الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات

مصطفى زغلول

2018 / 1 / 29
الادب والفن


من لا يعرف شيئا لا يحب احدا..و من لا يستطيع ان يفعل شيئا لا يفهم احدا،و من لا يفهم شيئا لا قيمة له،و لكن من يفهم فانه ايضا يحب و يلاحظ و يرى .. و كلما زادت المعرفة بشيء..عظم الحب ..و ان اي انسان يتصور ان جميع الثمار تنضج في الوقت نفسه الخاص بنضج الفراولة لا يعرف شيئا عن العنب.(باراسيلسوس)
ثلاتي العظمة :
ـ القلب القادر عن الحب
ـ و العقل القادر على الحكم
و الضمير القادر على ضبط الاهواء

تتراكم السنوات من عمر الانسان مثل جبل من رمل يتسلى به طفل،وكلما علا ازداد هشاشة حتى يهوى من نفخة هواء...و تبقى الذكريات هي الدعامة الحقيقية التي تبقيه متماسكا بل هي المبرر لبقائه قائما فاذا اضمحلت تفكك و انهار.
و كلما استطال الجبل وهنت الذكريات في محاولة لايجاد رباط بين سنوات العمر فلا ينفصل الامس عن اليوم.. و كلما مضى العمر يئن الرباط من الاحمال كحبل يتعلق به الانسان فاذا انقطع هوى في بئر الانسان.
و يتم ذلك تدريجيا تفقد الصورة ملامحها و تبهت و تتشتت اجزاء الحدث و تتناثر تفاصيله و لا يصلح كقصة تحكى، و في محاولة يائسة للاحتفاظ بالملامح و التفاصيل يخترع الانسان ما انمحى و تبعثر منه لتكتمل صورة تصبح غير حقيقية و يتركب حدث يصبح كاذبا،و بذلك يعيش الانسان في الوهم حتى يمتنع عليه الوهم ذاته و يضيع منه كل شيء و ينتفي المبرر لوجوده فلا وجود للانسان بدون ذكريات ... و ذكريات القلب هي ادوم الذكريات و ذكريات العواطف اقوى من ذكريات الفكر ، و لذا يظل الانسان محتفظا لوقت طويل بقدرته على الحنين و الدموع.
اللقاء الاول:
لم يصدق عينيه و هو يراها جالسة على الاريكة الخشبية امام حوض زهور في حديقة اشتهرت بكثافة اشجارها حتى التعانق من اعلى، و عرفت بانها حديقة العشاق المفلسين او الذين يدون الابتعاد عن عيون الناس بالقدر الذي يسمح بتشابك الايدي..
كان بلجا الى الحديقة من وقت الى اخر هربا من عتامة البيت،و ليحتك بالشمس و النور تحريكا للايام الراكدة و يتسلى بمشاهدة الناس رمز الحياة،و ليتوقف في اثناء تجواله عند اماكن معينة شهدت لقاءاته معها.
و كلما اقترب من مجلسها تاكد من انها هي بعينها، نفس جلستها كملكة على العرش،نفس الالوان التي احبها،نفس ميل رقبتها الى اليسار و رجوعها قليلا الى الوراء...انه هي .. هي بدون شك.. لم تغيرها الاعوام الستون شيئا منذ ان رآها اخر مرة حين حدد اتجاهه اليها و مشى نحوها باصرار كمن يخطو نحو انسان على موعد معه التفتت اليه باندهاش و حيرة.. اقترب اكثر ..ابتسم و اضطرب.اسرع شهيقه و زفيره..
اقترب اكثر فالتفتت كلية ناحيته.لاح عليها الاضطراب دون ان تبتسم،لم تتصور انه يسعى الى الجلوس على اريكتها فالارائك خالية كثيرة،فظنت انه يريد السؤال عن شيء..و حين واجهها تماما واقفا قبالتها ذكر لها اسمه بنبرة التذكير فاضطربت اكثر و ظهر عليها انها تحاول بسرعة ان تسترجع شريطا و تقف عند مرحلة معينة.فابتسمت بما يعكس حيرتها و يكشف عن انها لم تستطع اقتناص شيء من الشريط و ذكرت له اسمها بنبرة من يحاول ان يدفع انسانا الى تصحيح موقفه او على الاقل للتاكد..فتهلل وجهه اكثر كمن خلص الى حقيقة لا زيف فيها.
جلس بجوارها دون ان تدعوه و ان ابدت عدم ممانعة سرعان ما نمت الى ترحيب.و لم يمهلها حتى تهدا و تلملم نفسها و بادرها:
هل تتذكرين؟
اتذكر ماذا ؟
علاقتنا حين كنا ؟
ساعدني على ان اتذكر
جلوسك على نفس الاريكة يعني انك تستعيدين ذكرياتنا؟
فعلا انا لي ذكريات جميلة في هذا المكان.
و هل كان هناك اخرون؟
كلها كانت مع شخص واحد احببته.
انه انا
ربما..
بل هو انا .
اظنك هو...
ساساعدك على التذكر .. هيا بنا نتمشى..
وقف قبلها و مد يده ليساعدها على الوقوف فترردت ثم مدت يدها فامسكها،و حين انتصبت سحبت يدها برفق ..مرا بشجرة عتيقة حاول ان يجد على ساقها الضخمة رسما لقلب و اسميهما فلم يجد فتعلل بفعل الايام.
و امام شجرة اخرى اكثر ضخامة و ذات فروع كثيفة تقترب من الارض قال لها كنا نستظل هنا ،ارادت ان تستريح تحت الشجرة فدعاها الى مزيد من المشي و التذكر.
و حاولت ان تساعده على التذكر فكانت تهز راسها موافقة على اشياء يحكيها و كانت تساعده في احيان اخرى بمزيد من التفاصيل،ثم بدات تعاتبه على انه نسى احداثا معينة مثل يوم الذي قالت له قبل يدي لكنه امتنع فتركته غاضبة.
و استمرا في حديث الذكريات في محاولة للاحاطة بكل تفاصيل الايام السعيدة ..يوما بيوم..و لحظة بلحظة..مواقف و احداثا و مشاعر... كتبا و اغاني و اماكن.التاريخ الشخصي و تاريخ الوطن و تاريخ العالم،ربطا الزمان بالحدث و المكان ثم بالاشخاص الذين صنعوا الحدث ثم الواقع الشخصي للحدث عليهما .كيف شعرا ..كيف استجابا.
عبرا مناطق في الذاكرة تفيض هياما و حنانا و حبا ، و لم تكن في الذاكرة اي مكان للالم و المرارة و اي غيرة او خصام.
ظلا يتسامران ساعة تلو ساعة .. يضحكان و يبكيان يتهامسان و يصرخان يحتدان و يتصالحان.
و بينما هما يتصافحان و يتواعدان على اللقاء في اليوم التالي قال لها بشبه مرارة متبقية منذ زمن بعيد لن انسى يوم ان اخبرتني بقبولك لخطبة ابن عمك لك.
ردت عليه بنفس المرارة : لم انسى و لم انس ما بيننا و انا ما زال كياني لك.
و تكهرب الموقف و خشي ان تخلف موعدها في الغذ فيفقدها مرة اخرى، و قد ينتظر ستين سنة ليراها مرة اخرى،و خشيت هي ايضا ان يخلف موعده في الغذ بعد ان حرك كل مشاعرها الانثوية،فقال لها و هو يضحك انا لم اتزوج حتى اليوم،فردت بضحكة عالية اثارت من حولهما: و انا ايضا رفضت ابن عمي و لم اتزوج حتى اليوم،و افترقا على موعد.
قبل الموعد
لم ينم ليلته و لم تنم ليلتها.
دب النشاط في كل جسده بينما هي نسيت شرب دوائها حيث لم تعاودها الالام في هذه الليلة..بحث هو في كل ادراجه عن صورة تذكر انها تجمغهما و ظل محتفظا بها..و نجح في ان يجمع اكبر قدر من صور له في شبابه..اما هي فارادت ان تفاجئه بتسجيل لكل اغاني عصرها التي احباها كما لم تنس صورها على مدى حياتها.
و ذهب الى الحلاق و كوى بدلته و اشترى قميصا و حذاء اما هي فاتت باحلى حليها و فساتينها.و بحثت عن عطر قديم كان معروفا في زمانها الاول اعتادت ان تنثره على ملابسها و هي تلقاه.
بدا في الاربعين رغم اعوامه الثمانين و بدت كطفلة رغم اعوامها التي ربما تزيد اعواما على اعوام عمره.
و التقيا و اخرجت من حقيبتها بعض الطعام و سكبت الشاي في كوبين فشعر بحنين طاغ الى ان يكون اسرة..لم يتردد في طلب الزواج فابدت موافقتها على ان يتم ذلك على مراحل لكل سنتين سنتين سنتين.
ادارت جهاز التسجيل فقال لنفسه هذه المراة لا تنسى اي شيء،و جاءهما صوت مطربة زمان تحكى عن لقاء الحبيب في الغذ،ثم اتبعتها باغنية من نفس المطربة تحكى عن حالها و هي تتهيا للقاء حبيبها،ثم انتهت الى اغنية تحكى عن الذكريات و مضى الوقت و كانهما في حلم و نسيا الدنيا و ما فيها و اطلعها على صورتهما معا فابدت دهشة و صرخت هذه ليس صورتي فاعترض و قد بدا الخوف يتسرب اليه: بل هي صورتك.
داهمها الجزع و قالت له: ارني صورك و انت شاب فانهارت و قالت له: لست انت
فقال باسى: بل انا.
و ران عليهما الصمت و وجه كل منهما راسه الى ناحية في محاولة لاستعادة التماسك. و مضى في راسها امل سيكون هو اذا تاكدت من الاصبع الاكبر للقدم اليمنى غير موجود حيث كان قد فقده في حادث،طلبت منه ان يخلع حذاء قدمه اليمنى و ان يكشف عنها، استغرب لطلبها و لكنها الحت فهم انها تريد التاكد من علامة معينة استجاب لطلبها و كانت اصابع اقدامه كاملة.
و في اليوم التالي مباشرة جاء كل منهما في الموعد الذي لم يتفقا عليه.و مضيا و يداهما متشابكتين في اصرار.
فالنبض دليل الحياة،و ما زالت ذكراها نابضة في عقله دافعة بدماء حارة الى عروقه كلما عبر اثر ارتبط بها،لحن او شارع او عطر او أبيات شعر،و حين تخطر بالبال يفور بالوجدان كانما يتلظى بنار،و ما هي بنار انما هي شوق بارح،با للعجب فقد مرت سنوات و سنوات و انقطعت الصلة و تجمد رصيد الذكريات و تراكمت اطنان من المشاعر اقبلت من كل اتجاه و لعب الدهر لعبته المعروفة بتتابع الافراح و الاتراح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل الامتحانات.. خلاصة مادة اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية


.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي




.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال


.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما




.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم