الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان المتناقض

صيقع سيف الإسلام

2018 / 2 / 2
الادب والفن


أنا الآن في معرض الدفاع عن نفسي ، يلقبونني بالمحامي الفاشل ، ولم أعقد مع موكل منذ فترة . حسنا ، أنا أعكس التهمة و أقول : هم الفاشلون . خسرت قضايا كثيرة بحجة هي من نسق واحد ، يأتي على ذكرها خصمي في قاعة المحكمة ، أعني أنني أتناقض في حججي و استرسالي في التفاصيل ، وبناءا على هذا التناقض أخسر القضية ، على أنني أعترف كوني أبذل ما في وسعي حتى أجعل ما يصدر عني واضحا شفافا ، لكنه واضح دقيق دقة الشعرة ، و شفاف شفافية قطرة الماء الواحدة التي إن لم تملك عينا ثاقبة ستراها فقط وهي ضمن التراب تبلله أو تسيل فوق ورقة خضراء ، أما القطرة ذاتها بنقاءها التام فصعب جدا ، إذن لست فاشلا حتى في طريقة عرضي لما أضعه فوق الطاولة ، بل للزومية احتياجه ذهنا حادا و ذكاءا خلاقا و نفسية تشبه الماء و الزجاج الصافي . . . هذه الأفكار تطرق ذهني الآن و أنا أستعد كي أبرر تناقضي الذي يتهمني به القاضي و خصمي المحامي ، و حتى يفوز موكلي و يثق بي ، و يفهم عني جمهور المحكمة كلهم . قلت :
يا سيدي القاضي ، أيها السادة الأفاضل ، السيدات الفاضلات ، المحامون و هيئة المحلفين ، أود أن أتقدم باعتذار مسبق عن كوني سأخرج من نطاق محاكمتنا قليلا ، أحتاج فرصة ضئيلة و نافذة ضيقة لأثبت وجهة نظري عن الإنسان المتناقض ، و من خلالها أعود أشرح بناءا على فكرة الإنسان المتناقض أن أدلتي التي وضعتها على الطاولة متعاضدة متكاملة لا متنابذة متناقضة ، يا سيدي القاضي ، إن ما يجول في خاطرك و السادة الحضور هو أن كل كلامي و تحليلاتي و حججي تدين موكلي أكثر مما تقود نحو براءته . حسنا ، ليس الأمر بسيطا كما يبدو ، ذلك أن هناك قسمين للتناقض عند الإنسان ، التناقض الأول وهو المشهور بانتفاء اجتماع الاحتمالين ، أن يكون الأمر على هذه الشاكلة لا عن ضدها و نقيضها في الطرف الثاني ، و هذا خلاف ما أنا عليه حقيقة ، بل هو ما جال في بالكم و لازال . التناقض الثاني ليس في ذاته تناقضا حقيقيا بل هو فقط شيء على مستوى عال من الدقة و الشفافية ، و لقوة خفاء دقته و بعد غورها تبرز عند المتلقي تناقضا و لا تكاملا بل تضادا ، هذه حالتي معكم أيها السادة الأفاضل ، و لا تفهموا عني تذليلا لقوة أفكاركم ، بل افهموا عني مستوى على دقة أكبر ، و هذا ليس تناقضا من جديد ، على كل حال ، هذا ما أريد بيانه . لقد حضرت في إحدى الأمسيات معرضا فنيا هائلا ، ضم أعيانا و قامات كبرى في عالم الفن ، عالم اللوحات المرسومة أقصد ، هناك أمام هؤلاء القامات و عباقرة الفنون تم وضع لوحتين من شاكلة اللوحات التي تشبه اللطخ و البقع فقط ، هي لطخ و بقع بالنسبة لمن لا يحيط بكنهها أيها الأفاضل ، و إلا في رمزيتها و دلالتها بقايا إلهية صدقوني . آسف على استطرادي المخل مجددا . أعود فأكمل :
لقد كانت اللوحتان متشابهتان إلى حد بعيد ، الجمهور الحاضر كلهم اعتقد أنها نسخة مطابقة ، أنا أيضا ظننت ذلك ، بيد أن النقاد انطلقو في عملية تحليل و فحص شديد لكلا اللوحتين المتشابهتين ، فأما النتيجة التي خلص إليها النقاد فكانت كالآتي : كلهم إلا واحدا اعتبر أن اللوحتين لا يجمعهما رابط مشترك ، البقية من النقاد حكموا بأن اللوحتين من صنع فنان واحد ، وعند تبرير الناقد الشاذ عن حكمه باختلاف اللوحتين قال بأن هناك نقطة سوداء واحدة في الجهة اليمنى من اللوحة هي الفارق بين الللوحتين و أن اللوحة صاحبة النقطة السوداء من صنع فنان كان يرمز إلى إظهار التناقض في الدراما الإنسانية بمسحة تعبيرية داخلية ، أما اللوحة الثانية فهي من صنع هاوي لا يمت الفن بصلة ، والتشابه كان اتفاقيا فقط ، لكن تركيبة اللوحتين بالمعنى تبتعد بمسافة السماء عن الأرض . . . أيها السادة ، لقد تم التعرف لاحقا عن هوية من رسم اللوحة بغير النقطة السوداء ، لقد كان قردا يلعب بالألوان . أيها السادة إن اللوحتين متشابهتين أعظم التشابه ، تفصلهما نقطة سوداء واحدة غير بارزة ، لوحة رسمها قرد ، ولوحة رسمها فنان عظيم نسيت اسمه ، أيا ما يكن ، إنه برغم التشابه الفريد فلوحة تمثل سخافة و لعبا بالألوان ، وأخرى تمثل عملا إنسانيا دراميا عظيما يبخع له قامات الفن و الأدب ، فهل تدركون أيها الحضور الكريم أن يكون الفرق بين العملين على كل هذا المستوى من الدقة ، برغم أن غير ناقد واحد حكم بكون اللوحتين من صنع يد واحدة ، و لأن الأقدار تكون كريمة أحيانا فقد كان ضمن المحفل الفني أحد عباقرة الرياضيات ، ولم أستطع التعرف إليه بدءا ، كنت قد حكمت بأنه أبله من بلهاء القرى ، و هاهي القصة باختصار :
كنت واقفا بجانبه ، وكانت تصدر منه تصرفات غريبة تعرفت عليها لشبه هذه التصرفات بمجنون من بلدتي ، كان العبقري يلعب بأنفه كثيرا ، و ينظر للوحة و رأسه مقلوب ، يهترف ببعض الكلمات دونما سياق يجمعها أو مشترك يربطها ، حتى أن لعابه سال علي قليلا ، هذا إضافة إلى أشياء كثيرة أخرى لاحظتها عنه ، كان نسخة طبق الأصل من المجنون الذي يسكن بلدتي . في أول الأمر و لغرابة تصرفاته لم أملك الجرأة للنظر في وجهه ، لكن وحين اقترابي شدهت حتى خسرت توازني ، لقد كان العبقري هو نفسه المجنون من بلدتي ، يشبهه تماما ، بل لو وقف العبقري بجانب المجنون لما قدرت على التمييز بينهما ، و بقدر ما يتسم هذا بالغرابة فهو واقعي ، واقعي جدا صدقوني، أيها الجمهور المحترم . . . لاحقا علمت أن أن المجنون و العبقري كانو إخوة توأم ، فانظرو لدقة الفرق بين الجنون و العبقرية ، إن بينهما شعرة واحدة أيها السادة ، و لو أن أفرادا كثيرين شاهدوا العبقري لوصفوه بالجنون دونما ارتياب ، لقوة الشبهة فيه ، مثلما حدث لي ، كم كانت في تلك الساعة كلمات فيلسوف العبثية ألبير كامو صادقة : كل عبقرية هي في الوقت نفسها قريبة و تافهة ، وهي ليست شيئا إذا كانت إحداهما فقط ..
خلاصة ما أحب بلوغه هو : أن الإنسان العبقري الفنان البالغ من مستوى الوعي و الفهم الشيء الكثير و العميق ، عميق الأبعاد ، قلت هذا الإنسان يبدو في كثير من الحالات أنه متناقض ، و الواقع أن من يشاهده يرى التناقض وهو غير موجود أصالة ، فقط يحتاج براعة و رشاقة عالية لكي يمر المتلقي بين تلك الشقوق الرقيقة جدا ، و الحفر الغير واسعة . إن الإنسان المتناقض هو أحوج الناس إلى مزيد من قدرة التعبير عن النفس بوضوح ، فتفاقم العمق و البعد يجعل تعبير الإنسان يبدوا متناقضا و سطحيا ، ولو أن هذا الإنسان عينه امتنع عن الحديث و بلغ من القوة أن يكشف صدره و عقله دونما احتياج إلى لغة ، فالمتلقي سيفهم الصورة بوضوح وهو يشاهدها تسير في عقل و صدر هذا الإنسان العميق ، إن هناك بقية باقية دوما داخل الدماغ الإنساني لا تخرج و هي التي تحتوي على الجوهر الأساسي لما يريد الإنسان تفهميه لمن حوله ، و أقصى من يعاني من هذه البقية الباقية هو الإنسان العميق ، ولذلك هو بلا ريب صاحب طبع انطوائي ، ينعزل من حوله ، و يتحد بما حوله ، فمن حوله من الناس أشخاص ذوي بعد واحد مستقيم خطي ، يتهمونه دوما ، و ينعتونه بأنه أبله و غير مفهوم و متناقض و ساذج العقل ، لهذه الاتهامات يذهب الإنسان العميق كي يتحد بما حوله ، ما حوله من الأشياء العميقة ، الفنون ، الكتب المقدسة ذات الدلالات الرمزية القوية ، و العلوم التجريدية التي تختزل الطبيعة في قانون واحد ، و لنقل الكون كله بما هو ضمن آخر بلايين السنين . . . درجة عمق غائرة هي أمر يتجاوز حدود اللغة البشرية الساذجة التي لا تعرف كيف تصوغ تلك الأعماق كي تبرزها على صورتها الحقيقية المثالية ، و ليس الفن و الرمزية و التشفير و الإشارة و كل الأساليب البشرية إلا إثبات لعجز وقصور هذا القاموس من الكلمات الذي يتواصل به بنو الإنسان . العميق ذاك الإنسان ليس متاحا للفهم و التمتع بمدى عمقه إلا بنظير له يقاربه في العمق و بعد الغور ، أقول : إنسان عميق متاح له فقط عميق آخر يشبهه ، عدا هذا سينجم اتجاه و مقاربة للجنون أو التصوف العظيم ، سينجم راهب عظيم أو عدمي مجنون ، حيث الحاجة إلى الآخر الإنساني لازم بوعينا أو بغير وعينا ، بواسطة أو بدون واسطة ، و الإنسان العميق إما أن يجد غناه في الله المطلق فيصبح راهبا عظيما ، أو أن لا يجد غناه في ذلك فيكون عدميا مجنونا ، و على درجة العمق تكمن درجة هذا وذاك .
اعتذر أيها القاضي على هذا الاستطراد البعيد عن موضوع محاكمتنا اليوم ، أردت فقط بيان أن ما أتيت به ضمن الدفاع عن موكلي هو شيء يمتاز بتناسق شديد ، ولفرط دقته غاب التناسق في الأذهان و استحال إلى تضارب و تصادم غير مقبول ، هكذا عدلت كي أثبت أنني الإنسان المتناقض بمعناه الإنسان العميق جدا ، حتى إذا اتضح هذا يا سيدي الفاضل ، صار بإمكاني توضيح ما جاء في معارضتي و طرحي ، و لأني تكلمت بصيغة عامة ، فالربط بين ما شرحته الآن وبين قضيتي لازال لم يحدث ، فأنا أقدم استقالتي الآن و أعتزل القضية ، كوني أعلم ما أنا بصدده سينتج تناقضا آخر ليس إلا ، فأطلب التوفيق لموكلي وللجميع ، و أعطي الساحة لمحامي يجيد التعبير عما يجول داخل عقله و صدره ، يجيد بعث الصدى الذي يحوم بين تلافيف خلاياه . . . هكذا أنا أعتزل المحاماة مرة و للأبد ، شكرا لاستماعكم أيها السادة.
خرجت من المحكمة و أنا أعلم أني فوت فرصة انقاذ موكلي من تهمته ، ذلك أني لا أدافع إلا عن بريء ، لكنها كانت لتكون مضيعة للوقت ، أن أبين لهم أني ذلك الإنسان العميق هو تماما أن أبقى أشرح لوحة النقطة السوداء أنها ليست لوحة القرد ، سأبقى أشرح لعشرين سنة دون فائدة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل