الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرحيل الى الجزائر

سهر العامري

2018 / 2 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


الرحيل الى الجزائر* سهر العامري
في جو ملبد بالجرائم والقتل والمطاردة من قبل أجهزة الأمن التي كان يقودها صدام ، ومدير الأمن العام الايراني الأصل ناظم كزار تركت انا العراق ، وسافرت الى القطر الجزائري ضمن بعثة تعلمية عراقية ضمت ثلاثمئة مدرس ومدرسة من الخرجين الجدد طلابا وطالبات ، وذلك من أجل الاشترك في معركة تعريب الثانويات الجزائرية بعد أن سبقتنا بعثات تعليمية عراقية على مستوى التعليم الابتدائي ، وهي ولا شك كانت تجربة قاسية بذلنا فيها جهودا كبيرة من أجل انجاحها رغم الصعوبات التي واجهتنا خاصة في الأيام الأولى من وصولنا.
حملتنا طائرتان عراقيتان من مطار بغداد الذي أفتتح للتو ، فقد كانت الحكومة العراقية هي التي تحملت نفقات سفرنا اسهاما منها في مساعدة الجزائر ، وبعد ساعتين او أكثر حطت بنا الطائرتان في مطار أثينا من اليونان ، وحين ترجلنا من الطائرتين لقاعات الاستراحة في المطار المذكور هرعت نحونا شرطة المطار ، ووجهتنا الى قاعات بعينها خشية من حدوث مشاكل بيننا ، وبين المسافرين الايرانيين والايرانيات والمسافرين الاسرائيليين والاسرائيليات الذين جمعتهم قاعة واحدة من قاعات ذاك المطار .
وقتها لم نكن نفرق بين الايرانيين والاسرائيليين حين كنا نرمي بأبصارنا نحوهم ، فقد كانوا جميعا منهمكين بأحاديث ودية لم نكن نتبينها ، وما هي إلا ساعة واحدة أو يزيد تركناهم يتضاحكون على حالهم ، وعدنا الى الطائرتين من جديد ليحطا بنا فيما بعد في مطار الجزائر العاصمة ، ذاك البلد الذين كنا نتعاطف اعلاميا وماديا مع نضال شعبه ضد الاستعمار الفرنسي البغيض الذي اعتبر الجزائر بأرضها وشعبها وتاريخها فرنسا ما وراء البحار ، فلقد ظن المجرمون أو الوحوش الفرنسيون ، مثلما يسميهم الشاعر الجواهري ، أنهم لن يرحلوا عنها أبدا . ولم أكن أنا ذاك الطفل الذي كان يعلق صورة المناضلات الجزائريات من مثال جميلة بوحيرد على جدار غرفته ، مثلما كنت قد ألقيت قصيدة شعبية هاجمت الاستعمار فيها ، على مسامع الطلاب والمعلمين في المدرسة الابتدائية التي كنت أدرس فيها ، وذلك خلال اصطفاف الطلاب في يوم الخميس لتحية العلم العراقي ، وكنت أنا وقتها في الصف السادس الابتدائي.
حين سافرت الى الجزائر كنت أحمل معي ديوان الشاعر محمد مهدي الجواهري بجزأيه ، وكانت فيه قصيدة رائعة كتبها الجواهري عام 1956م أيام الثورة الجزائرية هي :
"جزائرُ" يا كوكبَ المشرقَيـن ** دجا الشرقُ من كُربةٍ فاطلُعي
ويا عَقِبَ العـرب الْمُغْرِبين ** أعيدي صدى "عُقبةٍ" تُسمعــي
أجدّي عهوداً عفـتْ وابعثي ** نوافـــحَ من ســفرها الممتــعِ
إذِ الحقُّ يغمر من بلقـــعٍ ** ربى الخلد في مسكـــه الأضـوعِِ
وإذ "يثرب" تُلهب المشرقيـنِ بالعبقـــــري وبالألمعـــــي
وإذ يهــزأ البدويُّ الأميـنُ من تاج قيصــــرَ أو تُبَّـــــعِ
"جزائر" يا جدثَ الغاصبين بوركت في الموت من مربــــــع
ويا نبعةَ الصُّبُرِ للصامـدين لوَتْها الريـــــاحُ ولم تقطـــعِ
تعاصت فلم تعط من نفسها ** لنكبة جزعاء من زعــــــزع
ثبي.. فمناط رجاء الشعوب ** وموت الطواغيت أن تفرعــي
"جزائرُ" سامَكِ خسفَ الهوان شـرعٌ لمثلـك لم يُشـــــرعِ
وسفرٌ به الْمُثُلُ الصــالحاتُ رُدَّت إلى الخلق الأوضـــــع
أذيلـت صحائفــه النيراتُ وديست وليثت بمستنقــــــع
مشت لك "باريس" أم الحقوقِ! وحشاً يـدب على أربـــــعِ
تمزق أظفـــاره أمــةً **بحــق الحيـاة لهـا تدعــي
"فرنسا"! وما أقبح المدعى ** كِذابـاً، وما أخبـث المدعــي
فداء لمقصـــلة الثائرين ** مجازر للشــيب والرضـــع
لك الويل من رائم أُطعمت ** دم الراضــعين ولم تشبـــعِ
لك الويل فاجرةً علَّقت ** "صليبَ المسيح" على المخـــــدع
تَهدم "بستيل" في موضعٍ ** وتبني "بساتيلَ" في موضـــــعِ
أمِنْ "مشعل النور" ما تحرقين ** أباة على الضيم لم تربـــعِ؟
ومن يوم "تموز" ما ترسلين ** شواظاً على هُلَّعٍ فُــــــزَّعِ
ومن "مطبخ" الثورة المدعاة ما رحت تطهين للجـــــــوَّعِ
فيا سوأة الدهر لا تطلعي ** و يا بؤرة الغدر لا تنبــــــعي
ويا قرحة في صميم الشعوب قيئي صديدك واستبضــــــعي
تواري فإن هوان الحياء والطهر والعدل أن تطلــــــــعي
وظلي بحيث يظل الغراب يحدج في جثث وقـــــــــع
ردي علقم الموت لا تجزعي ** ولا ترهبي جمرة المصــرعِ
فما سُعِّرَتْ جَمَرَاتُ الكِفـاحِ لغَيرِ خليــــــقٍ بِـــها أروعِ
ولا تَهِني إن سومَ الفَخـارِ يَشُقُّ على الهيِّنِ الطيِّـــــــــعِ
دعي شَفَراتِ سُيوفِ الطُّغاةِ ** تُطَبِّقُ منكِ على الْمَقطــــــعِ
فأنشودةُ المجــد ما وُقِّعَت ** علـى غير أَوْرِدَةٍ قُطّــــــع
وخلي النفوسَ العِذابَ الصلاب ** تَسيل على الأَسَل الشُّـــرَّعِ
فســاريةُ العـلمِ المســتقلِّ بغيـر يــدِ الـمـوتِ لم تُرفــعِ
ومُدِّي يداً لِمَجَــرِّ النُّـــجُوم ** وأُخــرى إلى الْجَدَثِ البَلْقـعِ
فإنك والموتُ دونَ الحيـاضِ ** صنوانِ للشـرف الأرفــــعِ
رِدِي علقمَ الموت بئسَ الحياةُ ** تُرَنَّقُ بالذل من مَكــــــرعِ
حين خرجنا من المطار استقبلنا وفد من وزارة التعليم الجزائرية مع مجموعة من حافلات نقل الركاب حملتنا الى ثانوية الثعالبية الكبيرة الواقعة في ضاحية حسين داي القريبة من مركز الجزائر العاصمة ، وقد كانت بناية هذه الثانوية في الأساس هي المقر الرئيس لآخر دايات العثمانيين في الجزائر ، وهو الحاكم الذي استغل الفرنسيون ضربته لقائد عسكري فرنسي بالمهفة " المروحة اليدوية " وعلى إثر هذه الحادثة غزت فرنسا الجزائر ، وطرت العثمانيين منها ، وذلك سنة 1830 م .
في هذه الثانوية عينت أنا وأربعة من أصدقاء لي كنت أنا قد كتبت أسماءهم بورقة ، وقدمتها للجنة التعينات التي تواجدت في الثانوية نفسها ، وبعد دقائق عاد لي أحد أعضاء هذه اللجنة ، وسلمني خمسة أوامر تعين لي ولأصدقائي ، ووقتها سألت هذا العضو هل بإمكاننا المباشرة بعملنا الآن ؟ فأجابني بالإيجاب ، ولهذا طلبت من أصدقائي أن نذهب الى إدارة الثانوية التي كانت تعمل بعد ظهر ذلك اليوم ، وفيها سلمنا أوامر تعيننا للمدير الذي رحب بنا ، ووعدنا بتسلم الجدول الدراسي لكل واحد منها في اليوم الثاني .
كانت الثانوية الجزائرية التي دب في جسدها التعريب للتو لا تملك كتبا لدرس اللغة العربية ، وغيره من الدروس المعربة ، ولكننا زودنا بمفردات المنهج فقط ، وصار لزاما على كل واحد منا أن يعد الدرس في الدار ، ثم يقوم بتدريسه في الثانوية ، ولهذا كانت بعض أبيات قصيدة الشاعر الجواهري المذكورة هي أول أبيات قمت أنا بتدريسها لطلاب الثانوية المذكورة .
طالما ذكرتني قصيدة الجواهري هذه بالدعم الكبير الذي قدمه عبد الكريم قاسم بعد قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 م ، فقد فتحت الثورة هذه أعيننا على نضال الشعب الجزائري حين كنا نحن طلابا في المدرسة الإبتدائية ، ولم أنس أنا ذلك اليوم الذي كرس فيه زعيم الثورة خطابه الجماهيري لنصرة الثوار الجزائريين ، وذلك في منحهم مليوني دينار سنويا ، مثلما تعهد بتقديم السلاح لهم ، يضاف الى ذلك أن الزعيم رفع درجة ناحية الجبايش في هور الحمّار الى درجة قضاء ، وسماه هو بنفسه بقضاء الجزائر معللا ذلك بشجاعة عرب الأهوار الذين قاوموا القوات الانجليزية التي غزت العراق أثناء الحرب العالمية الأولى ، تلك الشجاعة التي شبهها بشجاعة الجزائريين في مقاومتهم لقوات الاحتلال الفرنسي.
بهذه الصور التاريخية التي حملتها عقولنا وقت أن كنا صغارا رحلت أنا الى الجزائر ليس بدافع الراتب والوظيفة ، وإنما بدوافع وطنية صادقة ، وعلى خلاف ما كان يعتقد به نفر من الجزائريين أننا أتينا للعمل لا غير ، وليس من أجل أن نخوض معركة التعريب فيها ، تلك المعركة التي حاولت أطراف جزائرية متعدد افشالها بدوافع مختلفة ، ففي الأيام الأولى من وصولنا لم نحصل على سكن مريح ، وبجهودنا الشخصية حصلنا على ذلك السكن في مكان يبعد عن ثانوية الثعالبية التي نعمل فيها في حسين داي عدة كيلومترات ، ولكن مع ذلك لم أذكر أن أحدا منا قد تغيب طوال تلك السنة عن العمل حتى ليوم واحد .
تكاثر عدد المدرسين العراقيين بعد أيام قليلة من مزاولتنا للعمل في تلك الثانوية ، وبلغ عددنا ستة عشر مدرسا عراقيا وباخنصاصات مختلفة ، وهذا ما أثار حنق بعض المدرسين من الفرنسيات والفرنسين العاملين معنا في الثانوية ذاتها ، والى الحد الذي زعمت فيه احدى المدرسات الفرنسيات في اجتماع للمدرسين يقوده مدير الثانوية أن كثرة غيابات الطلاب مرده لكره الطلاب للغة العربية ، بالإضافة لهؤلاء الفرنسيين كان هناك بعض الجزائريين ممن يعملون في الثانوية ذاتها أظهروا كرههم وحقدهم لنا ، وكان في مقدمة هؤلاء ممن يسميهم الجزائريون بالمتفرنسين ، وكان من بينهم محاسب الثانوية الذي يسمونه بـ ( المقتصد ) ، والذي ردد ذات صباح على مسامعنا بأن أبناء فرنسا هم من ربوا الجزائريين وعلموهم ، وليس نحن المدرسين العرب ، وزاد على ذلك أنه أساء لبعض المدرسين العراقيين حين كانوا يتناولون طعامهم ، وعلى حسابهم الخاص في مطعم الثانوية ، وهذا ما حدا بأحد المدرسين العراقيين وكان ملاكما الى ضربه ضربا شديدا ، ثم على إثر هذه الحادثة تركنا الأكل في مطعم الثانوية بشكل نهائي ، ثم قمنا بعرض الحادثة مباشرة على الملحقية الثقافية العراقية في العاصمة الجزائرية ، وقد استمع لنا الملحق العراقي بإخلاص ، وبدوره عرض تلك الحادثة على وزارة التربية الجزائرية ، وعلى إثرها تم نقل محاسب الثانوية المتفرنس الى مكان عمل آخر .
لم تؤثر هذه الحادثة على عملنا في الثانوية ، وصرنا نبذل نشاطا أدبيا حتى خارج الثانوية ، وساهمنا مساهمة فاعلة في اماسي الأربعاء التي كانت تقام في قاعة الموقار في مركز العاصمة ، تلك الآماسي التي كان يشرف عليها الرجل الودود الأخضر السائحي الصغير ، هذا بالإضافة الى أنني كنت أكتب في جريدة الشعب التي تصدر بالعاصمة خاصة في صفحتها الثقافية التي كان يشرف عليها الشاعر الجزائري ابو القاسم خمار .
وذات يوم دعاني مدير الثانوية أنا وصديق لي هو أمين قاسم ، طلب منا أن نشارك في أمسية رمضانية تقام في الثانوية نفسها ، وقد عدته أنا بكتابة قصيدة ألقيها في تلك الأمسية الرمضانية ، وقد كان تفوه المدرسة الفرنسية المسموم ، وتصرف محاسب الثانوية الجزائري المتفرنس معنا حاضرين في ذهني ، ولهذا هاجمتهما في قصيدتي التي لم تكن قد ولدت بعد ، والتي سميتها : رمضان الغريب ! التي بلغ عدد أبياتها ستون بيتا لم يبق منها في الذاكرة غير الأبيات التالية :
رمضان الغريب :
أنا عاتبٌ رمضانُ جئت غريبــــا
متسربلا ثوبـــا بكاً ونحيبــــا
أنا عاتبٌ والدمعُ ينسجُ أنتـــــي
لحنـــا يصـك بخافقي ليذوبـــا
حدثْ بما يُزهي النفوسَ فإننــــي
ثغرٌ لبغداد العراق طروبــــــا
مترنمٌ والحزن ملءَ جوانحــــي
فيضا وما قد كنت فيك كئيبــــا
للآن من زرياب ملءَ مسامعـــي
نغمٌ يرددُهُ الزمان ضروبـــــا
وأرى على قصر الخلافة شامخــا
هــارون يرفلُ بالعطا لتطيبـــا
والسوح ترقص والنسيم ودجلـة ٌ
حسناء ما بين النخيل لعوبـــــا
* * *
عــذرا جزائــرُ إنني بك ناســجٌ
ثوبا وفي حزن الفراق مشوبـــــا
لا تغضبي فالطيرُ من أناتــــــهِ
يشدو جراحا تارة ً ونسيبــــــا
طير الحمـــام أنينُـهُ بهديلـــهِ
والناس من جهل ٍ تراهُ طروبــــا
خلي لمكلوم الفؤاد جراحَــــــهُ
يا نسمة ً أزكى النسيم هبوبـــــا
يا كوكبــا مرق الظــلام بنــورهِ
وضـاءَ يكرهُ ظلمــة ومغيبــــا
المعتدون وقد تبــدد كيـــدهــم
مالي أرى نفرا يشق جيوبــــــا
الهاجمات وفي عقور بيوتنــــــا
خابت ولاحقها الزمان ذنوبــــــا
بالخلق تطفح بالعلـــوم أتتكــــم
ضرعا بأيدي الغافقيّ حلوبــــــا**
صبوا لنـــــار بالزيوت توقـدت
ماءً يزد منهــــا اللهيب شبوبــا
ـــــــــــــــ
* هذا مجتزأ من كتاب سيصدر لي عما قريب.
** نسى الرهبان الفرنسيون وقتها لغتهم وصاروا يكتبون باللغة العربية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احمد النشيط يصرح عن ا?ول راتب حصل عليه ????


.. تطور لافت.. الجيش الأوكراني يعلن إسقاط قاذفة استراتيجية روسي




.. أهم ردود الفعل الدولية حول -الرد الإسرائيلي- على الهجوم الإي


.. -حسبنا الله في كل من خذلنا-.. نازح فلسطين يقول إن الاحتلال ت




.. بالخريطة التفاعلية.. كل ما تريد معرفته عن قصف أصفهان وما حدث