الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2

دلور ميقري

2006 / 3 / 9
ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي2006 - أهمية مشاركة المرأة في العملية السياسية ودورها في صياغة القوانين وإصدار القرارات


مفتتح :

في حواشي المصنفات التاريخية ، المصفرّة ، كثيراً ما نعثرُ على أخبار الأكراد ووقائعهم وأحوالهم . بيدَ أننا ، في المقابل ، نادراً ما نهتدي إلى معلومات تتعلق بالمرأة الكردية ، وما عساها تكون قد أسهمت به في المراحل التاريخية لمسيرة شعبها ؛ الشعب العريق ، الضارب في قِدَم هذه المنطقة ، مكاناً وزماناً . لقد إنطلستْ ملامحُ هذا الشعب ، أحياناً ، بالمعطيات المشوّهة التي أراد بعضُ كتبَة جيراننا ترسيخها في الأذهان ، بمُسافهة التاريخَ تزلفاً لأغراض سياسيةٍ ، بحتة . ما يُلفت نظر المرء في هذا الشأن ، أنّ تزييف المعطيات التاريخية ، قد إنسحبَ كذلك إلى مجالات الأدب والتراث ؛ مما سنوافيه في حينه ببعض الإشارات .

الكرديّ والجبلُ ، صِنوان لا يتفارقان . من صوّان الصخر الأصمّ ، قدّت روحُ هذا الجبليّ المجبولة بنار الأسلاف ، الخالدة ؛ نارٌ إذ تحرق من يلامسها عدواناً ، إلا أنها للصديق مصدرُ نور ٍ ودفءٍ . على هذا كانت نظرة الأغراب من رحّالة ومغامرين وباحثين ، لكرديّنا المعتصم بصخرته الأثيرة ، مذهولة بما في طبعه من تناقض بيّن ٍ: فهو العنيدُ الصلبُ والرقيقُ السليم الطوية ، في آن . لعلّ مبلغ إحترامه للأنثى ؛ زوجة ً كانت أم أختاً أم إبنة ، كان أكثر ما أثارَ حيرة الأجانب ، وإحترامهم أيضاً . فالرحالة الإنكليزي ، ميجر سون ، صاحب كتاب " رحلة متنكر إلى بلاد الرافدين وكردستان " ، يكتب عن المرأة الكردية بإعجاب : " حدث أكثر من مرة ، أن إستقبلتني ربّة البيت بغياب زوجها ، كانت تجلس وتتكلم معي " (1) . كما أنّ مواطنه ، إدغار ويغرام ، يبدي دهشته من تسامح الكردي ، الدينيّ ، بإيراده قصّة إمرأة مسيحية ، إختطفت سبياً وهي طفلة بعد ، وكيف كانت قد حظيت بمكانة رفيعة في دار الآغا : " وقد بقيت نصرانية في عزلتها الموحشة ، ودأبت على صلاتها اليومية وصيام الجمعة والبطالة في أيام الآحاد ، على مسمع ومرأى من أهل البيت الذين يعيشون عيشة جماعية " . (2)

علينا التذكير في هذا المفتتح ، أنّ الكلمات الرائعة التي سالت من مداد أولئك الرحالة والباحثين ، الغربيين ، إنما كانت تعود لإشراقات القرن ما قبل المنصرم . بمعنى أنه ما كان ليل الإستبداد ، الشرقي ، قد أغسى بعدُ على كردستان . فلا حاجة للمداورة في حال المجتمع الكرديّ ، راهناً ، المتميّز عموماً بتفكك أواصره وبهتان رونقه بما إعتراه من تمثل في عادات وأعراف وأخلاق دخيلة عليه ؛ مصدرها غالباً مجتمعات الدول المجاورة ، الغاصبة ؛ المتميّزة تاريخياً بالجمود والمحافظة . هذه الحقيقة ضافرت في إعتام الصورة المنيرة للمرأة الكردية ؛ الصورة القديمة ، الأصلية ، التي سيحاول مبحثنا الإحاطة بشيء من قبساتها على مرّ الأحقاب .

أميرات من العالم القديم :

متحف برلين ؛ وهو أكبرُ متاحف أوروبا ، يفخرُ بأنفس محتوياته الأثرية : التمثال النصفي ، الأغرّ ، للملكة نفرتيتي ، زوجة إخناتون ، فرعون مصر الأشهر . إنّ تأثير هذه الملكة الحكيمة على رجُلها المصلح ، قد يكون معروفاً لكثيرين . بيدَ أنه قلائل ممن إهتدوا إلى سرّها ، عبْرَ متاهة التاريخ . لقد كشف إرشيف " تل العمارنة " ، عن علاقات ودية ومصاهرات بين البيوت المالكة ، الميتانية والكاشية والمصرية . ففي هذه الأخيرة ، كانت أمّ أمينوفيس الثالث ، وكذلك زوجته ، من أميرات البلاط الميتاني ؛ وجدتا نفسيهما في بلاط الفراعنة تتويجاً للمصالحة بين المملكتيْن المتنافستيْن على أملاك سورية . هذا التقليد الملكي ، العتيد ، إنتقل إلى أمينوفيس الرابع ، المقترن مذ ولابة عهده ، بأميرة ميتانية جميلة ، إسمها تاداهيفا ؛ وسيعرفها التاريخ بالإسم المصريّ ، نفرتيتي (3) . الثورة الدينية التي إنتفض بها إخناتون على كهنة " آمون " ، يعزوها بعض المصادر إلى أصول العقيدة الميتانية ، المتمثلة بعبادة إله الشمس " سَرْيا " ، ورمزه قرص الشمس المجنح ؛ هذا الذي أضحى من الرموز الفنية الأثيرة في النحت المصري القديم . وبلغت من أهمية عقيدة إخناتون ، التوحيدية ، أنّ ثمة نظرية معاصرة ، متداولة ، تفترض كونه تجلّ لشخصية النبي موسى ، التوراتية . (4)

لا غروَ إذاً أن يُمسي الثنائي إخناتون ونفرتيتي ، الفريد ، جذوة إلهام للأدباء في الشرق والغرب . لدينا في هذا الخصوص ، الرواية المثيرة " سنوحي المصري " ، للكاتب الفنلندي ميكا والتاري ، الصادرة عام 1954 ، ثم ترجمت إلى معظم اللغات الحيّة ؛ ومنها العربية بمقدمة للأديب طه حسين . رواية " نفرتيتي وحلم إخناتون " ، من تأليف الكاتبة الفرنسية _ المصرية الأصل ، اندريه شديد ، صدرت عام 1964 وما أسرع أن نالت جائزة " أفريقية / البحر المتوسط " الفرنسية . لقد أقرّت المؤلفة ، بمقدمة روايتها ، أنها كانت بمنأى عن الدقة فيما يتعلق بالحقائق التاريخية : هذا ما يمكن لنا معاينته ، على الأخص ، في إصرار المؤلفة تأكيد " مصرية " نفرتيتي ؛ بزعم أنّ الأميرة تاداهيفا ، هي إمرأة اخرى ، غريبة ، إستجلبت لمصر كزوجة صورية لوليّ العهد . وأنّ هذا الأخير ( أيْ إخناتون ) ، سرعان ما تخلص من تلك الغريبة الميتانية ، بتزويجها لضابط من حاشيته ، كيما يتسنى له العودة لحبّ الحقيقي ، القديم ، نفرتيتي . (5)

من معجزات الدنيا السبع ، ذاعَ صيتُ " حدائق بابل المعلقة " ، بإعتبارها إنجازاً عظيماً من ناحية الفكرة والتصميم ؛ حدائق حافلة بأنواع الورود والأشجار النادرة ، متسامقة على مدرجات القصر الملكي المنيف ، المحاط ببادية بلقاء . إنّ أكثر ما يثير في فكرة هذه الجنائن العجيبة ، كونها منذورة لأميرة ميدية ؛ هي إميتيس ، إبنة الإمبراطور كيا إكسار ( خسرو ) . لقد إبتنى زوجُ أميرتنا ، العاهل البابلي المخيف ، نبوخذ نصّر ، حدائقَ قصره المعلقة ، إكراماً لها : " كيلا تشعر بالضجر من مشهد الصحراء المترامية ، فينتابها الحنين لخضرة بلادها الجبلية " (6) . كان خسرو قد صاهر الملك الكلدانيّ هذا تعزيزاً لتحالفهما المضاد للآشوريين ؛ هؤلاء الذين ما لبثت سلالتهم الحاكمة أن إنقرضت ، بسقوط عاصمتهم " نينوى " تحت ضربات الجيشيْن المتحالفيْن ، الميدي والبابلي : هي ذي أميرة اخرى ، كردية ، كان عقدُ زواجها معقِدَ تحالف سياسيّ ، مصلحيّ .

ومن خسرو الميدي ، إلى سليل له ؛ هو داريوس الأول ، الإكميني . وفضلاً عن ورود إسم هذا العاهل المصلح في التوراة ، كانت له شهرة الفاتح الشرقيّ ، الأول ، الذي ينقل خطى خيله على دروب أوروبا بإجتياحه ممالك الإغريق ؛ فيما عُرف تاريخياً ب " الحرب الميدية الأولى " . إلا أنه في النهاية ، أجبر داريوس الأول على التقهقر من بلاد اليونان ، بفضل تحالف دويلات على رأسه إسبارطة القوية ، الذي إنتصر في معركة " الماراثون " ؛ المعركة التي إستلهمت ذكراها ، فيما بعد وحتى عصرنا الحاضر ، الألعاب الأوليمبية الرياضية . في تلك الموقعة البحرية ، كان أحد القادة قد لفتَ نظر داريوس إلى زوجته الملكة ، وهي في سفينتها المحاصرة بالأعداء خائضة غمار الوغى مستبسلة . حينئذٍ ، قال الملك الميدي كلمته ، التي ذهبت مثلاً مأثوراً : " لاعجبَ ، وقد صار اليوم رجالي نساءً ونسوتي رجالاً ". (7)

أمّا داريوس الثالث ، فكان نجمُ نحسِهِ على موعدٍ مع الشمس البازغة للإسكندر المقدوني ؛ أشهر شخصيات العالم القديم . إثر فتحه لبلاد ميديا وفارس ، أقدمَ الفاتح الإغريقيّ على خطوةٍ مهّدت الدرب للتمازج الحضاري ، المتمثل بالهلينستية : بإقترانه بإبنة داريوس ، وإسمها روشنكَ ( ومعناه بالكردية : الشمس البهيجة ) ؛ الإسم المخفف على عادة اليونان إلى " روكسانا " ، والذي ما فتيء مستعملاً في أوروبا حتى الآن . لقد أطنبَ مؤرخو الشرق والغرب بمناقب هذه الأميرة الميدية ، منوّهين خاصة ً بمحاججتها لحكماء الإغريق عشية َ مأتم زوجها الإسكندر ، المتوفي محموماً في مدينة " نصيبين "(8) . بيد أنّ حكمة الأميرة الميدية لم تشفعَ لها عند أخلاف زوجها ؛ فإنقضتْ حياتها وحياة إبنها ( إبن الإسكندر ) ، بوحشية بالغة على يد ضباط متنافسين ، إغريق ومقدونيين ، ما لبثوا أن قسموا الإمبراطورية فيما بينهم .

ما من ريبٍ أنّ تاريخ الميديين والفرس كان من التماهي والتمازج ، قبل ميلاد المسيح وبعده ، لدرجة أنه من العسير تحديد أيّ من الشخصيات التاريخية و الإسطورية ، الخاصة بهذا القوم أو ذاك . لقد جاهدَ مؤرخو الكرد والفرس بشد حبل النسبِ ، كلّ إلى طرفه : كما في مسألة بهرام جوبين ، منافس الملك الساساني ، خسرو برويز ، على العرش وعلى قلب الحسناء شيرين ، سواءً بسواء . ثمة من المؤرخين من يُرجع أصل بهرام هذا ، إلى سلالة نبلاء ميدية (9) . دون أن نغفل الإشارة ، إلى أنّ هذه الشخصية التاريخية ، نفسها ، قد تقمّصت شخص العاشق الإسطوري ، فرهاد ؛ على الأقل في المتخيّل الشعبي المُعبّرة عنه ملحمة " فرهاد وشيرين " ؛ إحدى أكثر حكايات الحبّ تداولاً عند الكرد . لكننا لا ننسى حقيقة أنّ ملاحم الفرس ، ك " شاهنامة " الفردوسي ، و " شيرين وخسرو " الدهلوي ، إستوحتْ أيضاً حكاية الحب تلك (10) . وعلى أيّ حال ، ما زال " قصر شيرين " في كردستان الإيرانية ، الآبدة الأثرية ، الوحيدة ، الشاهدة على أسطورتنا الخالدة .

عن خواتين القرون الوسطى :

ميديا القديمة ، أضحى لها إسم آخر ، عربيّ ، مع الفتح الإسلامي ؛ هو " إقليم الجبل ". كان أسلاف الكرد يدينون بمعظمهم بالعقيدة الزردشتية ، إلى جزر متفرقة من النصارى واليهود ؛ أولئك الذين لاقوا إعترافاً من الفاتحين بصفتهم السماوية ك " أهل كتاب ". ثمّ ما لبث أتباع زردشت ، عموماً ، أن تحولوا بدورهم إلى أقلية مستضعفة ، فيما توسّعت رقعة الدين الجديد فغلبت على ساكني إقليم الجبل ؛ هذا الموسوم منذ صدر الدولة العباسية بإسمه الآريّ " كردستان ". ومع غلبة فرق العلويين والخوارج على ذلك الإقليم الجبليّ ، آنذاك ، خاصة بما آلت إليه حال الدولة الأموية من خوَر وإرتخاء ؛ فقد إنتقلت قيادة المعارضة المتمثلة ببني العباس إلى قبضة مغامر عسكريّ ؛ هو أبو مسلم الخراساني ، المنتمي للعشيرة الراوندية ، الكردية . في الجهة المقابلة ، تسلم مروان بن الحكم سدّة الخلافة بدمشق ، بعد صراع مرير على العرش الأمويّ . ولد الخليفة الجديد ، في إقليم " الجزيرة " من أم ّ كردية ، حينما كان والده والياً عليه (11) . فلا عجب أن يحظى الخليفة الجديد ، قبيل وبعيد تسلمه الحكم ، بمساندة كرد الإقليم المذكور ؛ خصوصاً خلال صراعه مع منافسيه من الأمراء الدماشقة . وما عتم أن نقل عاصمة الخلافة من الشام إلى " حرّان " ، كبرى مدن الجزيرة ، في محاولة منه ربما لمواجهة تمرد الخراسانيين ؛ المنتمين بمعظمهم للعنصر الكرديّ . جدير بالتنويه هنا ، أنّ دعوة جديدة ، علويّة الهوى أيضاً ، قد إقترنت بالكرد ؛ وهي فرقة " الراوندية " ، التي إنتهضت للإنتقام من بني العباس بسبب غدرهم بأبي مسلم ؛ حتى أنها نادت بإمامة إبنته ، فاطمة . (12)

من المهم هنا إستقراء حالتيْن فريدتيْن ، في مستهل التاريخ الإسلامي ؛ المتمثلتيْن بأم مروان الأموي وإبنة أبي مسلم الخراساني ، ترسّماً لملامح عصريهما . فالمأثور عن الأمويين ، المغالين بعصبيتهم ، عدم الإعتراف بأمومة الإماء ، عجميات كنّ أم روميات ؛ فما بالك السماح لأبنائهن إعتلاء سدّة الخلافة (13) . هذه الحقيقة ، تحيلنا إلى حقيقة اخرى ؛ وهي أنّ الأكراد لم يتعرضوا ، عبر تاريخهم الإسلامي ، للإسترقاء ولم نعرف إمرأة من بني قومهم دخلت هذا الحريم أو ذاك ، ربما بإستثناء حالة واحدة ؛ شجرة الدّر خاتون ، التي كانت جارية الملك الصالح الأيوبي ، ثمّ زوجة شرعية له : وسنأتي على ذكرها في حينه . ونعود إلى أيام مروان بن الحكم ، لنفترض أنّ عدم إعتراف منافسيه الأمويين بأحقيته في الخلافة ، ربما كان عائداً لأصول أمه غير العربية . أمّا في مسألة فاطمة بنت أبي مسلم ، فما من ريبٍ بأنها الحالة الوحيدة ، خلال التاريخ الإسلامي ، التي تردُ فيها فكرة جريئة كهذه : إمامة إمرأة . حتى أنّ الباحثة فاطمة المرنيسي تؤكد ، أنّ مجرد التساؤل حول شرعيّة حَمْل إمرأة مسلمة للقب " إمام " ، يشكّل تجديفاً في حدّ ذاته (14) . ربما نجدُ الجواب للمسألة ، المُحيّرة ، لدى المستشرق المعروف ، برنارد لويس ، الذي يعتقد بأنّ شخصية الإمام ، تسرّبت إلى الإسلام من الزردشتية ؛ هذه القائلة بوجود أسرة مختارة ذات نشأة إلهية ، تتوارث نورَ الله ( يزدان ) من جيل لجيل ، حتى تنتهي بالمخلّص ؛ أو المهدي المنتظر ، بحسب تسمية الشيعة المسلمين له . (15)

السلطنة الأيوبية ، كانت بحق أعظم حكومات الكرد ، الإسلامية ، في عالم العصور الوسيطة . ها هنا إقترنت ببعضها البعض الإنجازاتُ الحضارية والعسكرية ؛ ولا عجب في ذلك ما دام بعض المستشرقين إعتبر مؤسس تلك الحكومة ، السلطان صلاح الدين ، سابقاً لزمانه (16) . فضلاً عن مأثرة اخرى ، على الصعيد الإجتماعيّ ؛ تمثل بالمشاركة الواسعة للمرأة في شؤون الدولة إلى مكانة لائقة بها على الصعيد الفكري . دولة برز فيها خواتينٌ حُزن الشهرة على نطاق واسع ، وترجم لهن في كتب الأدب والسيرة ؛ بدءاً بشقيقتيْ مؤسس السلطنة ، ربيعة خاتون وزمرد خاتون ، اللتيْن عُرفتا بأعمال البرّ والعمران إلى إهتمام بالفقه والحديث والأدب (17) . كما أنّ أخلافهما ، الأيوبيات ، قد أسهمن في الحياة الفكرية والعلمية ؛ شأن الفقيهة المحدّثة خديجة خاتون ، والأديبة العالمة شمس الملوك خاتون . ومن الخواتين الحاكمات ، نستهلّ بأولاهن ؛ غازية خاتون ، التي ملكت مدينة " حماة " وتوابعها ؛ وكانت من أغنى وأقوى ممالك بني أيوب في سورية . لقد خاضت هذه الخاتون الباسلة والحكيمة في آن ، حروباً ومحالفات بوصفها وصيّة على إبنها ؛ الملك المنصور الثاني ، غير البالغ بعد سن الرشد ، مستوفية المملكة لسلالته في عصر مضطرب ، شهدَ إنقسام السلطنة إلى دولتيْن في الشام ومصر ، بعيد وفاة الملك الكامل (18) . ولما آلت السلطة في الشام إلى الملك الناصر ، صلاح الدين الثاني ، وكان بدوره غلاماً صغيراً ؛ فها هي إمرأة كردية اخرى ، هي ضيفة خاتون ، تتولى الوصاية عليه وتدير شؤون المملكة بإسمه (19) .

على أنّ الأكثر شهرة من خواتين بني أيوب ، كانت ولا شكّ ؛ شجرة الدّر : أوّل ملكة في الإسلام ! لقد نسجتْ الأساطير حول شخصيتها الغامضة ، كما تجلى ذلك في " السيرة الظاهرية " ؛ وهي الملحمة الشعبية المعروفة من ذلك العصر ، وما فتئت في عصرنا مهوى مجالس السمر والسهر . برزت مواهب هذه الجارية ، الحقيقية ، لدى وفاة زوجها الملك الصالح ، عاهل المملكة الأيوبية المصرية . كانت واقعة مهولة مع الفرنجة ، ناشبة آنئذٍ في مشارف " دمياط " ، فطلبت هذه الخاتون الجريئة من قادة الجيش التكتم على خبر وفاة السلطان الصالح ، لحين إنتهاء الأعمال الحربية . وكانت النتيجة باهرة حقاً ؛ تمثلت بالقضاء على الغزاة ، وأسر ملكهم الفرنسيّ لويس ( القديس ) . إلا أن الخطوة التالية لشجرة الدر ، ما كانت متوقعة قط : إعلانها ملكة لمصر ، مُحوّطة بألقاب أيوبية طنانة : " سلطان العرب والعجم ، ملك البريْن والبحريْن ، ملك الهند والسند واليمن وصنعاء وعدن ، سيّد ملوك العرب والعجم ، سلطان المشرق والمغرب " (20) .

كانت كردستان ، في تلك الآونة ، على موعدٍ مع ملكتيْن قدّر لحكميهما أن يزولا بفعل الإجتياح المغولي ، الطاريء على العالم الإسلامي . نبدأ بالخاتون مانهو آداد ، آخر ملوك الأسرة الرواديّة ؛ الأسرة الكردية الشهيرة ، التي تقيّمها " دائرة المعارف الإسلامية " كأقدم الحكومات المستقلة في تاريخ العهد العباسي . إقترنت الخاتون بجلال شاه ، الملك القويّ الشامل حكمه تخوم بغداد ، عاصمة الخلافة . وإثر وفاة زوجها ، تتولى مانهو الحكم في مكانه الشاغر بسبب فقدان وليّ العهد ، المذكّر ، وتثبت جدارتها في إدارة شؤون دولةٍ تتناهبها الأخطار ؛ وخاصة ً من حدودها الشرقية . ومن تلك الجهة ، يجتاح المغول أراضي الدولة الرواديّة ، فيحدقون بعاصمتها " مراغة " ( الواقعة حالياً ضمن حدود كردستان الإيرانية ) . إثر سقوط قلعة المدينة بأيدي أولئك الغزاة ، تفرّ الخاتون إلى جهة مجهولة بلقبها الملكيّ ؛ كخر حكام الدولة الرواديّة ، العريقة (21) . المغول أنفسهم ، كان عليهم في الخطوة التالية ، إنهاء حكم إمرأة كرديّة اخرى ؛ هي دولت خاتون . إنها ملكة إقليم اللور الصغير ( في كردستان إيران ) ، الذي كان آنذاك بعهدة الأسرة الخورشيدية . ومثل نداتها من السلطانات ، جاء الحكم لدولت خاتون عقب وفاة زوج بلا ذريّة مذكّرة . بيد أن الخطر المغولي ، الزاحف حثيثاً على البلاد ، أجبر حاكمتنا على التنازل عن العرش لصالح أخيها . ثمّ سرعان ما صارت من نصيب عاهل كرديّ آخر ؛ هو يوسف شاه ، أتابك إقليم اللور الكبير . (22)

فيما يخصّ الخاتون المصرية ، شجرة الدّر ، تصرّ الباحثة فاطمة المرنيسي على " تركيتها " ، المفترضة . هذا على الرغم من حقيقة تضارب آراء المؤرخين المسلمين ، فيما بخصّ أصل هذه الملكة الشهيرة . والواقع أنّ هذه المسألة ، حتى لو بقيت دونما حلّ ، فهي غير ذات شأن ما دامت الظروف الموضوعيّة ، وحدها ، التي صنعتْ مجدَ هذه المرأة المقتدرة : ففي دولة يحكمها بنو أيوب ، كما سبق ونوهنا ، دخلت تقاليد جديدة على الحياة الإجتماعية ، الإسلامية ؛ تميّزت فيها المرأة إجمالاً بإمتلاك الثقة بالنفس إلى حريّة التفكير والإرادة . إن أكبر دليل على ما نذهب إليه ، هو معلوماتنا عن حكم المماليك ، الطويل ، لمصر والشام ، حيث إختفت النساء داخل أجنحة الحريم أو في بيوتهن ، ولم يسهمن إلا نادراً في شؤون السياسة والفكر . والحالة النادرة ، عصرئذٍ ، كانت متفردة بها عائشة الباعونية ، الشاعرة الصوفية الدمشقية ؛ هذه المرأة التي واصلت تقاليد أسلافها من خواتين الدولة الأيوبية (23) ؛ الدولة الكردية ، التي تجاهلت فاطمة المرنيسي ، في كتابها " سلطانات منسيات " ، أيّ إشارة لخواتينها اللواتي كنّ أعلام الدولة أو رائدات الفكر والأدب . وإنسحب هذا التجاهل إلى دولت خاتون ، أيضاً ؛ إذ تضمها باحثتنا بشطحة من قلمها إلى الملكات المغوليات ، بحجة أنّ إقليم لورستان ، قد خضع آنئذٍ للسيطرة المغولية . (24)

هوامش ومصادر :

1 _ مينورسكي ، الأكراد : ملاحظات وإنطباعات _ الطبعة العربية في بغداد 1968 ، ص 74
2 _ إدغار ويغرام ، مهد البشرية : الحياة في شرق كردستان _ الطبعة العربية في إربيل 2001 ، ص 139
3 _ انطون مورتغارت ، تاريخ الشرق الأدنى القديم _ الطبعة العربية في دمشق 1977 ، ص 205
4 _ مجموعة باحثين غربيين ، الموسوعة المصرية _ الطبعة العربية في القاهرة بلا تاريخ ، ص 114
5 _ اندريه شديد ، نفرتيتي وحلم إخناتون _ الطبعة العربية في القاهرة 1988
6 _ ول ديورانت ، قصة الحضارة _ الطبعة العربية في القاهرة بلا تاريخ ، ص 198 ج 2
7 _ كامل عياد ، تاريخ اليونان _ دمشق 1972 ، ص 250 ج 1
8 _ مجموعة باحثين غربيين ، تراث فارس _ الطبعة العربية في القاهرة 1959 ، ص 35
9 _ محمد أمين زكي ، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان _ الطبعة العربية في القاهرة 1939 ، ص 121
10 _ شيرين وخسرو ، للأمير خسرو الدهلوي _ الطبعة العربية في الكويت 1992
11 _ كلود كاهن ، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية _ الطبعة العربية في بيروت 1983 ، ص 51
12 _ المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر _ بيروت 1966 ، ص 556 ج 2
13 _ فاطمة المرنيسي ، هل أنتم محصنون ضد الحريم ؟ _ الطبعة العربية في الدار البيضاء 2000 ، ص 99
14 _ فاطمة المرنيسي ، سلطانات منسيات _ الطبعة العربية في الدار البيضاء 2000 ، ص 8
15 _ برنارد لويس ، أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية _ بيروت 1980 ، ص 60
16 _ جاستون فييت ، القاهرة مدينة الفن والتجارة _ الطبعة العربية في بيروت 1968 ، ص 76
17 _ إبن كثير الدمشقي ، طبقات الفقهاء الشافعيين _ القاهرة 1993 ، ص 792 ج 2
18 _ أحمد غسان سبانو ، مملكة حماة الأيوبية _ دمشق 1984 ، ص 81
19 _ إبن خلكان ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان _ بيروت بلا تاريخ ، ص 307 ج 1
20 _ سلطانات منسيات ، مصدر مذكور ، ص 138
21 _ محمد أمين زكي ، تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي _ الطبعة العربية في القاهرة 1939 ، ص 56
22 _ المصدر نفسه ، ص 157
23 _ نقولا زياده ، دمشق في عصر المماليك _ الطبعة العربية في بيروت 1966 ، ص 18
24 _ سلطانات منسيات ، مصدر مذكور ، الفصل السادس من الكتاب فيه معلومات وافية عن هاتيْن الملكتيْن الكرديتيْن ؛ شجرة الدر خاتون ودولت خاتون

[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هو حسين عبداللهيان الذي رافق رئيسي في رحلة العودة من أذرب


.. قوات الإنقاذ تستمر في البحث عن مروحية الرئيس الإيراني




.. تفاعلكم | مستجدات الجزائري المختطف من 26 عاما.. وكشف دوافع م


.. تفاعلكم | -OpenAI- تغلق قسمها المتخصص بتقليل مخاطر الذكاء ال




.. الحرس الثوري: تم تحديد موقع مروحية الرئيس الإيراني بدقة