الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جمالية تشكل الذات الزنجية في رواية -ذاكرة النرجس-

فاطمة الزهراء العلوي

2018 / 3 / 3
الادب والفن



كم صعب أن تواجه نفسك بمفردك! كم صعب أن تقف أنت ونفسك في قفار وجها لوجه دون أن يبادر أحدكما بالكلام! ترفع رأسك إليه بتوجس فتجد عينيه منغمستين في الأرض. لا تجرؤ على فعل أي شيء وتستسلم لخوفك."
ذاكرة النرجس لرشيد الهاشمي. ص 232

تنبني رواية "ذاكرة النرجس" للروائي رشيد الهاشمي على شكل محكيات سردية ومشاهد حوارية مستمدة أساساً من المتخيل الواقعي المغربي، كما تنبني على فضاء يحرضُ المتلقي على الغوص في أعماق "محن" الأنا الزنجية التي ترزح تحت وقع السياط الثقافي والاجتماعي الذي لا يرحم أحد. وبهذا المفهوم، فإن النص يشكل نقلا لواقع مزري تلبّس بالذات السوداء المضطهدة داخل مجتمع تحكمه ثقافة بيضاء بكل مكوناتها، وتمفصلاتها وصراعاتها.
تتخذ الذات الزنجية في الرواية موضوع المقال تمثلات عدة: إذ تتشكل الأنا السوداء الممثلة في شخصيتي "الحرة" و"العبدي" ذاتاً غير ثابتة وخاضعة لأطوار من التحولات تجعلها تكتشف نفسها شيئياً فشئياً لتنادي، في نهاية المطاف، بصوت قوي لتنال حقها في الانعتاق والكرامة، من هنا ارتأينا أن نسلط الضوء على جمالية تشكل هذه الذات المهمشة والمقصية ورصد مختلف تحولاتها في النص.
من أبرز المنطلقات الفنية التي يقوم عليها النص هو أنه لا يقدم لنا نماذج "أنا جاهزة"، أي شخصيات مكتملة الأوصاف، بل يلقي بنا في عيوب أبطالٍ ناقصين ومخطئين غير واعين بأنفسهم، لكنهم، مع الزمن، يستفيدون من تفاعلهم مع المحيط الخارجي والآخر، ومن تجاربهم الخاصة في السقوط والوقوف، الألم واللذة، الحب والمتاعب، المكر والخداع.. إلخ، إلى أن يكتمل وعيهم بأنفسهم ويصيروا قادرين على الوقوف بكل حرية ندا لهذا الواقع الذي لا يبوئهم المكانة المستحقة.
كل نفس ذائقة العذاب، لكن العذاب يكون أشد وأقسى حينما يتعلق الأمر بزنوج يحاولون إثبات ذواتهم في مجتمع لا ينصف الأقليات العرقية والاثنية، فإن نحن خلخلنا الإيقاع السردي للنص من أجل بلورة تشكل الذات، سنجد أن الانطلاقة كانت مفجعة: ظلم، وقهر وتسلط. إذا كانت الحرة المراهقة قد عانت من عنصرية زملائها الذين ينعتونها ب"العزية" بسبب لون بشرتها وارتباطها بنعمان الموريسكي الأبيض الذي خلق جدلاً في الثانوية، فإن العبدي الطفل لم يكن يجرؤ حتى على الإجابة على أسئلة المعلم خوفاً من زملائه البيض الذين يطوقون المكان: "عندما يطرح (المعلم) سؤالا صعباً، كنت أفكر قليلا ثم أجيب عنه في نفسي دون أن أجهر به، وأنتظر ما سيقوله الآخرون وعندما لا يجيبون ويدلهم المعلم على الجواب الصحيح ويكون هو نفس الجواب الذي حدثت به نفسي أشعر بسعادة كبيرة."( ص 239 و 240)
إن المتاعب لصيقة بالإنسان حيث وجد وحيث كان، لكن لا بد أن نمر تحت وطأتها، فهي لا تعيننا فقط على اكتشاف الحياة، بل أيضا على إعادة بناء أفكار جديدة والانفتاح على احتمالات أخرى من شأنها أن تغير وجودنا برمته. في العالم الروائي للهاشمي، لا بد أن تمر الذات بصراعات مع نفسها ومع الآخر لتتمكن من هدم قناعات وبناء أخرى، ففي الوقت الذي تسعى فيه الحرة إلى تثبيت علاقة عاطفية وإنسانية مع عشيقها الأبيض، تأبى الأقدار إلا أن تجعل الفشل وخيبة الأمل منتهى مسارها: "الحب الكبير وهم جميل. حتى اللحظة، لم أصدق بعد أني أنا التي أهديتك كل حطبي في وقت الشباب لا أجد لنفسي اليوم شيئا لأدفئ به ما بقي لي من عمر." (ص 31)
وتأبى الأقدار أيضا إلا أن تزعزع حياة العبدي، بعد وفاة أمه بالتبني (مدام ماري)، تركته غارقا في الوهم، متخبطاً بين عبثية الموت وعبثية الاغتراب، الشيء الذي جعله وجهاً لوجه حيرة كبيرة أمام ما سيفعله: "اليوم بعدما انتهى كل شيء، صار بإمكاني أن أجزم بأني كنت أستند على جدار من الوهم الكبير وأنه من غير الصواب أن يتعلم المرء كيف يحب قبل أن يتعلم كيف ينسى." (ص 183)
مهما طال الظلم، فلا بد أن تنفرج يوماً، ففي ظل تخبط الأنا في وحل الموت والخوف والغربة، ينبجس الأمل والوعي بالذات. هكذا، تسعى الحرة إلى انتشال مخطوط تاريخي هام أخرجته من بين الركام ضاربة بعرض الحائط الخرافات الشعبية والأعراف الاجتماعية، فتقطع من أجل ذلك المسافات البعيدة والأميال المديدة، لا لشيء إلا لمعرفة أصول هذه الذات، بل وصل بها الأمر أن دخلت في علاقة عاطفية وروحية مع المخطوطة: "لعل الشيء الذي يدفعني إلى تعميق البحث هو أنه في هذه الأيام الأخيرة، أحسست أن لدي رؤية واضحة نحو الأشياء. أصبحت على شبه يقين أن هذه المخطوطة كتبتها أمنا الحرة السجلماسية." (ص 60)
كما يسعى العبدي إلى التحرر من عقدة الأصول، وبدل التناسي والانغماس في حياة المدينة البئيسة، يقرر العودة في الأخير إلى قريته الأم، لتتشكل منطقة تافيلالت أمامه بكل تجلياتها بعدما كان قد ضيعها في موقف عنيف: "زمن ولى وآخر مضى وأنا لا أعرف ما الذي حدث لي حتى وجدت نفسي أدخل القرية من جديد." (ص 230 )
في الأخير، نقول إن الفضاء الروائي الذي أبدعه الكاتب المغربي رشيد الهاشمي من خلال مؤلفه "ذاكرة النرجس" هو الذي جعل الذات الزنجية تتشكل أمام أعين المتلقي قطعة قطعة بطريقة فنية، إذ تنطلق الحكاية من ذات غير واعية بكينونتها ولا بماهيتها متأثرة بالصور النمطية والمغلوطة التي يفبركها الآخر الأبيض، ثم تتعرض للمحن القاهرة فتتغير مواقفها وتتبدل أفكارها وقناعاتها قبل أن تتجه بخطى ثابتة نحو تقدير الذات واستردا الأنا المستلبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب