الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفندار.. حكاية عاشق لم يقو على قتل ليلى الايزيديّة

عماد الدين رائف

2018 / 1 / 15
الادب والفن


عندما تصل بك القراءة إلى الصفحة الأخيرة من رواية "افيندار" للكاتب الباحث عباس جعفر الحسيني تهتزّ الصورة الدموية الثابتة فجأة، تلك الصورة التي رافقتك طيلة فترة قراءتك الرواية (بيروت: دار الفارابي، 2017). أتراك تحتاج إلى قراءة ثانية متأنّية؟ هل يجب أن تعتمد طريقة أخرى في القراءة بحيث تستبعد الرواية الظلّ (الملحمة الكردية الأسطورية درويش عفدي وحبّه لعدّولة)، التي تسير بالتوازي مع أحداث قصّة العاشق علي وحبّه لليلى؟ أعليك أن تكتفي بالملحمة الجديدة للعاشق المهاجر في سبيل القضيّة الحلم والثورة الحلم؟ تدّعي أنّه كان الأحرى بالراوي في هذه اللحظة أن يقتل البطلة ليلى، عوض أن يلتقي بها علي في نهاية أحد مطافات الصراع، وذلك كي يتواءم مع المسار الدموي للأحداث، أو أن تكون روايته أكثر منطقيّة.. إلا أن هذا الاستنتاج "البسيط" عليه أن يمرّ عبر نفق طويل متعرّج متماوج من الأحداث التي خلقتها الحرب السورية، والتي تطغى بمشهديتها وبتسلسلها التاريخي على أيّ مشهد قد يكون من نسج الخيال.
تلك هي واقعية الجنون المتمادي في حرب أهلية بأبعاد إقليمية ودولية، بأغراض المتصارعين الحقيقيين وأدواتهم، بانزياح الجبهات وأربابها وبالتبدل بين محور ومحور في سنوات الحرب التي سبقت مشهد لقاء علي بليلى المنخرطة في صفوف المقاتلين الأكراد. إذن، لماذا لم يقتل الراوي ليلى في نهاية روايته؟ الجواب البديهي هنا هو أنّها كانت حيّة بالفعل، وربّما هي إلى هذه اللحظة خارج أوراق الرواية لا تزال حيّة، فالأحداث هنا واقعيّة طازجة غضّة بما يكفي ليلملمها الراوي وينسجها وجبة عربية دسمة إلى قرّاء قد يجهل معظمهم الخلفية الثقافية العامة لجيرانهم الأكراد، بالإضافة إلى جهلهم بجذورها الممتدة عميقًا في أرض هذا الشرق مذ كان الشرق. ولعل ما يشفع للراوي، كذلك، أنّه لم ينه روايته، بل قال "يتبع"، فلك هنا أن تنزع عن عينيك ثقل نظارتيك السميكتين، وأن تتمتم: ربما سيقتلها في حلقة مقبلة. وتكون انسيابات الأحداث الأسطورية لملحمة درويش عفدي قد تحكمت بحواسك.

هنا، ثلاث ملاحم في رواية واحدة. الملحمة الأولى والأكثر رسوخًا هي ملحمة حبّ درويش عفدي الايزيدي لعدولة المسلمة. وهو الحب المحرّم. ويُسجّل لعباس الحسيني أنّه دوّن ملحمة درويش للمرة الأولى في تاريخ الأكراد، وقد دوّنها بالعربية بصدق كما تُرجمت له من قبل كثيرين كما يظهر من النصّ وتقلباته، فتدخل وعدّل ورتّب الكلمات بصياغة أنيقة. وقدّم بذلك خدمة جليلة على الأدب الكردي الشعبي، ذلك بغض النظر عن الأحداث الفعلية أو شبه الفعلية لحكاية درويش عفدي الموثقة في بعض الكتب العثمانية، والتي لا ترتقي بحال من الأحوال رقّة الملحمة ولغتها الشعرية الغنائية وجماليتها التي صاغتها الأجيال وتناقلتها شفاهًا.
إذن هو الحبّ الحرام المكوّن لعناصر ملحمة تدور في فضاءاتها البعيدة لتشكّل للوهلة الأولى الخلفية الملائمة لأحداث آنية متسارعة على الصفحات أمام عيني القارئ. تتسارع وتيرتها بين النزوح وتبعاته، الحرب ومآسيها، ثقل الحال المعيشية القاسية الذي يرزح تحت وطأته اللاجئون، مع التعريف الموضعي بكل ما يتعلق بأدق التفاصيل بحياة الكرد الأيزيديين. يبني الراوي هنا ملامح ملحمته الثانية بسطوحها السردية، يبنيها قطعة قطعة ويلملم أحداثها حدثًا تلو الآخر، متدخلا بصورة صارمة في بنائها بقرار اعتناق الشاب للبناني الشيعي الجنوبي علي قضية لم يكن يعلم بها قبل لقائه ليلى المعشوقة الأيزيديّة. وتكامل العشق هنا يستتبع رحلة مستحيلة نحوها، في البعيد الكردي الأسطوري غير المكتشف بعد، ذلك المتكشّف عن نفسه صورة تلو صورة، وصولا إلى ليلى في جبال الأكراد البعيدة. يضعنا هنا أمام ملحمة معاكسة، أي القدر المردود.
فإن لعبت ملحمة درويش عفدي دور الطرد، تتكامل فسيفساء حب علي وليلى بموزاييك دور العكس. ونسأل، إن كان بإمكان الراوي أن يقنعنا بإمكانية حصول الطرد والعكس على سطح سردي واحد، مع فارق بالزمن طبعًا لكنّه غير ملحوظ، فما هي الخلفية الحقيقيّة للرواية إذن؟ أي قاع سردي يعدنا به عباس الحسيني؟
أي أن قصة حب درويش لعدولة تتماشى في السرد وتعقيدات الأحداث مع قصة حب علي وليلى، ولم تعد ملحمة درويش عفدي تلعب دور الخلفية الأسطورية التي كانتها للوهلة الأولى، بل باتت تضخ كمّيات جديدة مطلوبة من الأحداث المبنيّة على المشاعر لم ترد بوحًا على لسان العاشق علي حينًا، وتتلطى خلفها ليلى أحيانًا، بالإضافة إلى ما هو أبعد من المشاعر، إلى لغة مفقودة ورموز يزيح عنها الراوي الستارة لتتكشف معها عناصر الهويّة الكردية وعلاقاتها اللغوية واللهجية، بل وحتّى الطقوسيّة لدى الايزيديين.
نعم، هناك خلفية ثالثة، ليست الأشد وضوحًا، لكنّها الأكثر تأثيرًا، وهي ملحمة القائد آبُّو، رهين سجنه في تركيا، لكنّه المحرّك الأول للشعور والتفكير والمنطلق والاتجاه والغاية. هي الخلفية "الفلسفيّة" المطلوبة، التي تقول بوضوح قاس إنّ الغياب هنا هو أقوى مقامات الحضور وأكثرها تأثيرًا. فلا معنى لاستحضار حب درويش لعدولة، ولا حبّ علي لليلى بدون هذا المحرّك، الغائب – الحاضر دومًا.
إنّه مثلث الملاحم المحرّم، الذي أجاد عباس جعفر الحسيني تجسيده، حتى الكلمة الأخيرة من روايته... "في دروب لم يطأها أحد تجازف خطاك، ونحو أفكار لم تخطر على بال يجازف فكرك"، فإن كان بإمكاننا أن نقرأ هذه العبارة على أحد جدران مسرح "الأوديون" الباريسي ربيع 1968، يمكننا اليوم أن نعاينها تطل برأسها، مع كل شطر من ملحمة درويش عفدي، يسبح بين دفتي رواية "أفيندار" يظلله الحضور الدائم لملهم غائب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا