الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيخوخة - قصة قصيرة

كامل السعدون

2018 / 2 / 16
الادب والفن


-1-
بدأت اشيخَ بشكل متسارع، اشيخ بالأيام لا بالسنين، رصيدي المتبقي ما عاد بالعملة الكبيرة، بل "بالفكّه". قريبا ستغدو الكتابة عسيرة كما المشي. فقط بضع جمل صغيرة ثم أبدأ باللهاث وكأني صعدت جبل ايفرست، لا بل وقد فقدت الوعي قبل أيام بينما كنت أكتب، رباه ما عاد من ضرورة لأنفاسي الثقيلة هذه بعد أن دب العجز حتى في أصابع كفي التي تقبض على القلم لتكتب هذه الخواطر الأخيرة التي أتمنى يوما أن يقرأها ويستمتع بها أحفادي، وأن كنت أخشى أنها لن تنفعهم لأن أطفال اليوم لم يعودوا يقرأون كتابة اليد، وكأن الكتابة على الكمبيوتر اجمل من خط اليد ونكهة الحبر وبريقه الأخاذّ الممتزج بحرارة الروح وعرق العمر.
المهم. يبدو أني نسيتْ أو كدْت، ما أنا مزمع الكتابة عنه من طريف الكلام لأحفادي اللئام.
ها.. تذكرت.. تلك المرة الثانية التي أغمي عليّ بها بينما كانت اصابعي تحرك جنودي الصغار نحو الهدف، أعني الملك الأسود اللعين الذي غزا رقعتي بجيش عرمرم، فكانت خطة حربي مُدهشةً إذ جذبته الى ركن قصي في أرضي، واطبقت قواتي الخناق عليه وأوشك اركان حربي وجنودي أن يجهزوا عليه أو يأتوني به اسيرا.
حين افقتٌ كانت القوات من الجانبين في حالة شذر مذر، الخيول فوق رؤوس الملوك، والجنود نيام خارج أرض المعركة، أو ربما هم جرحى بفعل الأفيال التي داست عليهم دون تفريق بين عدو وصديق.
صراحةٍ استولى عليّ حسدٌ ممتزج بالنشوة لمشهد الموتى الكرام أولئك، الملوك والخيول والأفيال والوزير وجنوده.
نائمين جميعا بسلام كما الأطفال.
رباه.. أتنعم عليّ بميتة هادئة آمنةٍ مثل هذه؟

-2-


البارحة قابلتُ فجأة ابنتي (هناء) على الرصيف خارج محل الساعاتي، لقد أصبحت نحيفة، لكني عرفتها مجدداً. لم أعد أتذكر لِم كنت في الخارج ساعتها، لكنه لا شك أمر مهم دفعني للخروج، لأنه عقب تحطم درابزين الدرج، توقفت عن الخروج تماما.
على أية حال، قابلتها، فكرّتْ لبرهة: يا للغرابة أن أخرج بالضبط هذا اليوم.
بدت سعيدة لرؤيتي، لأنها هتفت" أبي" بحرارة لفحت وجهي بقوة، والتقطت يديَّ بكلتا يديها واحتضنتني بعنف كاد يخلع كتفيَّ.
ابي...لم ارك منذ زمن طويل.. لقد عدت للتو من الخارج...!
دمعت عيناي وغمرني حزن شفيف أمتزج بفرحة اللقاء " ذات يوم منذ زمن بعيد، حين كنت لما ازل قويا قادرا على الركوع لها لامتطائي جوادا اصيلا لها، كانت تردد بابا أنت أحسن اب في الدنيا، تغني لي، ترقص لي بحرية ...يا ألهى ما الحكمة في أن نعيش أكثر مما يجب لدرجة أننا لا نعود قادرين على ألا يكون حضورنا مملا لأحبائنا".
المهم.. يبدو أني نسيت تلك الواقفة في البرد، في عرض الشارع وقد تجمدت يداها الباردتان على كتفي...!
اللعنة.. لقد ضاع رأس الخيط فتشابك الغزل كله.. ها .. نعم تذكرت.. ابنتي هيام.. أو هناء.. لا اذكر.
نعم.. نعم هناء..
" وأنتِ كيف حالكِ يا بنيتي؟ أظنك لا زلتِ متطوعة في منظمة حماية الحيتان أو الفيلة.. لا أذكر...!
"كلا يا ابي، أعمل في الصليب الأحمر.. في.. أفغانستان...!
" أفغانستان؟ عند جلالة الملك داوود رضي الله عنه...!
" داوود؟ قهقهت بقوة " ذهب داوود وجاءت دولة الخلافة وخرب البلد وهناك عشرات المنظمات تعمل لإنقاذ هذا الشعب البائس".
نسيت ابنتي ثانية.. حلّقّت في فضاءات تاريخ بعيد " كان رضي الله عنه يأمر بأن تُنشر أطنان من القمح فوق رؤوس الجبال ليشبع الطير فلا يُقول قائل إن في دولة الخلافة عصفور جائع ".. هكذا كان شيخ الجامع يقول بحرارة في ذات جمعة.
هاهاها.. أذكر أني تجرأت مرّة وسألت بسذاجة " ومن اين للخليفة رضي الله عنه كل هذا القمح يا مولانا؟".
وكانت أول وآخر زيارة لي لمسجد من مساجدنا المباركة الشامخة المنارات وسط الأحياء البائسة...!
وانفجرت ضاحكا بعنف أهتز له كامل جسدي وارتجفت لحرارته اوصالي واضطربت ساقاي.." مشهد المسجد والشيخ البائس الذي يحدثنا عن مآثر الخلفاء والجواري ثم ينعطف فجأة للحديث عن التيمم، ونحن نضيع بين امجاد الخلافة والتراب الطاهر وبؤس واقعنا العاهر.. "
" ما الذي يضحكك يا ابي؟"
"عذرا بنيتي، لقد سرحت في دولة الخلافة...!"
"رحم الله داوود خان.. اليس هذا اسمه؟"
" نعم هذا هو يا ابتي.."
" بالمناسبة.. يبدو أنكِ تزوجتِ يا بنيتي، بالرفاه والبنين يا حبيبتي " هتفت بها وأنا المح خاتما ذهبيا في يدها".
-ابي.. ليس من زواج بعد.. انسيت..." يبدو إنك تنسى كثيرا.. لا بأس يا ابي لا تشغل بالك".
لا أدرى لم الحّت على ذهني فكرة هذا الخاتم في يد ابنتي.

-طيب ولم الخاتم إذن، أكيد هو خاتم زواج أمكِ...أعني.. هدية من أمك.. أعني.
- ابي..." قالت بحدّة " هذا الخاتم فقط لأبعاد المتطفلين.. لا أكثر ولا اقل...!
فكرت في سرّي " يا إلهي تُبعدُ منْ؟ وهي لا شك في الخمسين، أو ربما الستين.. لا أذكر"، قهقهت ثانية بقوة لا تقل عن الأولى.
-أبي تقهقه ثانية ماذا حصل، أوقُلت شيئا جديرٌ بالضحك". انتبهت لنفسي.. "ركزّ يا ولد، لا تُنفر الصبية منك"
-عذرا بنيتي أظن أني بدأت اخرّف.
– لا بأس يا أبي.
فكرّتْ.. "أظن أن من الأجدر بي أن أودعها الآن وأعود الى مخبأي وجنودي الراقدين على الطاولة.. يجب أن أنهي اللقاء كي اخلف في ذاكرتها بقية عطرة عنّي عقب رحيلي".
- صغيرتي أرجو أن نلتقي قريبا.. ربما قريبا جدا.. ارجو أن تأتي بأطفالك لأراهم.. مُشتاقٌ لهم جداً وأود اللعب معهم كما كنا نلعب معا انا وأنتِ.
- امرك يا ابي، سأفعل؟
شرد ذهني مجدداً.. أهي هيام أم هناء...!
المهم ...لا أذكر.. لتكن من تكون فما عادت للأسماء قيمة.
- وداعا حبيبتي هنادي وعذراً على ... خيالات الشيخوخة.
لمحتُ دمعة تترقرق تحت الرمش.. التقطت كفّي وقبلتها، وقبلّت جبهتي وهمست.. "هناء يا أبي
هناء".. وقهقهنا معاً.
بالمناسبة نسيت أن أسألها ما إذا كان عندها أطفال، أم انهم الآن رجالٌ في الثلاثينات والأربعينات...!
أو إن القطار قد فاتها.. الله اعلم...!
وأنا اليوم آخر من يعلم...اللهم لكَ حكمة لا شكّ أجهلها...!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى