كما أنتَ مألوفاً للخلقِ حدّ التقيئٍ .
كي أرى سقفَ القبّعةِ الزرقاءِ (١١)،
والبوّابَ الشاحبَ بالرعبِ .
سيّانَ ما سوفَ يجري الآن .
يعلو " ينيسي" (١٢)متضفّر الأمواجِ ،
يبرقُ النجمُ القطبيّ ،
والألقُ الأزرقُ في المقَلِ الحبيبةِ
تواري الكابوسَ الأخير .

١٩ أغسطس ١٩٣٩


٩

هوذا الجنونُ ، بجناحهِ ، يغمرُ نصفَ روحي ،
يجرّعني النبيذَ الناريّ ،
ثمٌ يجرّني إلى وادٍ من الظلماتِ .
ووعيتُ . آن لي أن أسلمّهُ قوسَ النصرِ ،
مستسلمةً لما هو بي
، كما لوأنه هذيانُ آخرٍ ، غريب .
ولا شيء يشفعُ عندهُ . الجنونُ هذا
يقتادُني معهُ .
ولا يكلّف نفسهُ وسعاً بالتفاتةٍ لتوسّلي
وضراعاتي الحانية .

لا الألمُ الأصمّ في عيني ابني المرعوبتينِ ،
ولا يومَ حلّتْ عاصفةُ الرعدِ ،
ولا ساعةُ الزيارةِ في السجنِ ،
ولا الأكفّ الرقيقةُ المندّاة ،
ولا بقايا الظلالِ المضطربةِ ،
ولا الصوتُ الخفيفُ السحيقُ -
كلمةُ العزاءِ الأخير .

٤ مايو ١٩٤٠.

١٠
الصلب:

" لا تنحبي عليّ ، يا أمّ
في قبري "


تمجّدُ جوقةُ الملائكِ الساعةَ الجللَ ،
السمواتُ انصهرتْ في السعيرِ .
قالَ للأبِ : لماذا تركتني !"
وللأمّ : " لاتنحُبيني" .

١٩٣٨


بكتِ المجدليّةُ لاطمةً ،
وتحجّرَ التابعُ الحبيبُ .
بينما ، إلى هناكَ
حيثُ تسمّرتِ الأمّ مأخوذةً بالصمتِ ،
لم يجرؤ أحدٌ أن يرمي نظرةً ما .

١٩٣٠١٩٤٣


خاتمة :

عرفتُ ، كيفَ تسقطُ الوجوهُ ،
كيفٓ يختلسُ الرعبُ التحديقَ من تحت الجفونِ ،
كيفَ تُربّي الصفحاتُ المسماريّةُ الغلّابةُ الوجعَ المرّ على الوجناتِ ،
كيفَ تشتعلُ خصلاتُ الشَعرِ التي جُعلتْ من الرماديّ أو الأسودِ ، في خلسةٍ عنها ، بالفِضيّ .
كيفَ تذوي الإبتسامةُ على الشفاهِ المُذعناتِ ،
ويرتجفُ الرعبُ في الضحكةِ اليابسةِ .
وأنا أصلّي ، ليس لي وحدي ،
بل لَكُمْ ، كلّكمْ .
لمن وقفَ ، هناكَ ، مثلي
في البردِ اللدودِ ،
في قيظِ تموز،
تحتَ جدارٍ أحمرَ أعمى .

أصلّي ،
ليس لأجلي ،
بل لأجلكمْ كلّكمْ .

٢

ثانيةً ، أقبلتْ ساعةُ الغائبِ .
إنّي لا أزالُ أراكُنّ وأسمعكُنّ ،
وإنيّ أحسّ بكنّ :
تلكَ التي بالكادِ جُرّتْ إلى الشبّاكِ ،
وتلكَ التي لم تعدْ تدُبّ على الأرضِ ،
وتلكَ التي هزّتْ رأسَها الجميلَ ، وقالتْ :
" أجيء هنا ، وكأني آتي إلى البيتِ " .
إن بي رغبة أن أسميكنّ جميعاً بأسمائكنّ .
لكنّهمْ سرقوا القوائمَ ،
ولايُعرفنَ في أيّ أرضٍ .
حِكتُ لهنّ غطاءً وسيعاً من كلماتهنّ الطائعةِ البائسةِ .
وسأبقى ، أبداً ، أتذكرهنّ ، حيثما حللتُ
ولن أنساهنّ في فجيعتيَ الآتية .

وإذا كبتوا فميَ المكلومَ
بالذي يصرخُ شعبيَ المضنيّ ،
دعهنّ يحتفلنَ بي
عشيّةَ يومِ ذكرايَ .

وحين يفكّرون ، ذاتَ وقتٍ في بلدي ،
بنصبِ تمثالٍ لي ،
سوف أعطي موافقتي باحتفاليّةٍ . فقطْ
ألا يشيدوهُ على مقربةٍ من البحرِ ، حيثُ ولدتُ .
انقطعتْ آخرُ أوصالي مع البحرِ .
ولا في الحديقةِ القيصريّةِ عند جذموريَ المنشودِ ،
حيثُ يبحثُ عني الظلّ الذي لاسلوانَ عنه .
بل هنا ،
حيث وقفتُ ثلاثمائة ساعةٍ ،
وقد غُلّقتْ دونيَ الأقفالُ .
وأخشى ، بعد هذا ، في موتيَ المباركِ
نسيانَ دويّ العجلاتِ السُودِ للناقلاتِ حاملاتِ المساجين َ ،
نسيانَ كيفَ أُوصِدَ البابُ الممقوتُ ،
وعوتْ عجوزٌ كوحشٍ جريحٍ .

وليكنْ أن هذا الثلج الذائبَ يجري
كالدموعِ ، من القرنِ البرونزيّ الجامد .
وليكنْ ..
حماماتُ السجنِ تنوحُ في الأفقِ البعيدِ .
وليكنْ ..
تمضي السفنُ في النيفا هادئة .
آذار ١٩٤٠








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى