الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرب الاهلية .. دارفور نموذجا ، أزمة نظام عسكري وقوى عالمية تبحث عن نفوذ

علي عبد السادة

2006 / 3 / 7
الارهاب, الحرب والسلام


الاقتتال في دارفور، مر بمراحل تاريخية مهمة. أجتمعت لتنمي صراعا بدائيا حول (الارض) ، ( المزروعات) بين قبائل ، لطالما تعايشت فيما بينها بصورة طبيعية ووفق أرادة حرة في التعايش، على أقل تقدير قبل منتصف ثمانينات القرن الماضي. ولعبت سياسة النظام السوداني ، ذي الطابع العسكري، دورا سلبيا في أنماء وتعميق حدة الصراع لتلبسه ثوبا عرقيا -قوميا مقيتا، مازال السودانيون ، حتى اللحظة، يشعرون بثقل هذه الظاهرة وتأثيرها المتزايد على الانتماء الاول للوطن. وساعد على ذلك، عمليات الاقتتال البشعة والترحيل والاغتصاب والتجويع لاهالي دارفور.لذا كانت الحاجة ماسة، للخوض في قراءات تأريخية تصحبها مقاربات أجتماعية ، أقتصادية وسياسية، في نموذج للحرب الاهلية كـ"دارفور".
(1)
مثلما كانت تشاد تتهم جارتها السودان بدعم المتمردين التشاديين، يعمل ضباط كبار تشاديون ضمن صفوف "المقاتلين" في دارفور, جنوب السودان، وفي هذه الحال تكون الاتفاقية التي وقعها البلدان في ليبيا بشان فك النزاع على حدودهما، مهددة بالخطر. وفي السودان، قالت الحكومة بانها تطالب باخراج مبعوث الامم المتحدة لان الاخير لايعمل على تهدئة الاوضاع فيما يتعلق بدارفور، في وقت مازال الاعتقاد يسود بين اوساط دولية ، بان حوارا جديدا وجهدا اكبر لابد له من ان يستمر من اجل دارفور، لأستحداث قوة دولية لحفظ السلام. هكذا ولأسباب يجهلها الكثيرون, ادى الفقر والجفاف والصراع على الارض الخصبة الى قضية قومية ومشكلة بدأت بالاقتتال ومازالت تمر بمراحل التفاوض والمندوبين الدوليين وتوقيع المعاهدات وقراءات لمشاريع حل الازمة بين زعماء العالم. الجذور تعني دارفور, ديار الفور نسبة الى اكبر القبائل التي تسكن الاقليم الذي تفوق مساحته ال (900) الف كيلومتر مربع ويسكنه ستة ملايين نسمة. وكانت سلطنة "تحمل ذات الاسم" وقد تشكلت عام 1821 على يد محمد علي باشا, والي "مصر"ابن الامبراطورية العثمانية التي ثار عليها محمد احمد المهدي عام 1881 ليسيطر على بقية السودان وقتئذ. الان دولة "المهدي" انتهت بعد ان فرض البريطانيون نفوذهم عام 1898 لتوقع المملكة المتحدة مع مصر اتفاقية الحكم الثنائي للسودان. وفي دارفور, سكنت على مر كل تلك المراحل, قبائل عربية واخرى افريقية والاخيرة تتحدث العربية الى جانب لغاتها الاصلية, ويقدر عدد القبائل بالمئة. والى جانب أقليم"كردفان" المجاور،المنطقة الرئيسية لأنتاج خمس انتاج الصمغ العربي في العالم، الى جانب اليورانيوم والنحاس وخزين نفطي متواضع. بدات المشكلة بين القبائل الافريقية والعربية بفعل عوامل بيئية بحت، على الاقل في بداية لامر، فعندما يحين وقت الجفاف تدخل القبائل العربية مع مواشيها, الرعي نشاطها الرئيسي، الى اراضي القبائل الافريقية, والزراعة نشاطها الرئيسي, وعندما تسقط الامطار تعود القبائل العربية الى اراضيها. الا ان قسوة الجفاف اجهدت قبائل الفور وغيرها من القبائل الافريقية فمنعت القبائل العربية ، مما حول الامر الى نزاع قبلي لايطول كثيرا ولايتحول الى تأ سيس حالة تطهير او قتل افراد هنا وهناك على اقل تقدير. بعض الذين تابعوا قضية دارفور منذ ذلك الحين, يعتقدون ان النزاع تحول بعد ذلك الى نزاع عرقي ترتبت عليه فيما بعد نتائج سياسية واقتصادية داخلية. وفي جميع الاحوال فان التصحر والجفاف كان بداية صراع طورته وزادت من حدته الحرب في الجنوب والحرب التشادية الليبية مما ادى الى تدفق الاسلحة الى الاقليم وتدريب المقاتلين من الطرفين. ومن الاسباب الاخرى لتأجيج الصراع ، مايندرج في خانة التنمية والسياسة الاقتصادية للحكومة السودانية، فقد انهارت العلاقات بين المزارعين والرعاة بسبب المجاعات ابان مواسم التصحر والجفاف. ولما كان القطن السلعة الرئيسة التي يعتمد عليها السودان في دخله القومي، الا انه وبعد ان بدا سعر هذا المحصول بالتراجع في الاسواق العالمية، دات صادرات اللحوم من السودان تنافسه تدريجيا حتى اصبح دخل البلاد يعتمد على تصدير الماشية خصوصا عام 1985. وكان المتابعون في ذلك الوقت يعتقدون، ولدرجة قريبة من التاكد، بان الحكومة، ولهذا السبب الاقتصادي البحت، قد رجحت كفة "الرعاة العرب" على حساب المزارعين الافارقة ويشمل ذلك حكومة الصادق المهدي والحكومة الحالية، الا ان ذلك لايعني عدم وجود عوامل اخرى. وبوادر القتال والعنف , وتاهيل المناخ لحرب وقتال ضار بين القبائل , كانت قد بدأت عندما طلب حزب الامة الذي يتزعمه "الصادق المهدي" من القبائل العربية في دارفور القتال في الجنوب ضد الحركة الشعبية التي يتزعمها جون قرنق, وقد تكونت مليشيات اطلق عليها"الدفاع الشعبي". دارفور، ونتيجة لهذه الاجواء،عانت من عزلة ادارية وسياسية، اذ لا يربط الاقليم ببقية الاقاليم سوى طريق واحد غير معبد، وعليه ازدهرت ظاهرة السلب المسلح، كما يقول عمر الطيب مراسل محطة"بي بي سي" قبل عام، وبذلك استفادت من تدفق الاسلحة, كما ازدهرت عملية تهريب السلع الى الدول المجاورة. وهنا لابد من الوقوف عند تلك المرحلة , وتسجيل ملاحظة هامة مفادها بان الاجواءالعامة في دارفور وقتئذ تساعد في كثير من الاحيان على ولادة اضطرابات امنية يسودها الاقتتال , ونرى بان العامل الاقتصادي البحت هو الاهم والاساس وفي ولادة ظاهرة التطهير العرقي والتي اخذت طابعا قوميا طاغيا على شكل الصراع , ومن الخطأ التعامل مع دارفور بالنظر اليها انها كانت، في البداية على اقل تقدير، باعتبارها قضية قومية بحت دارت بين قبائل أفريقية وعربية, ما يعني ان الخلاف لم يحمل اصلا جذورا قومية الا ان عوامل اخرى طورته وحملته شكلا قوميا ذهب بالكثير من الارواح . ما يؤكد ذلك ازدياد حجم الشكاوي الموجهة من اهالي دارفور الى الحكومة وهي تدور جميعها حول انعدام مشاريع التنمية وتردي الخدمات المقدمة للاقليم. وتتحمل هنا حكومة الصادق المهدي ، والتي تلتها، فيما يتعلق بتلك البدايات، تتحمل مسؤولية تاريخية في عدم تكريسها مبدا المواطنة وتعميم مبدا التمايزات والمفاضلات بين مواطنيها, الذين لم يشعروا ابدا بمعنى انتمائهم لبلدهم. اذ لم يكن واضحا، منذ البداية، ان منهجا اقتصاديا حكوميا تعمل بموجبه السودان في توفير حياة كريمة لكل ابنائها بل ان عوامل نقص الخبرة والحزبية الضيقة والفردية وعوامل اخرى، ادى سوء ادارة "الاطراف"، كما يحلو لبعض الكتاب تسميتها، سياسيا وفي توزيع السلطة والثروة و كما يطالب "المقاتلون"، كما هي التسمية الاعلامية منذ اندلاع الازمة ، وفي كل الاحوال، فاول الاخطاء الحكومية ، ان صح التعبير ، تكمن في ان تحويل اعتماد الدخل القومي السوداني من القطن الى اللحوم ، لايعني, مطلقا، الوقوف الى جانب الرعاة"القبائل العربية" على حساب المزارعين" الافارقة". الجنجويد تتحدث بعض المباحث التاريخية عن السودان، عن تمرد طالب في جامعة الخرطوم يدعى داوود كي يولاد وهو من ابناء الفور على الحكومة مطلع التسعينات من القرن الماضي، وهذا التمرد وضح للمراقبين بروز عامل اخر عزز من اندلاع الصراع وطوره باتجاه الشكل العرقي, اذ كان بولاد قياديا بارزا في التنظيمات الطلابية في جامعة الخرطوم ورغم وصول الحركة السياسية التي انتمى لها (الحركة الاسلامية)الى السلطة الا انه لم يتسلم أي منصب في الحكومة , وعزى بولاد ذلك الى التفرقة العنصرية, بعدها استقال ابناء قبائل الفور من صفوف الحركة. وانضم بولاد بعد ذلك في عام 1990, الى الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق, كما انضم اليها العديد من ابناء دارفور الافارقة ويبدوا طروحات الحركة في مطالبةالمركز، الخرطوم، بمنح الاطراف نصيبها من السلطة والثروة. وحينئذ بدا الصراع ياخذ بعده السياسي العرقي حيث قاد بولاد تمردا ضد حكومة"الجبهة الاسلامية" التي بعثت العديد من ضباط امنها لألقاء القبض عليه ونجحوا في ذلك بمساعدة مسلحين اطلق عليهم اسم "الجانجويد", وقد قدم بولاد للمحاكمة وتم اعدامه في دارفور. وهنا نسجل مرة اخرى عدم تحمل الحكومة مسؤولية عدم تكريس المواطنة والسماح لمبدا التمايز بالتغلغل بين صفوف الاهالي فهي-أي الحكومة-لم تقم باي دور في حماية ارواح الناس ، كما وانها سمحت لتكوين بذرة مظاهر عنف تقودها جهات مسلحة غير حكومية، ما ولد مشاعر سلبية اتجاه الحكومة التي شعر السودانيون بضعفها وغيابها في المناطق التي يسود فيها منطق الميليشيات وسلطتها.
(2)
في القسم الاول من هذا البحث سجلنا على الحكومة السودانية مسؤوليتها في عدم تكريس المواطنة والسماح لمبدا التمايز بالتغلغل بين صفوف الاهالي فهي-أي الحكومة-لم تقم باي دور في حماية ارواح الناس , كما وانها سمحت لتكوين بذرة مظاهر مسلحة تقودها جهات مسلحة غير حكومية ما ولد مشاعر سلبية اتجاه الحكومة التي شعر السودانيون بضعفها وغيابها في المناطق التي يسود فيها منطق الميليشيات وسلطتها.
فكانت هي المرة الاولى التي تعرفت فيها الحكومة على فصائل "الجنجويد"، وقرر جهاز الامن دعمهم رغم تحفظات الجيش من ان تصعب السيطرة عليهم في وقت لاحق، وهذا ما حدث فعلا.
أشاعت قضية بولاد بين اوساط دارفور أندفاعا نحو لعب نشاط سياسي تمكنوا من خلاله التعبير عن قضاياهم, فقد تاسست حركتان الاولى تحت اسم (حركة العدل والمساواة) وهي من المعارضين الاسلاميين, وحركة تحرير السودان التي تاسست عام 2000. وقد شنتا، بعد ثلاث سنوات، هجمات مشتركة على القوات الحكومية.
وسياسيا رفعت هاتان الحركتان شعارات حملت طابعا اجتماعيا واقتصاديا واتخذت شكل التظلم والمطالبة, الا ان بنية هذه الشعارات اخذا بالتطور وتصاعدت وتيرتها حتى وصلت الى درجة اتهام الحكومة بممارسة التطهير العرقي عبر مليشيات " الجنجويد" التي استعانت الحكومة بها في قمع تمرد "بولاد" ومن ثم حركات دارفور السياسية, وما تبعها من عمليات نزوح جماعية الى دول مجاورة منها تشاد. والاشارة التي تستوجب الذكر في هذا الباب هي ان تشكيل الحركات والقوى السياسية في الجنوب لم يكن على اساس عرقي وكان ذلك واضحا من شعارات التظلم، التي رفعتها منذ بداية النزاع، ذات الطابع المطلبي المتعلقة بالوضع الاقتصادي والحقوق السياسية لأهالي دارفور دون تمايز ما، الا ان ذلك لا يعني انها لم تتطور مع تطور النزاع وتتحول بفعل عوامل عديدة الى الطابع العرقي والقومي، والسياسة الفردية للنظام العسكري هو الذي دفع الصراع الى هذا المنحى كما أنه حاول ، مرارا تقويض نشاطات القوى الوطنية السياسية السودانية في أخراج السودان من هذه الازمة. بذلك, تحولت دارفور الى ازمة تمثل جزء من ازمات السودان السياسية المتمثلة بغياب الديمقراطية وسياسة القمع والاقصاء. وفي تلك الفترة تكون ما اطلق عليه السودانيون ملتقى دارفور وابرز من شارك فيه من القوى السياسية السودانية، الحزب الشيوعي هناك الذي لعب دورا حكيما ورياديا في تقديم معالجات لقضية دارفور وفيما يخص المشكلة القومية كان الحزب واضحا منذ تلك الفترة في توفير الحل القومي لازمة دارفور وفك احتكار الحكومة وتقديم حل شامل للازمة بديلا للحلول الجزئية والانفرادية الفاشلة. حيث اكد الشيوعيون السودانيون استمرار المفاوضات وضمان استجابة الحكومة لمطالب السودانيين ودعم وتوسيع مبادرة "الزريات"، وهي قبيلة تقطن دارفور، لدعم المبادرة الشعبية وعقد مؤتمر قومي جامع لكل الفرقاء تحت رقابة دولية(1).
ولو سلمنا بان الصراع في دارفور هو بالاساس صراع قومي. فلابد من مراعاة بعض الحقائق التي يغفلها الكثيرون في العالم الثالث لاسباب قومية متشددة بحتة، فغالبا، ما يرتبط الافراد المكونين لشعب ما, برابطة قوية تحقق التضامن النسبي على أساس التشابه في العادات والاهداف والمصالح والظروف الاجتماعية اللغة- الثقافة والاقتصادية وغيرها ما يؤدي الى اتحادهم من مجموعة محتلفة من باقي المجموعات توفر للجماعة التحول الى امة. فقد انقسم فقهاء القانون والسياسية الدولية الى طرفين(2):
الاولى موضوعية: وهي تقييم الامة على اعتبارات موضوعية محددة اهمها العنصر,اللغة, الدين والثقافة والاقليم والعادات.
والثانية ذاتية: تقييم الامة على معيار ذاتي يعتمد ارادة التعايش المشترك اي ان الامة توجد بوجود رغبة مشتركة وتجانس نفسي وشعور بالتضامن بين افراد الجماعة من اجل العيش سوية لتحقيق غايات مشتركة وهنا يقول الفيلسوف الايطالي مانشيتي في محاضرة القاها في جامعة تورينو في 23/كانون الثاني عام 1851 اذ قال انها جماعة طبيعية من الناس تؤدي بهم وحدة الاقليم والمنشا والعادات واللغة الى نوع من الحياة والشعور الاجتماعي المشترك تؤسس لها روابط مشتركة.
كان الجو العام في دارفور مؤهل لحياة اجتماعية مشتركة لوجود رابط مشترك ومطالب موحدة بين الاهالي تمثل مطالبة الحكومة بتوفير الخدمات الاقتصادية واقامة مشاريع تنمية في دارفور, الا ان دور الحكومة لم يكن بالمستوى المطلوب في تعزيز مفهوم الدولة التي توفر الحماية والخدمات للجميع دون تحايز او مفاضلة.
على العكس فقد تطورت الازمة في عهد حسن الترابي التي لعبت الجبهة التي تزعمها دورا اساسيا في تعقيد الازمة لتصبح دارفور حزاما امنيا لدولة الجبهة ان صح التعبير. وعملت على تكريس ذلك من خلال مواصلة سيناريوهات مختلفة.

تفجر الازمة:
فقدت السودان الالاف من مواطنيها بسبب حالات الاغتيال والتطهير العرقي في ابشع مظاهر العنف التي رافقت النزاع وهنا ارتكبت الحكومة خطا اخر عندما رفضت التفاوض مع حركتي التمرد(العدل والمساواة) وحركة (تحرير السودان) وقررت اللجوء الى الحل العسكري وبدات مجازر الاقليم تثير حزن العالم اجمع.
وشكلت هذه الاحداث خطا كبيرا في المجتمع الدولي حتى اصدر مجلس الامن الدولي في تموز 2004 قرارا يمهل الحكومة السودانية ثلاثين يوما لانهاء الانتهاكات في اقليم دارفور.
طبيعة الانتهاكات التي سجلت في دارفور اخذت طابعا بشعا رافقته مظاهر مجاعة وحالات وفاة وتشرد بين المئات من الذين بقوا على قيد الحياة. وتقول(هيومن رانيس دوتش) ان الحكومة السودانية حاولت التخلص من قبائل افريقية وهي الفور و"المساليت" واقصائها عن مناطق اقامتها وهذا ما اكده السيد موكيش كابيلا المنسق المقيم للامم المتحدة في السودان، لوسائل الاعلام.
يخلو القانون الدولي من تعريف فقهي للتطهير العرقي اذ انه يمكن القول بانها سياسة متعمدة تهدف بها طائفة عرقية الى استخدام وسائل العنف وقذف الرعب بين الاهالي بهدف أزاحة طائفة عرفية اخرى من منطقة خغرافية معينة وفي هذا الخصوص سجلت الامم المتحدة مظاهر التعذيب والقتل الجماعي والاغتصاب وغيره من اشكال العدوان الجسدي الى جانب تدمير ممتلكات الشخصية والعامة ودفع المدنيين الى النزوع قسرا.
ويتحمل الجيش السوداني مسؤولية ارتكاب جرائم ضد الانسانية اذا قام بمصاحبة المليشيات غير الحكومية بهجمات مسلحة ضد المدنيين وقد اتخذا هذه الهجمات انماط منسقة وواضحة اذ لم يرى أغلب المراقبين والمتابعين (قبائل الفور والمساليت) وهي تتعرض لهجمات عشوائية بل كان يجري اخلاؤها من مساحات واسعة في عمليات تستمر عدة ايام او تكثر عدة مرات حتى تحقق غرضها الاساسي في اخراج السكان في نهاية الامر(3).
كما اقسمت الهجمات المسلحة المشتركة بين الجنجويد والجيش الحكومي يتشابه اسلوب التنفيذ الدعم الجوي بالقصف والاستطلاع من جانب طائرات سلاح الجو السوداني تتبع ذلك هجمات برية تقودها الجنجويد(4).
وبذلك لم تنفذ السودان قرارات مجلس الامن الدولي ولم تقم الحكومة في مقابل ذلك باي اجراء سلمي في اطار التفاوض لحل الازمة وايقاف كل أشكال العنف. وقانونا تتحمل السودان من جانب اخر ما يطلق عليه في العرف الدولي المسؤولية الدولية وهي الاخلال بقاعدة من قواعد القانون اذ تسال الدولة عن التصرفات، الصادرة عن سلطتها التنفيذية سواء كانت قد صدرت من السلطة المركزية او المحلية(5).
ضعف الدولة وعدم قدرتها على القيام بدور حقيقي في انهاء الازمة وفر الاجواء والمناخ الملائم للقوى الكبرى واتخاذ السودان مساحة للصراع من اجل النفوذ وبذريعة انها من دعاة حقوق الانسان تدخلت في شؤون داخلية، وبذلك الغت دور الحكومة، الضعيف أصلا، وحاولت منع الجماهير وقواه الوطنية من لعب دور قيادي من اجل أنهاء الازمة. اما على مستوى نظام الحكم كانت القوى الوطنية ترفض التقيد عن طريق عوامل خارجية بل كانت تعمل جاهدة في الحد من العامل الخارجي ودفع الجماهير باتجاه التغيير نحو بديل ديمقراطي للحكم يعتمد التداول السلمي للسلطة.

(3)
كان لتفاقم الازمة الانسانية في الاقليم السوداني المنكوب، الى جانب أحصاءات دولية عن عدد الضحايا، سبب مهم في دفع الجميع للشروع بخطوات عملية نحو الحل، وكان هذا الشعور سائدا في اوساط سياسية وطنية، خصوصا بين عامي 2004 و2005. وهكذا اسفرت عوامل عديدة، داخلية وخارجية، عن استمرار المفاوضات بين الحكومة واطراف النزاع في دارفور. ورغم ان الحكومة لم تعمل على ادامة المفاوضات وتعزيز اواصر الوحدة والحفاظ على تواصل القوى ضمن اطارها بل على العكس كان دورها هلاميا مما اشعر بقية الاطراف بانها تهمل القيام بواجبها كحكومة ولاتعير أي اهمية للمفاوضات، كطرف سياسي شريك. ورغم تلك العراقيل السياسية فقد تم التوصل الى اتفاق السلام الشامل في التاسع من كانون الثاني من العام الماضي وجاء في مطلع الدستور الذي جاء نتيجة هذا الاتفاق ان السودان :"دولة ديمقراطية لامركزية تتعدد فيها الثقافات والاعراق والاثنيات والاديان واللغات وتلتزم باحترام وترقيه الكرامة الانسانية"، وقد اقر النص بان الدستور الانتقالي هو :"القانون الاعلى للبلاد". وقال النص ايضا :"وحدة السودان قائمة على الارادة الحرة لشعبه في الوحدة"(6). ووضح الدستور، في بعض بنوده، خصوصية الجنوب في قوانين خاصة بالاقليم فيما يتعلق بمصدر التشريع وتقاسم السلطة مع الجنوب وبقية ولايات السودان.كما ضمن النص:" تحرير النساء من الظلم وتعزيز المساواة وترقية التعليم ورفع مظاهر الدمار والفقر من خلال مشاريع التنمية الاقتصادية وتوفير فرص عمل متكافئة لجميع المواطنين في السودان"(7). النص الانتقالي يمكن السودان من تغيير اوضاع سلبية شهدتها البلاد في حال تطبيق وتكوين سلطة تنفيذية ائتلافية قادرة على تنفيذ ماورد في هذا النص.وعندما نتحدث عن ازمة دارفور لابد من التاكيد مرارا بانها جزء من ازمة سياسية كبيرة تعيشها السودان بشكل عام. والحاجة الى تنفيذ بنود هذا الدستور كبيرة في ظل مثل هذه الظروف. وربما يجدر التذكير، أيضا، بدستور السودان عام 1998 الذي كان يحمل بعض الفقرات المتعلقة بحرية الراي ومراعاة حقوق الانسان وتحرير المراة وتعزيز الوسائل الديمقراطية في الحكم السوداني. فمثلا يشير الواقع الفعلي الى ان السلطات السودانية كانت دائمة غالبا ما تنتهك ابسط الحقوق الادمية للمواطن السوداني حيث يسمح لقوات الامن باعتقال العشرات لاسباب سياسية لمدة تصل الى تسعة اشهر دون محاكمة او تحقيق او حتى الاتصال بالعالم الخارجي. وبموجب قانون الامن تتمتع هذه القوات بـ(الحصانة) من العقاب على الافعال التي ترتكبها، ومن هذه الانتهاكات اعتقال طلاب الجامعات وتجنيدهم اجباريا وسوقهم الى مواقع القتال في الجنوب او في الغرب(8) وهنا يتذكر المتابعون لقضية السودان ودارفور قضية السفير السوداني في البحرين الذي فصلته الخارجية السودانية بسبب نشره مقالا انتقد فيه بعض سياسات النظام السوداني. الى جانب اعتقال الحكومة لقيادات نظامية وسياسية عبرت سلميا عن ارائها. العودة الى الوراء: بعد ميل اطراف النزاع الى التهدئة أثر اتفاق السلام مطلع العام الماضي سادت اجواء تهيء الى واقع جديد وكان مطلوبا من الجميع العمل على تحقيق البنود التي اتفق عليها في معاهدة السلام والاتجاه نحو مرحلة البناء وتعويض المتضررين الا ان المناخ المحتقن ، رغم عدم ظهوره على السطح، حال دون ذلك، فقد اصدرت الحكومة السودانية في اذار الماضي بيانا تقول بان الزعيم الجنوبي "جون قرنق" قد لقى حتفه اثر سقوط طائرته بفعل سوء الاحوال الجوية، لتعود اجواء التوتر وعدم الثقة سائدة بين الاطراف المتنازعة. فيما بعد لم تستطع السلطة اثبات حسن نيتها في تنفيذ بنود اتفاق السلام، وهي ملزمة بذلك، اذ سادت خلافات حادة بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني الحاكم وخاصة فيما يتعلق باقتسام النفط اذ لم تسلم حصة الجنوب البالغة 50% بصورة كاملة، كما يقول سيلفا كير عندما ادلى بتصريح صحفي لصحيفة الشرق الاوسط شباط الماضي. وبدا واضحا من خلال المفاوضات بشان البترول ان نوعا من المساومة يجري بين المتنازعين، فكلما يجري الحديث عن حصة الجنوب النفطية تتراجع حدود جنوب السودان حسب اتفاقية 1956 وهذا ما اشار له حين وجه "سلفا كير" انتقادات لاذعة لشريكه في الحكم عمر البشير، عبر نفس الصحيفة أعلاه، واعتبر ما يحدث خروجا عن الخط العام لبروتوكولات التفاوض وقال :"كلما تم اكتشاف بئر نفط جديدة في الجنوب فان حدود الشمال تتجه جنوبا اكثر". التطور الاخير الذي حدث في دارفور المتعلق بمشاركة ضباط تشاديون كبار في القتال بدارفور يعني ان مستقبل جهود معينة لقوى وطنية مهدد بالخطر وكذا مستقبل الاقليم والوضع السياسي في السودان بشكل عام وبعثة الامم المتحدة فيها. السؤال الجذري الذي لابد من اثارته، بعد كل ذلك، كيف يمكن ازالة اثار سلبية في وقت مازال فيه النظام يتمسك بمقاليده نخب غير قادرة على ادارة البلاد بمفردها، وتسخر كل الوسائل لادامة وجودها حتى لو أضطرها الامر الى أستغلال الديمقراطية وربما حتى نصا دستوريا ما. وتبرز الحاجة الى الاستغناء عن مفهوم الحزب الحاكم الذي عمق من ازمة تراجع الانتماء الوطني امام الانتماء القبلي. وحتى التشكيلات السياسية التي تشكلت مؤخرا، فقد أنشأته من رحم عرقي ولدته سياسة النظام، وهي احزاب تغلب عليها الولاءات الدينية القبلية وتتعامل مع الواقع السياسي من هذا المنطلق، ما ادى الى تعميق ظاهرة تحول الصراع الى اطار القومية والقبيلة. وهذا ما يطرح بشدة البدء بتاهيل السودانيين وتكوين وعي سياسي وتعزيز الانتماء الوطني لديهم، وهذا النوع من التعبئة الجماهيرية سيفقد من القوى الرجعية أرضيتها المؤقتة، لان الناس ترغب في تحسين اوضاعها الاقتصادية والخدمية ، ومساعدتهم في أنتزاع الحق السياسي المشروع، اكثر من رغبتها في التمترس خلف شعارات تثير التمييز والفرقة. وهذه المهمة الطويلة الامد لاتستطيع تحمل مسؤوليتها سوى احزاب وطنية سودانية لها تاريخها في ريادة التغيير السياسي وتحويل نظام الحكم من نظام عسكري الى نظام ديمقراطي منتخب تسبقه عمليات اعادة بناء للبنية التحتية ورفع معدلات التنمية والقضاء على ظاهرة الامية وتكريس مبدا حقوق المراة والمساواة. وهنا لابد من التذكير مجددا، فيما يخص بقوة الدفع المحركة لعوامل التغيير، بنظرة الحزب الشيوعي السوداني الذي يرى في ان العامل الخارجي يجب ان لايتعدى دور المساعد وان يكون دور الجماهير هو الرائد الحقيقي لعملية التغيير(9). والحل السياسي الشامل لابد من تصاحبه حلول انية لازمة دارفور: * الغاء جميع مظاهر التسلح غير الحكومية وأقصاء مليشيات الجنجويد ونشر قوات حكومية تمارس دور حماية الافراد وتعمل في اطار اتفاقية جنيف ومناهضة التعذيب ولائحة حقوق الانسان. * ازالة كافة مظاهر العنف والدمار وما رافق عمليات الاغتيال من تشرد ونزوع واثار اجتماعية سلبية عانى منها السكان واطلاق سراح المعتقلين دون اي تهمة مخلة بالقانون. الى جانب التعويض المادي والمعنوي لكل الاضرار التي لحقت بالقبائل المتنازعة. * المباشرة باقامة مشاريع اقتصادية في الاقليم واعادة تاهيل البنية التحتية وتوفير الخدمات الاجتماعية. * منح الاهالي الحق السياسي في المشاركة في القرار والسلطة ويتم انتخاب حكومة ديمقراطية تضمن حقوق الجميع دون تمييز. و ذلك من خلال النضال لفك احتكار الحكومة. * توفير الرقابة الكافية لمؤتمر سوداني يجري فيها التاكيد على المعالجة الكاملة للمشكلة القوميةفي دارفور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني 21/11/2005
2- القانون الدولي العام- ص 301,ص 302
3- تقرير المنظمة الدولية للدفاع عن حقوق الانسان والذي حمل عنوان(تدمير دارفور)
4- المصدر السابق
5- محكمة العدل الدولية- مطبوعات- ص 31
6- الدستور الانتقالي السوداني- الفصل الاول- طبعة الدولة- الفقرة(1). 7- المصدر السابق 8- تقرير المنظمة السودانية لحقوق الانسان- النصف الاول لعام 2003 9- اللجنة المركزية لحزب الشيوعي السوداني 15/11/2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون يعلن البدء ببناء ميناء مؤقت في غزة لإستقبال المساع


.. أم تعثر على جثة نجلها في مقبرة جماعية بمجمع ناصر | إذاعة بي




.. جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ


.. ما تأثير حراك طلاب الجامعات الأمريكية المناهض لحرب غزة؟ | بي




.. ريادة الأعمال مغامرة محسوبة | #جلستنا