الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إستنطاق الموجودات بلغة فوق واقعية: الأسد خلق الغزالة خلقها ليأكلها لكريم الدريعي

كريم ناصر
(Karim Nasser)

2006 / 3 / 3
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لم ينل الشاعر (كريم الدريعي) حصته من النقد بالقياس إلى الشعراء من نفس جيله الشعري، ولم يخضع شعره لنقد تحليلي جاد، لكي يكون بوسعنا فهم تجربته بشكل أفضل، فمن الواضح أننا لم نكن لنرغم الناقد المختص على دراسة كلّ مطبوع شعري، ولكنّ مثل هذا الأمر في الحقيقة يستدعي بعض التساؤل: ما السبب الجوهري الذي يدعو إلى تجاهل (الدريعي) وتغييبه من العملية النقدية؟ ألأنه يكتب قصيدة النثر أم أنّ الغموض في اللغة بحدّ ذاته هو العائق؟ فإذا كانت قصيدة النثر على سبيل المثال هي المقصودة، فأنَّ هذا الموضوع يبقى من وجهة نظرنا لا يحتاج إلى الخوض فيه كثيراً، لأنَّ هذا الجنس الشعري أصبح الآن الابن الشرعي لقضايا الشعرية العربية، قبل أن يصبح جنساً موهوباً في الأدب. أمّا ما يتعلّق بالغموض فباعتقادنا لم يكن (الدريعي) شاعراً غامضاً كما يصفه الآخرون، وحتى لو كان كذلك، فالغموض بطبيعة الحال ليس ضعفاً أو تطرّفاً. الشاعر ملزم كغيره أن يتحدّى وأن يكتشف ويبتكر الأساليب والأنماط الشعرية، مما هو جديد ومختلف ومغاير، كونه مبدعاً وخلاّقاً قبل أن يكون كاتباً، فعليه قبل كلّ شيء أن يخترق جهد الإمكان صيرورة المقدّس والمحرّم، والمسكوت عنه، والمعقّد الخ.. تأسيساً لنموذج شعري ذات معيار رؤيوي، ومعرفي ـ ليس بالمعنى الفيزيائي ـ لأنَّ من العمق أن يبلغ نموذجاً من هذا النوع الأماكن الحسّاسة من الشعرية، بدليل جوهريته وأصالته وانفتاحه. وبما أنَّ اللغة هي معيار الخلق وديمومته المتواصلة بصفتها أداة إيصال، إذاً، فمن دون هذه الجدلية لا يمكن للجنس الأدبي أن يحقّق حضوراً كاملاً بمعنى من المعاني، خصوصاً إذا كان الأداء يخلو من صرامة لغوية. ((ولئن كان الشعر غامضاً، فلأنَّ هذا الغموض هو السبيل الوحيد إلى التمرّد على هذه الغائية النفعية التي صارت الهدف الوحيد، بل الأوحد لهذه اللغة، بسبب من أنّ هذا النوع من التأليف الشعري قد التفَّ على اللغة لينقّب في أعماقها، بغية فتح طرق جديدة في القول والتعبير الشعريين، وهو بهذا وحده سيعيد اللغة إلى مستواها الرؤيوي)) (1).
وإذا كان الغموض يُسبّب القطيعة مع الشعر، فإنَّ ذلك ليس إلاّ مجرّد تكهنات ((فلا يمكن تسمية الشيء بوضوح، لأنَّ في التسمية قضاء على معظم ما فيه من متعة. فإنّ الألفاظ اللغوية قاصرة عن التعبير عمّا في الشيء من دقائق يوحي بها هذا الغموض، على أنه يجب أن يكون غموضاً يشفّ عن دلالة بالتأمل، لئلاّ تصير الصورة لغزاً من الألغاز)) (2).

تجربة شعرية لا تتكئ على ما سبقها:

خلافاً لما نقرأه تؤسّس نصوص المجموعة (الأسد خلق الغزالة خلقها ليأكلها ـ لكريم الدريعي) رؤية شعرية حديثة، لا تتكئ على ما سبقها، ولا تتقبّل الجُمل الجاهزة المنغلقة على نفسها، فهي في الوقت ذاته مجرّدة تماماً من التقليدي، والإستاتيكي، والواقعي، فلقد اشتغل الشاعر على نصه بأمانة وحرص منقطع النظير، لخلق نموذجه الشعري المتميّز بشروط شعرية (شعرية النص) بسياقاته المختلفة. فقصيدة (الدريعي) من حيث المبدأ دلالية وصادمة، وأيّ تحوّل في بنيتها الدلالية ليس اعتباطيّاً بالمعنى الكلّي، وأن موضوعها لا يكتنفه غالباً إلاّ (الشعر وحده)، إذا فكّكنا بنيتها التحتية التي تكوّن وحداتها الأساسية، وأجواء كهذه تقودنا ضمناً إلى شعر مختلف بطبيعته وغنّي بمعانيه ودلالاته، فالاختلاف بهذا المعنى إنّما دوافعه التغيير، من حيث هو نزعة تنويرية، والحداثة من حيث هي (نزعة رؤيوية وروحية)، وهما حقيقتان لا بدَّ من تحقيق شروطهما على بنية النص. إذاً، فكلّ شكل شعري لا يحقّق شرط وجوده كمنجز إبداعي، يبقى في جوهره مجرّد تأليف، بخلاف الخلق الذي يستنبط غالباً شعريته من جوهره.
على رغم من قصر نفس قصيدة (الدريعي)، وخلوها من معايير جدلية وفلسفية ونفسية، إلاّ أنها من حيث المعنى لا تنفصم إرادياً عن الخط البياني للشعر بتصوير الخيال، ولا تفقد أنظمتها الدلالية في موضوع التأويل، فهي تنبض بالحياة دائماً، وتقترح وتوحي ولا تهادن، وتحاول اجتياز النموذج التقليدي بسياقه الأحادي بدل التوقف عنده (باعتباره أثراً)، منعدم السمات والتقنيات الفنية، نقرأ:
ـ ((كثدي في فم رضيع
كانت الثمرة فرحة، وهي تذوب في فم الغزالة)) ص35
يُسلّط الشاعر (كريم الدريعي) الضوء على عوالم غرائبية، ويستنطق بلغة شعرية (فوق واقعية) الإنسان والحيوان والنبات والطير والشجر، سعياً منه لتحقيق رؤية مختلفة (تتخذ الطابع ـ التحديثي ـ التمردي الأعمق) نموذجاً لها. محصّلة كهذه تقودنا إلى الاعتقاد بأنّ التحديث الشعري ليس تزويقاً لفظيّاً أو شكلاً فضفاضاً، قدر ما يصنع أسلوباً مغايراً ذات قيمة جمالية، فليس للواقعية حضور في النص الشعري المعاصر، وكلّ ما نقرأه ليس إلاّ تجليّاً لخطاب متعدّد الأوجه. أمّا التفاسير التي تخالف هذا التوجّه، فهي بطبيعة الحال لا تمثّل إلاّ تأويلاً مخطوءاً لخطاب محدّد الوظائف والدلالات..
نقرأ:
ـ ((الصباح عين صوص تطل من صدع البيضة)) ص85
ـ ((فيما كنت أتأمل التفاحة لمعرفة الزمن.. اللحظة
أشارت لي أن أسال العصفور)) ص100
الشاعر هنا مثقف، و ((إنّ القصيدة أية قصيدة تفصح عن ثقافة الشاعر وهمومه، ومهما حاول الشاعر أن يدعي غير ذلك تفضحه قصيدته، بسبب أنها جزء منه واقتطاع موثق من مشاعره وتصورات مخيلته)) (3).
فلنتأمل عن كثب هذه الصور الشعرية: ـ ((لدى التراب من الأُمومة ما يذيب كلّ الآلات
وينسجها أشجاراً)) ص56
ـ ((السمكة التي رميتها على اليابسة
ثم أعدتها إلى الماء
مكرّراً تلك اللعبة طوال يوم
كتمرين لي على الصيد
وتمرين للسمكة على الاحتضار )) ص129

كلمة لا بدّ منها:
ما يجده القارئ في هذه المجموعة الشعرية، هو التكرار شبه المفرط، والاستعمالات المحدودة السمات سواء تكون جُملاً أو كلمات أو أفكاراً، ولكننا لا نستطيع أن نفهم أنّ القصيدة القصيرة تسمح إلى هذا الحد بالتوسع الأسلوبي في اللغة المستعملة بوفرة الكلمات المتكرّرة.. كما أنّ تأويل الشعر بكونه كمّاً يفقده خصوصيته اللغوية، علماً أنّ من سمات النص الشعري القصير أنه (ذو طبيعة نوعية) يعتمد على الحدث الواحد، وما ندعوه قصيدة اللقطة ـ النواة ـ يؤكد استنتاجنا هذا.. انطلاقاً من هذا المعيار يمكننا أن نعتبر قصيدة الفكرة البارعة، والتشوتشو، والكوبلا، والهايكو، والجاركا هي أفضل مثال على ما نذهب إليه، لكنّ الشاعر (الدريعي) لا يلتزم كثيراً بهذه المعايير، وإنّ ما يثير الدهشة نراه يكرر المعطيات نفسها في بعض قصائده إن لم نقل معظمها، والتكرار في جميع الأحوال لا يمثّل إلاّ تشويهاً للنص، وهو ما يمكن أن يخلق بذلك تشوشاً في ذهن القارئ، فيفقد النص بعد ذلك (قيمته الإبداعية).. كما نلاحظ ذلك في تضاعيف الكثير من النصوص: إذ تتكرّر الكلمات التالية (السمكة، الكائنات، البيضة، البذرة، الجثة، الرحم، الأم، الحليب، الصوص، الماء، الغزالة، العصفور) مرّات عديدة. وتلافياً للالتباس (والخشية من مغبّة التكرار) ننصح الشاعر بقطع هذه الزوائد أو الاستغناء عنها قدر الإمكان، لكيلا يتحوّل النص إلى لوحة مشوّهة تطغى عليها الألوان المتشابهة. فالقصيدة القصيرة جدّاً مثلما نعرف لا تتحمّل هذا الكم الكبير من الكلمات المعادة والمتشابهة في جوهرها أحياناً، بخلاف الشعر الملحمي الذي في حدّ ذاته يستوعب التكرار، ولا يعتبره مثلبة، إنّما تنويعات صورية (لنظام الأحداث) وطبيعة اللغة وانزياحاتها، لأنَّ (الجنس الأدبي) في هذه الحال مندمج بالأشكال والصور الدلالية المتراكمة، ومتصل بها اتصالاً وثيقاً لا يقبل الانفصام.
ومن الضروري أيضاً أن ننبّه الشاعر إلى إكثاره المفرط لـ كاف التشبيه، ونزوعه إلى الوصف اللامبرّر بوصفهما تشويهاً، وينطبق هذا على القصائد الوصفية التي تكاد تكون بمعظمها محكومة (بمنطق معين)، مهما تبدو طبيعية في السياق، فمثلاً يستعمل كاف التشبيه في (الغزالة والأسد) 14 مرة، وفي (قصائد 1994) 19مرّة، وفي (صحراء) 16مرّة، وفي (قصائد 1993) 19مرّة.
مهما يكن من أمر نعترف ضمنياً بأنّ الشاعر (كريم عجيل الدريعي) يبقى واحداً من شعراء الحداثة الجيدين، ومثلما هو حريص على مادته الشعرية، فهو مخلص أيضاً لمشروعه الحداثي الذي لا يمثّل إلاّ جزءاً من اهتماماته في المشهد الثقافي.. فقلّما نجد شاعراً متمكناً من لغته، مثلما لاحظناه خلال قراءتنا له. وأيّة دراسة نقدية ذات الصلة لا تكون متكاملة ما لم تضع بعين الاعتبار، قصائد مثل: (حليب البغي) و (مناعة)، و (عش العصفور العقيم)، و (الربيع) و (الصيف)، و (فضاء البيضة) و (حجر الفلاسفة) و(الوردة) و (خلايا النبتة) و (المطر الأسود) و (منفى).
وأخيراً فإن مجموعته الموسومة بـ (الأسد خلق الغزالة خلقها ليأكلها) تجعلنا أن نحترم تجربته هذه التي كثيراً ما تلغي من سياقاتها منطق العقل، و (وحدانية الموضوع) مختزلة (اللغة) في نظام استعاري، أي (لغة داخل لغة) كما يقول فاليري، انطلاقاً من رؤية فوق واقعية، يدخل فيها السريالي والرمزي والغرائبي والمخيالي.. في حين أنّ أدواته تبقى متينة ومتماسكة دلالياً، ولغته عالية ومشذّبة، تخلو تماماً من الركاكة اللفظية التي نجدها عند شعراء آخرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رعد فاضل ـ الأديب العراقية العدد (7) 2004
(2) محمد غنيمي هلال ـ النقد الأدبي الحديث
(3) صحيفة الأديب العراقية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما محاور الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي؟


.. اشتعال النيران قرب جدار الفصل العنصري بمدينة قلقيلية بالضفة




.. بدء دخول المساعدات عبر الرصيف الأمريكي العائم قبالة سواحل غز


.. غانتس لنتنياهو: إما الموافقة على خطة الحرب أو الاستقالة




.. شركة أميركية تسحب منتجاتها من -رقائق البطاطا الحارة- بعد وفا