الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قواعد النّقد السياسي-2

محمد ابداح

2018 / 2 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


تستعرض رواية (مزرعة الحيوانات) أحداثا معينة بذاتها، كفشل الثورات الشعبية، وأسباب فشلها من وجهة نظر الكاتب، فبدءا من شعار الرّواية (القرن والحافر) والذي يرمز إلى المطرقة والمنجل وهو شعار الشيوعية، مرورا بشخصياتها (ميجور العجوز) والذي يمثل المفكر ومؤسس الثورة الماركسية (كارل ماركس)، وشخصية نابليون الديكتاتورالطاغية والذي يرمز إلى (لينين)، حيث يقوم بتربية جراء للحراسة في إشارة للأجهزة الأمنية. تُظهِرُ الرواية فساد الحُكم واقتتال قادة الثوار على السلطة وسذاجة الشعب بذات الوقت، غير أن من بين أهم القضايا التي حاولت الرواية معالجتها هي حقيقة أن قيام قادة الثورات الشعبية في أي مكان في العالم باحتكار السلطة يؤدّي في النهاية لفشل الثورة، وتحوّل الثوار أنفسهم إلى طغاة.
ثمة العديد من الروايات والأعمال الأدبية والفنية المشابهة كرسوم الكاريكاتور والأفلام والبرامج المرئية والمسموعة والمقالات والدراسات والأبحاث الأكادمية وغيرها، والتي تحذر من المصير المشابه لأي ثورة إن لم يتم تبادل السلطة بشكل ديمقراطي، وبالتالي سقوط تلك الأنظمة في النهاية بعد ثبات فسادها، فما الذي يُميّز تلك الأعمال عن غيرها ويجعل منها مصادر لفنون النقد السياسي؟
قد يكون حُكما مسبقا القول بأن الفلاسفة هُم وحدهم من يستطيعون تفسير كل شيء، غير أن القواعد المبدئية للفلسفة النقدية تفيد بأن الأسماء لا تشير أبدا إلى الحقائق بل إلى المجرّدات، فكلمة النار هي اسم مجرد وليست حقيقة، ولن تتحوّل إلى حقيقة حتى يراها المرء أمامه ويشعر بحرارتها، كذلك كلمة مُلكية، ثمة من ينظر لها باعتبارها خُلقت لاستغلال الذين لايملكون شيئا، لذا فينبغي إضفاء طابع انساني على تلك الكلمة وهي المُلكية الفردية، فمن حق أي إنسان امتلاك منزلا أو أرضاً أو متجرا تجاريا أو أدوات إنتاج خاصة به. إن تلك المصطلحات السابقة؛ النار، المُلكية، أدوات الإنتاج، هي مصطلحات ذات صبغة شيوعية، وقد سبق ذكر رواية (مزرعة الحيوانات) للكاتب جورج أوريل، كنموذج على النقد السياسي، وأسباب نجاح تلك الرّواية وترجمتها إلى معظم لغات العالم.
بداية ينبغي التعرّف على الشخصية الحقيقة لكاتب الرواية، لكشف أسباب وظروف كتابته لتلك الرواية الشهيرة (مزرعة الحيوانات)، وفي طريقة نقده لنظام الحكم في الإتحاد السوفيتي سابقا، إريك آرثر بلير (Eric Arthur Blair) هو الاسم الحقيقي لجورج أورويل (George Orwell) وهو بريطاني الجنسية (1903م - 1950م)، عٌرف عنه عمله كصحفي وكاتب وناقد سياسي، ولد إيريك آرثر بلير في ولاية بيهار الهندية لأسرة من طبقة أرستقراطية إقطاعية، حيث كان جده لأبيه يملك أراض زراعية في عدد من المستعمرات البريطانية في كل من آسيا (ميانمار) وأفريقيا (الكونغو) وأمريكا اللاتينية (جامايكا)، وكان والده مندوبا عن الإدارة المدنية البريطانية في منطقة شرق آسيا وتحديدا في مقاطعة ميانمار وبورما، ومسؤولا عن دائرة زراعة وتوزيع الأفيون، والتي تٌدرّ أرباحا هائلة للإمبراطورية البريطانية، وهو شبيه بماتفعله الولايات المتحدة الآن في إفغانسان، وقد كانت والدته (أيدا ميدا بلير) تاجرة أخشاب في بورما، وعليه يمكن معرفة النشأة التي ترعرع فيها إريك، من رغد في العيش وباعترافه في مذكراته بأنه كان يُمضي وقته بالإستمتاع في السفر ورحلات صيد الحيوانات والسمك والطيور، وبالتالي فهو لم يَختبر مُعاناة الفقراء، رغم انتقاده للنّظم الإقطاعية وعدم توفير العدالة الإجتماعية. ومن خلال علاقات والدته الإجتماعية؛ حصل إريك على منحة دراسية في مدرسة سانت قبرص، ثم منحة ملكية للدراسة في كلية ويلينغتون في انكلترا عام 1917م، ثم منحة ملكية أخرى للدراسة في كلية أيتون- إنكلترا عام 1921م، كما حصل على منحة لدراسة التاريخ في جامعة كامبردج، وفور تخرجه عام 1922م، ألحقه والده في الشرطة الإمبراطورية العاملة في المستعمرات البريطانية، وفي العام ذاته تم تعيينه كضابط مساعد لمدير مقاطعة سيريام البورمية، ثم مساعدا لمدير منطقة الشرق الأقصى عام 1924م.
قد يعلم العديد منّا الدّور الذي قام ضابط الإستخبارات البريطاني (توماس إدوارد لورنس) والملقّب بلورنس العرب؛ في تمويل قبائل شبه الجزيرة العربية وتأليبهم ضدّ الدولة العثمانية، وقيادته للعديد من عمليات تفجير سكك الحديد الحجازية وقطع خطوط الإمداد اللوجستية للجيوش العثمانية قبيل الحرب العالمية الأولى، ولكن ما لايعلمه الكثير بأنه ثمة المئات من ضبّاط الإستخبارات البريطانية المتخفّين حول العالم على طريقة (جيمس بوند007)، من أمثال لورنس العرب، ومنهم جورج أوريل (إريك آرثر بلير)، والذي لعب دورا هاماً وخطيرا في تأليب الرأي العام لدى شعوب دول الشرق الأقصى كالهند وميانمار وإندونسيا وماليزيا وغيرها ضد الفكر الشيوعي الإشتراكي، وقد نجح بذلك، حيث كان أوريل مسؤولا مباشرا عن ثاني أكبر سجنا سياسيا في بورما العليا في مقاطعة (إنسين)، وكان يغصّ بالسجناء السّياسين ممن يتعرضون على سياسة بريطانيا العظمى الإستعمارية بذلك الوقت، وقد تأُسس السجن في أواخر القرن التاسع عشر، لاعتقال المشاركين في المظاهرات المحلية التي كان تخرج احتجاجا على قيام شركة الهند الشرقية والتابعة لبريطانيا، بإلقاء كافة نفايات مصانع تكرير النفط بمجاري أنهار مقاطعتي إنسين وسيريام، مما أدى لتلويث البيئة الطبيعية فيها، وقتل الثروة النباتية والحيوانية، وتفشّي الأمراض الصحية بين السكان المقيمين في تلك المقاطعتين.
نجح جورج أوريل في تحقيق ثلاثة أهداف للحكومة البريطانية في الشرق الأدنى، أوّلها ضمان ولاء الزعماء السياسيين المحليين في مقاطعات القارة الهندية التابعة لحكومة التاج البريطاني، وثانيا تأمين الحماية لكافة الحملات التبشيرية العاملة في تلك المقاطعات، وثالثاً رعاية المجموعات العرقية الغير إسلامية كالبوذية والسيخية والهندوسية وتمكينها من فرض وجودها في كافة المناطق التابعة لسيطرة بريطانيا في القارة الهندية، وكان لهذا الأمر أهمية بالغة في كبح لجام المد الإسلامي في تلك المناطق وطرد معظم العرقيات الإسلامية بالقوة منها، مع استمرار تداعيات هذا الأمر إلى يومنا هذا، ومثال ذلك قبائل الروهينجيا الإسلامية وعمليات الإبادة الجماعية التي تحدث لهم تحت أنظار العالم.
في عام 1936م عاد أوريل لبريطانيا واستقرّ فيها بعد إتمام عمله على أكمل وجه في الهند، ليقضي معظم وقته في التّأمل والكتابة، وبمرور الوقت طرأت العديد من التغيّرات في شخصيته، فبدأ يكتب عن شعوره العميق بالذّنب تجاه دوره في بورما أثناء عمله لصالح بريطانيا، واجتماعاته مع الكهنة البورميين (تسجيلات إذاعة البي بي سي البريطانية 1969م)، ودعمه للمجموعات العرقية المتطرفة كمجموعة (كارين) البوذية والمعروفة بعداءها للمسلمين.
بدأ أوريل منذ عام 1936م في نشر مقالاته وكتاباته النقدية المعارضة لسياسة الحكومة البريطانية ، في تحوّل دراماتيكي في شخصيته، فبعد أن كان يّهاجم الشيوعية والإشتراكية بات يهاجم الرأسمالية، وأخذ بتسليط الضوء على معاناة سكان الأحياء الفقيرة في شرق لندن، وقام بمحاكاة طريقة عيشهم فلبس الرثّ من الثياب وسكن في أحياء الفقراء، وشاركهم كافة تفاصيل حياتهم اليومية، مما أكسبه إطلاعا واسعا على الجوانب المظلمة في حياة شريحة واسعة من سكان المدن البريطانية، وقد كتب عنهم وعن معاناتهم، كما انتقد أداء الحكومة البريطانية وإهمالها لتك الفئة من السكان، الأمر الذي أقلق السلطات البريطانية، فأوقفت الدعم المالي له، وبدأت بمضايقته، فرحل بعدها إلى فرنسا واعتمد في البداية على أقارب له في الحصول على الدعم المالي، واستمر في نشر مقالاته وأعماله الأدبية، واستمر في نقد الحكومة البريطانية، وأشار بوقت سابق قبل انتقاله إلى فرنسا لمضايقة الإستخبارات البريطانية له في مقالة ( الرقابة في بريطانيا 1935-) نشرها في صحيفة موند الفرنسية.
لاقت مقالاته في النقد السياسي رواجا واسعا كمقالة (كيف يموت الفقراء)، ولكن لم يكن ذلك ليسعفه ماديا، فعمل في وظائف ومهن بسيطة في المطاعم والفنادق، عاد بعدها لبريطانيا واستقر بمنزل والده في مقاطعة ساوث ولد، واستمر في كتابة مقالاته النقدية، والتي أدت في النهاية لاعتقاله وسجنه، حيث كتب مقالة ( عيد الميلاد والسجن)، (السقوط والخروج) وغيرها، ثم عمل بعدها مدرّسا في مدرسة هاوثورن الثانوية في هايس - لندن، حيث ألف كتاب (أيام بورمية)، وصف فيه الدور الذي قام به أثناء عمله في الشرطة الإمبراطورية البريطانية، كما وهاجم الصهيونية العالمية بعد صمت طويل ( تكتيكات القمصان السوداء)، وحذّر من تعاظم دور اللوّبي الصهيوني بالسيطرة على القرار السياسي في بريطانيا، ثم عمل أوريل لفترة من الزمن مراسلا صحفيا لبعض الصحف والمجلات البريطانية، فهاجم مجلس اللوردات البريطاني، والإقطاعيين من أصحاب مناجم الفحم، واستعبادهم لعمال المناجم (دخيل يرى مآسي المنطقة-1937)، الأمر الذي وضعه تحت الرقابة المستمرة بالدائرة الأمنية في شرطة لندن إلى بقية حياته.
بدأ أوريل حياته السياسية في محاربة الفكر الماركسي والشيوعي في القارة الهندية، وربما اقتضت مصلحة دولة ما كبريطانيا العظمى في دعم فكرِ تحاربه أصلا كالشيوعية والإشتراكية؛ لكنها قد تجد نفسها مضطرة لدعم ذات الفكر في بلد ما لتحقيق مصالح سياسية محددة، في عام 1937م قررت الإستخبارات البريطانية التدخل الغير مباشر في الحرب الأهليه الإسبانية لاسقاط حكومة فرانسيسكو فرانكو الفاشية، فقامت بدعم الثوار الشيوعيين في حربهم ضد الزعيم فرانكو، وفي تناقض سياسي مزدوج ( دعم ثورة شيوعية، والإستعانة بمعارض) يعكس براغماتية العمل السياسي، تم عقد صفقة مع شخص كان يهاجم سياسات بريطانيا الإستعمارية، فوقع الإختيار مرة أخرى على جورج أوريل لما يتمتّع به من خبرات عملية وقدرة هائلة في توظيف فن النقد السياسي بما يخدم أهداف إثارة الرأي العام ضد أي جهة حاكمة كانت، وبدعم من حزب العمال البريطاني قام أوريل بالسفر إلى إسبانيا واستقر في كتالونيا، عاصمة الثورة الشيوعية المسلحة ضد حكم الزعيم فرانكو آنذك.
كانت نظرة الثوار الإنفصاليون الإسبان لجورج أوريل مشوبة بالريبة كونه عُرف من خلال كتاباته المناهضة للشيوعية، وقد أتى الآن لنصرة الشيوعيين في إسبانيا!، غير أن الواقع العملي كان يُجبر الثوار على الإستعانة حتى بالشيطان من أجل تحقيق أهداف ثورتهم،
رغم أن جورج أوريل تفوّق في أداءه على كل عملاء الإستخبارات البريطانية من أبطال سلسلة أفلام جيمس بوند، ونجاحه في تحقيق هدف بريطانيا بتأجيج ودعم الإضطرابات السياسية في إقليم كتالونيا بغية إسقاط حكومة فرانكو، ورغم كل الدعم الذي لاقته المجموعات الإنفصالية المسلحة في إسبانيا وحضور زعيم الأغلبية بحزب العمال البريطاني آنذك (جون ماكنر) بنفسه لإقليم كتالونيا بهدف دعم جهود الإنفصال، حيث قال الأخير جملته المشهورة (أتينا لإسقاط الفاشية)، إلا أن كل تلك الجهود لم تنجح بإسقاط فرانكو، حيث لم يكن من السهل أبدا شراء ذمم الوطنيين الإسبان رغم اعتراضهم على سياسة فرانكو الدكتاتورية، على خلاف ما حصل مع لورنس العرب، حيث كان من أسهل مهامه شراء ولاء وذمم العديد من القبائل العربية، وللأسف لازال شراء الذمم ساري المفعول لوقتنا هذا.
أصيب جورج أوريل عدة مرات إصابات خطيرة خلال عمله الميداني في كتالونيا، كما تعرض لعدة محاولات إغتيال فاشلة، وما قد لايعلمه الجميع بأن تداعيات التدخل البريطاني في كتالونيا متواصل إلى يومنا هذا، وكلما اقتضت الحاجة السياسية لمصلحة بريطانيا، يتم تحريك كابوس شبح إنفصال ذلك الإقليم عن إسبانيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بارو لفرانس24: فرنسا تعارض سياسة سموتريش وتدين دعواته الاستي


.. هذا ما قاله وزير الخارجية الفرنسي عن إسرائيل، ترامب وأوكراني




.. مقتل 14 فلسطينيا في غارات على قطاع غزة والجيش الإسرائيلي يعل


.. مراسل الجزيرة: غارة إسرائيلية استهدفت الضاحية الجنوبية لبيرو




.. الدفاع المدني بغزة للجزيرة: الاحتلال يواصل قصف منازل مأهولة