الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتقال من النظريات الكبرى إلى النظريات الفردية

نبيل العتاوي

2018 / 3 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


تقديم عام:
لقد استوجب الحديث عن النظريات التي أطرت علم الاجتماع منذ بزوغه،طرح تساؤلات من قبيل لماذا النظريات ؟ ما الضرورة التي دعت إلى ذلك و السياق الذي ظهرت فيه؟ لماذا النظريات الكبرى ثم بعد ذلك الانتقال إلى أخرى فردية؟ وما هي أهم النظريات التي برزت على مستوى علم الاجتماع وكان لها السبق في الخوض في قضايا المجتمع وإشكالاته .
كل هذه التساؤلات المطروحة تستدعي الإجابة عنها، استحضار النظرية كمفهوم و الوقوف عنده ، إلى جانب التأسيس للسوسيولوجيا كمعرفة تراكمت في خضمها مقاربات وتناقلتها تيارات على مر قرن من الزمن .
لقد تأسس علم الاجتماع في أحضان المجتمع الغربي وفكره وتبلور على اثر الأحداث التي شملته إبان ثوراته على كافة الأصعدة : السياسية والاقتصادية و الفكرية ،ونتج من ذلك بزوغ علم اقتضته الضرورة من اجل التغيير ومواكبة العصرنة و التحديث والتحولات الجذرية التي عرفها المجتمع الغربي في بنياته المجتمعية .
كان لهذا العلم رواد أسسوا ونظروا له بكيفيات مختلفة، ساهم فيها اختلاف الأفكار و المنابع التي تغدت عليها ،والمدارس الفلسفية التي بنت عليها نظرياتها الاجتماعية ، أدى بطبيعة الحال إلى ظهور تيارات متعددة تأرجح علم الاجتماع بينها منذ التأسيس، ويمكن إجمالها في موقفين متعارضين بارزين: موقف يقول بالنزعة الموضوعية تغذى بالمدرسة الوضعية وموقف آخر تمثل في النزعة الاستيعابية التي تقوم على الفهم ،ويقصد ذاتية الأفراد من الداخل عن طريق الحلول محلهم.هذه السوسيولوجيا الاستيعابية التي تقوم على الفهم متجسدة في "ماكس فيبر"، تنطلق من مبدأ أن ما يصنع المادة الأولية للاجتماعي ،عن فعل الأفراد وأننا لا نستطيع فهم هذا الفعل إلا بالوصول إلى المعنى الذي يضفيه الأشخاص عليه.
كلا الموقفين بغض النظر عن تعارض مقاربتيهما ،فهم علماء الاجتماع هو إنشاء أدوات تحقيق و قياس أمينة وموثوقة ،الأولى كمية إحصائية و الثانية كيفية استيعابية.
النظرية الاجتماعية: إن النظرية الاجتماعية تتميز بأنها تتركز على فكرة عامة، مؤداها أن الحياة الاجتماعية يمكن ردها إلى قوانين علمية ،تسمح لنا بالتنبؤ بنتائجها متى توفرت الظروف المهنية لتحقيق مقدماتها وعواملها .كما أن النظرية الاجتماعية لا تتكلم فقط عن العمليات و الصراعات و المشكلات الاجتماعية ،بل هي كذلك جزء من تلك العمليات السببية الفاعلة أو المواقف التي تعمل فيها تلك الآليات السببية .وبمعنى آخر فان النظرية تمثل أعلى درجات المعرفة لأنه الوسيلة لإقامة المعرفة عن العالم الاجتماعي ، وعلى الرغم من اختلاف الرؤى في تحليل مفهوم النظرية فان هناك اتفاق عام بان النظرية الاجتماعية هي محاولة علمية للسيطرة على الظواهر الاجتماعية من خلال تصورات منطقية .
إنها محاولة لتفسير خبراتنا اليومية، في الحياة تلك الخبرات الشخصية اللصيقة بنا ،وفقا لشيء ليس بذلك القرب منا سواء أكان ذلك الشيء أفعال أناس آخرين ، أو خبراتنا السابقة أو عواطفنا المكبوتة ،وما شاكل ذلك وفي بعض الأحيان وتلك أكثرها صعوبة يتم التفسير على أساس شيء ما ليس لنا به خبرة مباشرة ، وعند هذا المستوى تكون النظرية قد قدمت لنا شيئا جديدا "2
تعريف تالكوت بارسونز:
النظرية تتصل بكيان من المفاهيم المرتبطة منطقيا وهذا لا ينفي وجود مجموعة من القضايا العامة ذات العلاقات التي تربط فيما بينها و يمكن ان تالف كيانا نظريا .
تعريف روبرت ميرتون:
هي مجموعة من التصورات المترابطة منطقيا ،تلك التصورات المحدودة و المتواضعة ليست الشاملة المتضمنة كل شيء.
تعريف رالف داريندروف :
مجموعة قوانين منطقية مستخرجة من الواقع الاجتماعي يستخلص منها استنتاجات دقيقة لا تعكس خصوصية متميزة تصفها مجموعة بشرية صغيرة لها فاعلة في تفسير وشرح سلوك وتفكير الناس الذي بلوره واقعهم الحقيقي .
النظريات الكبرى:السياق
شكل انتصار الطبقة البرجوازية على الإقطاع في الثورة الفرنيسة سنة 1789 دورا كبيرا في تبلور علم الاجتماع و خاصة في محاولة كشف آليات الاستقرار الاجتماعي التي أربكتها الثورة. وضمن هذا السياق تشكل تيار مضاد لفكر الثورة الفرنسية و لفكر التنوير ،و المقصود به التيار الرومانسي المحافظ الذي في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.هذا التيار الذي اثر في علم الاجتماع وتطوره إذ دعى إلى نبذ العقل معيارا للحقيقة و للحكم على الأشياء داعيا إلى اتخاذ النقل بدلا منه ،مؤكدا على أهمية الجماعة والأسرة والقيم التقليدية و الاستقرار الاجتماعي ،محاربا النزعة الفردية .
اتخذ مؤسس علم الاجتماع الحديث" أوكست كونت"(1798-1857)موقفا وسطا بين فكر وعصر التنوير الثوري،و الفكر المضاد له المتمثل بالحركة الرومانسية،وهو موقف سيتبناه من يخلفه في تيار البنائية الوظيفية ،إذ اقر النظرة العلمية التي نادى بها فلاسفة عصر التنوير ،بل انه هو ذاته قد أسس مذهبا يعرف بالوضعية وتأسيسا على ذلك ،فقد رفض "كونت الشق الثاني من آراء عصر التنوير المتمثلة في الآراء الثورية النقدية بدعوى إنها تأملات فلسفية عقيمة لا يسندها أي واقع فعلي قابل للقياس ،وهو موقف وضعه في مصاف المفكرين الرومانسيين ،فقد رأى كونت " أن حركة المجتمع تخضع بالضرورة لقوانين فيزيائية لا تتغير ،بدلا من أن يحكمها نوع من الإرادة "واقترن تمسكه بالمنهج العلمي برفضه لادعاء الإنسان انه قادر على تغيير نظمه الاجتماعية وإعادة تنظيمها وفقا لإرادته العاقلة "3 .
النظرية البنائية الوظيفية:
الأصول الأنثربولوجية و البيولوجية :
ظهر مصطلح الوظيفية في الثلاثينات من القرن الماضي عند علماء الأنثربولوجيا على الخصوص أمثال راد كليف براون و مالينوفسكي وفي الأربعينات درس هذان العالمان في جامعة شيكاغو مما أدى إلى انتشار مصطلح الأنثربولوجيا الوظيفية في أعمق ما كتب حول النظرية التي تنظر إلى المجتمع باعتباره نظاما نسقيا يتمتع بالكثير من الانسجام بين مكوناته البنيوية ،أما النظرية البيولوجية فتعد احد مرجعيات الوظيفية ومنها يمكن القول انه إذا كانت العناصر المكونة للجسم الإنساني تكون وحدة بيولوجية متكاملة أي سيمفونية متكاملة تتسم بالانسجام إلا أن الوظيفيين وكما هو الحال في النظرية الاجتماعية البيولوجية في ملاحظاتها لفروق بين الجسم البشري و المجتمع لا يتجاهلون أيضا عنصر الصراعات في المجتمعات لكنهم ينظرون إليها بوصفها ثورات بريئة أي إنها عبارة عن تمهيدات إلى إقامة نظام اجتماعي أفضل فهي في منظورهم ايجابية وليست هدامة للمجتمع.
الأصول السوسيولوجية للنظرية:
إن البنيوية الوظيفية كنظرية سوسيلوجية، تعتبر المجتمع مجموعة من التنظيمات المتراتبة، التي يساهم كل منها في الاستقرار الاجتماعي هذا يعني أن الوظيفية تركز أكثر ما يكون على التوازن الاجتماعي للمجتمع،وليس على التغير الاجتماعي.فالعناصر المكونة للمجتمع تدرس من حيث الوظيفة الخاصة والمحددة،التي تقدمها للحفاظ على ترابط النسق الاجتماعي لهذا المجتمع أو ذاك،أما النسق الاجتماعي فهو عبارة عن مجموعة من العناصر المترابطة بعضها ببعض،وأي خلل في أحدها لابد وأن يؤثر في باقي العناصر وبدورهم يقول الوظيفيون أن النسق الاجتماعي يمكن أن يحافظ على الاستقرار طالما أن كل عنصر يقوم بوظيفة.ويمكن القول أن سبنسر وكونت ودوركايم كانوا أهم ثلاثة رواد اجتماعيين أثروا كثيرا على النظرية البنيوية الوظيفية.
النظرية الماركسية الصراعية:
يستخدم أصحاب هذا الاتجاه مفهوم الصراع لتفسير المجتمع على أنه يقوم على الصراع والاستغلال في كافة مناحي الحياة،بخلاف أصحاب النظرية الوظيفية البنائية الذين ينظرون إلى المجتمع على أنه وحدة متآلفة تعمل أجزؤها بشكل متناسق مع بعضها البعض،حيث يؤكد أصحاب نظرية الصراع أن تاريخ المجتمعات الإنسانية هو تاريخ صراع، وأن المجتمعات الإنسانية مؤلفة من مجموعات متصارعة ومتنافسة فيما بينها من أجل السيطرة على الموارد المادية الاقتصادية وحتى ما هو سياسي.
ويعتبر ماركس مؤسس النظرية الصراعية، وقد استنتج من خلال أبحاثه أن المحدد الأساسي للتاريخ هو الصراع باعتباره صراع مادي طبقي بالدرجة الأولى، ففي كل مجتمع هناك طبقة تملك وسائل الإنتاج وطبقة لا تمتلك وسائل الإنتاج وتقوم الطبقة الأولى دائما باستغلال الطبقة الثانية وفي المجتمعات الصناعية والحديثة هناك طبقتين متصارعتين حسبه.وهما الطبقة البرجوازية الرأسمالية التي تتحكم في السلطة السياسية والطبقة البروليتارليا العاملة.
وتعد مدرسة فرانكفورت النقدية بألمانيا من أهم المدارس الصراعية التي اشتغلت على التناقضات والصراعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية، وتسمى في الأدبيات العلمية بالماركسية الجديدة ومن أهم روادها،ماكس هوركايمر،وتيودور أدورنو،وماركيوز وإيرك فروم.
1: رؤية ماكس فيبر لموضوع علم الاجتماع:
لقد عرف فيبر علم الاجتماع بأنه ذلك العلم الذي يحاول أن يجد فهما ًتفسيريا للفعل الاجتماعي social action من أجل الوصول إلى تفسير علمي لمجرى هذا الفعل وآثاره ويعرف الفعل الاجتماعي بأنه سلوك انساني يضفي عليه الفاعل معنى ذاتياً سواء كان هذا المعنى واضحاً أم كامناً . وقد ضمن فيبر مفهوم الفعل الاجتماعي كافة أنواع السلوك مادام الفاعل يخلع عليها معنى.
وقد اعتبر ماكس فيبر إن وحدة التحليل الأساسية للمجتمع هي الفرد الفاعل.
وقد ميز فيبر بين أربعة أنماط أساسية من الفعل الاجتماعي هي:
- الفعل العقلاني Rational Action : الذي يرتبط بهدف ما ,مثل القائد الحربي الذي يريد أن يحقق نصراً ما.
- الفعل العقلاني القيمي :الذي يرتبط بقيمة ما .مثال على ذلك: ما يقرره قبطان السفينة من ألا يدعها تغرق وحدها بل يغرق معها.
- الفعل العاطفي Emotional Action مثل قيام الأم بضرب طفلها عندما يقدم على سلوك غير مرضٍ .هذه الأفعال هي أفعال وجدانية أو عاطفية وليست أفعالا عقلانية لأنها ليست موجه إلى هدف أو مرتبطة بكلمة معينة .
- الفعل التقليدي Traditional Action :هو ذلك الفعل الذي تمليه التقاليد والعادات الجمعية والمعتقدات التي يتم اكتسابها من خلال عملية التطبيع الاجتماعي.
"و في رأيي أنه إذا ما نظرنا لهذا التقسيم قد لا ينطبق على سلوك الفرد ، و ذلك لسبب بسيط و هو ارتباط الفعل لدينا بالنية ، بحيث أن النية بحد ذاتها قد تحول الفعل العاطفي إلى فعل عقلاني ذو هدف ، فمثلا ً قد يبدو تعاطف أحدنا مع طفل يتيم و المسح على رأسه فعلا عاطفيا ، و لكننا نعلم أنه إذا ما ربطنا هذا الفعل بالنية الخالصة لكسب الثواب في حسن التعامل مع الأيتام لتحول هذا الفعل إلى فعل عقلاني يسعى لتحقيقه و يحمل قيمة يرتبط بها ، و إن لم يظهر هذا علانية ".
ويذهب فيبر إلى أن دراسة الفعل الاجتماعي تتطلب وجود أداة منهجية أطلق عليها النموذج المثالي:
ويعني بها : بناء أو تشييد عقلي يتشكل من خلال ظهور أو وضوح سمة أو أكثر, أو وجهات نظر يمكن ملاحظتها في الواقع والنموذج الذي يتشكل على هذا النحو يطلق عليه مثال لأنه يتحقق كفكرة .إن النموذج المثال ليس فرضاً بل هو عبارة عن أداة تستطيع من خلالها تحليل الظاهرات الاجتماعية وتسهل لنا عملية المقارنة بين هذه الظاهرات بعضها ببعض.
"أرى أن النموذج المثالي الذي صاغه فيبر على درجة كبيرة من الأهمية حيث أنه جعلنا نستطيع أن نقارن أي نظام أو مؤسسة حتى نرى مدى قربها من النموذج المثالي".
2- الاثنوميثودولجيا الفردانية مع رايمون بودون:
ظهرت نظرية الفردانية مع مطلع السبيعنيات من القرن الماض، والتي ركزت على مسلمتين متكاملتين، أولها أن الفرد هو المستوى الأول للتفسير السوسيولوجي وذلك لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يعطي تفسيرا ومعنى لأفعاله،بمعنى أن الفرد فاعل اجتماعي واعي ومسؤول عن ممارساته.أما المسلمة الثانية فهي الاستراتيجيات المحددة والمتزامنة التي تنتج الظواهر الاجتماعية.
تعود أصول الفردانية عند بودون كذلك إلى ماكس فيبر الذي رأى أن استقرار العلاقات الاجتماعية ونمطيتها يعودان إلى كون الأفراد يتصرفون بعقلانية وهذه الإجابة لا تدعي أن كل فعل هو فعل عقلاني،فقد ميز فيبر نفسه بين أربعة أشكال للفعل:الفعل التقليدي، العاطفي، الموجه نحو قيمة أسمى،وأخيرا الفعل الموجه نحو هدف عملي دنيوي.وهذا الفعل الأخير وحده هو الفعل العقلاني بكل معانيه.أما دوركايم فقد أخد عنه بودون المنهج الموضوعي في تفسير الظواهر الاجتماعية بما في ذلك الدين|،بمعنى عدم الاقتصار على البحث في أسبابها ومبرراتها بل يتعداه إلى تحليل مضامينها وإعطائها معنى يتجاوز المعنى العام.
تأثر بودون بالنظريات السوسيولوجية الأمريكية، شأنه شأن العديد من السوسيولوجيين الفرنسيين خاصة أثناء تواجده بأمريكا خلال عقد الستينات ، حيت اشتغل مع الباحثين بول لازارسفيلد،وميرتون على عدة قضايا مشتركة.
من قضايا المنهجية الفردانية عند بودون،تحليل الظواهر الاجتماعية عن طريق الأفراد، حيث يميز بودون بين الأفعال المنطقية والأفعال غير المنطقية، لهذا على السوسيولوجيا اعتماد مخططات لتحليل الفعل الفردي الأكثر تعقيدا من التي يعتمدها الاقتصاديون.
يقول بودون:"إن جوهر التحليل السوسيولوجي هو الفاعل الفردي(قد لا يكون الفاعل الفردي دائما أفرادا بل يكون وحدة اجتماعية لها سلطة الفعل)، الذي لا يعمل في فراغ مؤسساتي واجتماعي، بل في إطار من الضغوط أي في إطار عناصر يجب عليه القبول بها كمعطى تفرض نفسها عليه، لكن هذا لايعني أن نجعل سلوكه نتيجة حتمية لهذه الضغوط، إذ أن الضغوط هي فقط عناصر تساعد على فهم الفعل الفردي".بمعنى أنه يختلف عن منهج التحليل الكلي الذي يرى أن الكل يفسر الجزء وهذا المنهج الفرداني عنده يعتمد على ثلاثة مبادئ:
- الفرد هو العنصر الأساسي في التحليل السوسيولوجي.
- عقلانية الفرد معقدة،إذ من العب فهما انطلاقا من أفعاله المنطقية.
- الأفراد يتفاعلون في بنيات تحدد أفعالهم.
- المقاربة الإثنوميثودولوجية:
- ظهرت الاثنوميثودولوجيا على يد Garfinkel،ويعني المصطلح الذي أطلقه والذي يتألف من مقطعين Ethno ويعني بها الناس ويقصد بها مخزون المعرفة المشتركة والشائعة بين الناس وMethod أي الاستراتيجيات التي تضفي بها الذات الفاعلة معنى ما على العالم الاجتماعي والوسائل التي يتم بها تواصل المعنى.
- فالمقاربة الاثنوميثودولجية تختلف عن غيرها في الأساس والمنطلق النظري والمنهجي.فعلماء الاجتماع عموما يسلمون بأن النظام الاجتماعي له واقع موضوعي، وأن الفرد ملزم بالتماثل مع هذا الواقع ومكوناته القيمية والمعيارية.لذلك أخذوا يفسرون جذور هذا النظام وآليات اشتغاله.ففي المقاربة الوظيفية يتم التركيز على الأنساق الاجتماعية ومتطلباتها،والمقاربة الجدلية المادية تركز على عنصر الإلزام في النظام الاجتماعي والمستند إلى وضع الأفراد في التركيبة الاجتماعية وعلاقتهم بالإنتاج.فيما ترى المقاربة التفاعلية الرمزية أن النظام ينجم عن إجراءات تفسيرية يستخدمها الفاعلون في مواقف التفاعل،لذلك يعتبرون النظام الاجتماعي نظاما للتفاوض.وكل هذه المقاربات تمدنا بمجموعة تفسيرات متباينة للنظام الاجتماعي، لكنها مع ذلك تلتقي على أن هناك شكلا ما للنظام الاجتماعي يوجد بالفعل،وهو لذلك له واقعه الموضوعي.
- غير أن المقاربة الاثنوميثودولوجية تتخلى عن الاعتقاد في وجود نظام اجتماعي موضوعي أو فعلي.وتنطلق من مسلمة تعتبر أن الحياة الإجتماعية تبدو على نحو منظم لأفراد المجتمع.لكنها في الحقيقة تظهر كذلك بفعل الطريقة التي يدرك بها الأفراد ويفسرون من خلالها الواقع الاجتماعي.لذلك يصبح النظام خيال ملائم لأفراد المجتمع.وعليه لا ترى هذه المقاربة الفعل الاجتماعي عملية خارجة عن إرادة الفاعل وملزمة له بأدائها.أي أن الفاعل يمتلك الحرية في اختيار الأسلوب المناسب لفعله، بشرط أن يكون هذا الفعل متكرر الحدوث ويساعد على انتظام الحياة اليومية.
- وإذا كانت الاثنوميثودلوجيا،شأن الظاهراتية،ترى النظام الاجتماعي شيئا قائما بفعل جهود أفراد متعددين بخبرات متباينة، إلا أنها تدهب أبعد من ذلك باعتبارها المعرفة بهذا النظام غير ثابتة بالأساس،أنها شيء يخلق في كل عملية تفاعل جديدة.
- ولتعميق هذه الفكرة تقدم الاثنوميثودلوجيا مفهوم الطبيعة الفهرسية للمعنى.فعمل اللغة واكتساب المعاني يشبه عمل النظام الفهرسي في المكتبة،حيث يحيلنا هذا النظام دوما إلى أعمال أخرى في نفس الموضوع،أو أعمال لنفس المؤلف.وكذلك اللغة،فكل كلمة من كلماتها يحيلنا معناها إلى سياقها والمواضيع التي تناسبها في كلمات أخرى.وهذا يصح على أي جملة أو تعبير يؤخذ معزولا عن سياقه.وعملية تفسير المعاني لا تنتهي،إذ من الممكن دائما السؤال:ماذا تقصد؟مهما كانت الإجابة وعلى هذا فإننا لا يمكن أن نعتبر أي معنى من المعاني أمرا مفروغا منه .لكننا نتصرف كما لوأن الأمر كذلك.فنحن حين نصف موقفا من المواقف،فإننا نخلق ذلك الموقف في الوقت نفسه نجسد ونخلع عليه معنى،وهي العملية التي يشير إليها جارفينكل بالإحالة إلى الذات والحسابات الانعكاسية والتي نستخدمها في تفاعلنا اليومي لتصحيح الفهرسة ووضعها في سياق الدلالة حيث يتحقق المعنى الذي يأخذ به الأفراد وعملية الشرح تشير في الاستعمال اليومي العادي إلى شيء من قبيل تحاشي الموضوع أو اللف أو الدوران عليه.

4:التفاعلية الرمزية:
يقصد بها التيار السوسيولوجي الذي تأسس في أمريكا حول فكرة مفادها أن المجتمع هو نتاج تفاعلات بين الأفراد ، وقد ظهر هذا التيار هو الآخر بجامعة شيكاغو خلال منتصف القرن 20.رغم ذلك فإن تسمية هذه المدرسة بالتفاعلية الرمزية سيكون بالصدفة سنة 1937 من طرف أحد روادها هربرت بلومر، الذي طوره فيما بعد من خلال بعض المقالات التي نشرت خلال السنوات الأربع الموالية،مساهمة بذلك في إبراز تيار فكري منسجم من خلال أفكار مبعثرة ومأخودة من فلاسفة وسيكولوجيين أمريكيين وأوروبيين خلال القرن 19 وبداية القرن 20، ليتوسع هذا التيار الفكري عند باحثين آخرين يطلق على تسميتهم بالجيل الثاني لمدرسة شيكاغوا.
من بين أبرز رواد هذه المدرسة نجد:جورج سيمل، جورج هربرت ميد ، هربرت بلومر.
ترتبط التفاعلية الرمزية بعالم الاجتماع الأمريكي جورج هربرت ميد من جامعة شيكاغو والتي أخد يطورها في الثلاثينيات من القرن الماضي، والواقع أنها نظرية محدودة النطاق Small Scale أي أنها ترتبط بموقف معين من مواقف الحياة الاجتماعية ولا تسعى إلى فهم المجتمع ككل، أو هي ليست نظرية عامة في المجتمع، بقدر ما هي نظرية في التنشئة الاجتماعية مع أن البعض يحاول أن يطور منها نظرية شاملة في الواقع الاجتماعي ، وعلى أي حال فإن هذه النظرية تستند على مجموعة من المفاهيم الأساسية وهي الرموز، والمعنى والتوقعات والسلوك والأدوار والتفاعل.
أ‌- الرموز والمعنى: ينطلق ميد من مسلمة أساسية مؤداها أن الإنسان، شأنه شأن الأنواع الحيوانية الأخرى هو كائن ناشط وفعال، إن جميع الأنواع الحيوانية تمارس حركات وإشارات وتصدر أصواتا في استجابتها لبعضها البعض. لكن النوع الإنساني فقط هو الذي سرعان ما يحول تعبيرات الوجه إلى رموز، وأصوات وأفعال تنطوي على معنى.وتكتسب الرموز أهميتها وتصبح ذات دلالة حينما تكتسب نفس المعنى الذي كان في ذهن مرسلها أو صاحبها، بأسلوب آخر حينما يصبح للرمز معنى مشتركا فهي تصبح في هذه الحالة رموزا اجتماعية تكتسب من خلال التفاعل الاجتماعي مع الآخرين.ولكي يصبح الإنسان إنسانا فإنه لا بد أن يمتلك القدرة على التفكير التي هي نتيجة لسياق لغوي(والسياق اللغوي هو نسق من الرموز ذات الدلالة والمعنى)، إن الإنسانية إذن هي ظاهرة اجتماعية والناس هم كائنات اجتماعية أساسا، وإنسانيتهم نتاج للتفاعل الاجتماعي الرمزي مع الآخرين.
ب‌- التوقعات والسلوك: إن المجتمع هو في نهاية الأمر كمية أو حجم معين من التفاعلات التي تجري بين أعضائه، وهو يتكون من جماعات يرتبط الأفراد من خلالها ببعضهم البعض بالإضافة إلى العلاقات التي تربط بين هذه الجماعات ذاتها كجماعات.ويتم تنظيم السلوك داخل الجماعات وبين الجماعات وبعضها البعض وتنسيقه من خلال التوقعات، وهي التوقعات التي تخلق وتتطور بواسطة الآخر الهام أو المؤثر أو الآخر المعمم أي الآخر كرمز عام فالناس من خلال التفاعل يتعلمون أن يتصرفوا بالطريقة التي يتوقعها الآخرون منهم، ومن ثم فهم يراعوا أن يكون سلوكهم مطابقا للأنماط السلوكية التي تحدث في المؤسسات والنظم الاجتماعية التي خلقوها وهم يتعلمون أيضا أن الآخرين لديهم نفس التوقعات، ومن هنا فإن أنماط العلاقات بين الناس وجماعاتهم تشكل البنية الاجتماعية social structure، وتتجلى طبيعة المجتمع في أنه جماع للتوقعات المتبادلة والسلوك الذي ينجز هذه التوقعات.
ت‌- الأدوار والتفاعل:يؤدي المجتمع مهامه ويستمر في البقاء بسبب قدرة الناس على استخدام السلوك الرمزي، أو السلوك الذي يستخدم الرموز كنتيجة لامتلاك اللغة، ومن أهم النتائج المترتبة على هذه الحقيقة ما يسمى بالوعي الذاتي .فالطفل الإنساني يصبح واعيا بذاته كنتيجته لخبرته باللغة وتعامله معها، وإلى المدى الذي تتطور فيه قدراته اللغوية، فإنه يتعلم معاني الكلمات والاتجاهات المرتبطة بهذه المعاني والتي يعبر عنها أولئك الذين يستخدمون هذه الكلمات، ثم يتعلم فيما بعد ما يتوقعه الآخرون من سلوكه، وبمرور الوقت يكتسب هو ذاته توقعات مشابهة بالنسبة للآخرين، إن مجموعة التوقعات المرتبطة بسلوك أشخاص معينين تسمى أدوارا، والأدوار هذه هي بمثابة دالة أو انعكاس عضوية جماعة معينة.وتشكل الأدوار المعممة(الأب-الأم-المدرس) الثقافة أو هي توجد في الثقافة الخاصة بمجتمع ما في زمان ما وهي تعرف ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الفرد بوصفه عضوا في جماعة معينة وله أدوار معينة، وهذا ما يعرف بتوقعات الدور
إن المجتمع إذن في ضوء النظرية التفاعلية الرمزية هو شبكة معقدة من الأفعال الفردية والتفاعلات بين الأفراد ، وأن جميع هذه الأفعال والتفاعلات منظمة ومراقبة ومدفوعة بالعضوية الجماعية بما يترتب عليها من أدوار وتوقعات أدوار.ويستمر المجتمع في أداء مهامه وفي البقاء بسبب التنشئة الإجتماعية للناس حتى يصبحون قادرين على مواجهة التوقعات، هذه العملية التي تبدأ منذ لحظة الميلاد، ذلك لأن الأفراد يعتمدون على بعضهم البعض في المنافع والخدمات الضرورية لبقائهم.ومن ثم فالمجتمع يعمل في تناسق وتعاون من أجل إنجاز التوقعات ويتخذ من التدابير الممثلة في أشكال الثواب والعقاب(وهي تشكل أنماطا واقعية إضافية لأداء الأدوار). ما يراه كافيا وملائما لإنجاز هذه التوقعات.
5:التيار الفينومينولوجي:
تزعم هذا التيار الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل،ولاحظ على أن المعرفة العلمية أصبحت منفصلة عن خبرة الحياة اليومية ونشاطها، وهي المكان الذي نبعت منه تلك المعرفة أصلا، وعلى هذا رأى أن مهمة الفلسفة الظاهراتية هي إعادة تلك الصلة.وقد استخدم علماء الاجتماع هذه الحجة بعد نصف قرن ضد النظرية الاجتماعية التقليدية،وخاصة الوظيفية البنائية، من حيث تلك النظرية أصبحت منفصلة عن نبض الحياة اليومية.
تهتم الظاهراتية أساسا بدراسة البنى وبعمل الوعي الإنساني، ومسلماتها الرئيسية-المضمرة غالبا- هي أن العالم الذي نعيش فيه عالم مصنوع في وعينا، أو في رؤوسنا.ولا يعني هذا نكران وجود العالم الخارجي،بقدر ما يعني أن العالم الخارجي لا معنى له إلا من خلال وعينا به.وحيث أن عالم الاجتماع لا يهتم إلا بما له معنى في هذا العالم،لذا يتعين عليه أن يفهم كيف يصنع البشر عالمهم عالما ذا معنى.
Alfred schutz:هو من تلاميذ هوسر،أول من عمل على مزج أفكار الفلسفة الظاهراتية مع علم الاجتماع عبر نقد فلسفي لماكس فيبر.فقد حاول أن يبين كيف أننا نبني معرفتنا بالعالم الاجتماعي من فيض أساسي من التجارب المضطربة التي لامعنى لها.ونحن نفعل ذلك بعملية"تنميط"، من خلال تصنيف الخبرات والتجارب على أساس التشابه.وهو يعتبر أن أساس عالمنا الاجتماعي ، معرفة مسلم بها،وكل واحد منا ينظم هذه المعرفة على أساس ماهو قائم هنا الآن، أي على أساس ما نفعله في زمكان معينين.هذه المقاربة تتسم بمنطلق تفاعلي يقع بين فاعلين-على الأقل-هدفها تشريح النسيج التفاعلي بينهما،لتتعرف على نشأته وتطوره مركزة على المعاني الذاتية ورؤية المتفاعلين ومشاعرهما وتفكيرهما، ولتتطلع فيما بعد على ما يتحكم في هذا النسيج التفاعلي بين ذلك:
- فهي تفترض بداهة أن عقل الفاعل ليس مجردا، بل مكتسبا لقواعد اجتماعية حصل عليها من محيطه الاجتماعي، وهو عقل تمت صياغته بشكل ينسجم مع المحيط الذي يعيش فيه.
- عند تعايش الفاعل مع محيطه الاجتماعي وتفاعله مع الآخرين،يبدأ باكتساب خبرات اجتماعية حول عالمه المحيطي.
- لا يفرط الفاعل بهذه المكتسبات الاجتماعية،لذلك يحرص على تخزينها في ذاكرته لتكون باكورة معارفه الاجتماعية.
- يستخدم الفاعل هذه المكتسبات المعرفية المخزونة في ذاكرته عند تعامله اليومي مع الناس.أي يستخدم الخبرات الماضوية لمواجهة الفاعلين في محيطه،الأمر الذي يمنحه رؤى جديدة حول علائق اجتماعية مستشرفة.
هذه الافتراضات التي انطلق منها شوتز،حول الفاعل قبل دخوله حالة تفاعل مع الآخر، أراد من خلالها أن يصل معرفة تفكير المتفاعل معه، وكيف يعرف الفاعل نفسه وكيف يتبادل الناس إدراكاتهم عندما يتفاعلون.
استخدم شوتز مفهوم المعرفة المخزونة عند الفاعل الاجتماعي لينتج مفهوم آخر هو مفهوم التخلل الذاتي الذي ينتج عنه تقبل ذاتي بين الفاعلين، كل منهم للآخر وهذا لا يحصل إلا عندما ينتج هؤلاء النمذجة. التي تعني تشكيل صيغ متنوعة ومتعددة للأفعال الاجتماعية التي مرت عليهم عبر حياتهم الاجتماعية.
وبالتالي فالتحليل الفينومينولوجي المقصود به وسيلة لاستخلاص ما نلاحظه في الواقع لفهم جوهر الأشياء وتحليلها وربطها بالصورة الذهنية والعقلية للأفراد بطريقة علمية مدروسة.


خاتمة:
نستنتج من خلال الإطلالة التي قمنا بها بأهم النظريات(الكليانية، الفردية) التي غدت الفكر السوسيولوجي عامة،سواء في فرنسا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أن الفكر السوسيولوجي بدأ وتطور من فكرة أو قضية اجتماعية تتم دراستها وفق منهج سوسيولوجي كمي أو كيفي وفي مجال اجتماعي محدد لتصبح بعد ذلك النتيجة المتوصل إليها منهجا أو قاعدة يتبناها باحثون آخرون ويعممونها على مجتمعات أخرى،لتتطور بعد دلك إلى أن تصبح نظرية قائمة بذاتها لا يستطيع أي باحث سوسيولوجي مهما كان مستواه العلمي والمعرفي أن يتجاهلها.
ومن هنا فإننا لا ندرس هذه النظريات أو نكتب عنها عبثا أو اعتباطيا، بل لأننا نؤمن بضرورة الاستفادة منها في اختيار المواضيع أو القضايا الاجتماعية التي نريد دراستها،كما أنها ستساعدنا على تحديد المنهج الملائم لجمع المعطيات الخاصة بتلك الظاهرة،وكذا الإطار النظري الذي نود تحليل المعطيات على ضوءه،دون السقوط في التكرار والنقل المشوه للمعارف المنتشرة هنا وهناك.

 لائحة المراجع:
1) إيان كريب،النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس،دو الحجة 1419هجرية،أبريل/نيسان 1999م.
2) أحمد القيصر،منهجية علم الاجتماع بين الماركسية والوظيفية والبنيوية،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة(الطبعة الأولى 1985).
3) امحمد مهدان،نظريات سوسيولوجية معاصرة،كراسة جامعية.
4) محمود عودة،أسس علم الاجتماع،دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت.
5) عبدالغني عماد،منهجية البحث في علم الاجتماع الإشكاليات،التقنيات والمقاربات،دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت.
6) فيليب كابان وجان فرنسوا دورتيه،علم الاجتماع من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية،أعلام وتواريخ وتيارات،دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع،ط،الأولى،السنة 2010م.

، طالب باحث في ماستر سوسيولوجيا التنمية المحلية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكا تزود أوكرانيا بسلاح قوي سرًا لمواجهة روسيا.. هل يغير


.. مصادر طبية: مقتل 66 وإصابة 138 آخرين في غزة خلال الساعات الـ




.. السلطات الروسية تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة | #


.. مراسلنا: غارات جوية إسرائيلية على بلدتي مارون الراس وطيرحرفا




.. جهود دولية وإقليمية حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة | #رادار