الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنيسة ذاكرة تتوهج

رجاء غانم دنف

2006 / 3 / 9
ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي2006 - أهمية مشاركة المرأة في العملية السياسية ودورها في صياغة القوانين وإصدار القرارات


لم أدر كيف ساقتك الذاكرة إليّ وأنا أفكر في كتابة شيء حول الاحتفال بيوم المرأة العالمي اليوم الذي ستغص فيه الدنيا بألاف المقالات والقصص حول النساء ونضالهن ومكانتهن والخ.........وسيلتفت القليل ربما إلى ذاكرتهن المفعمة بالأصالة والألم .
أنيسة القادمة من قرية الطنطورة في الجليل الفلسطيني .الجليل الذي يكاد يكون جنة أخرى منسية كانت عمتي بالعاطفة التي استقبلت أمي عروساً صغيرة في السبعينيات وكست بيتنا الاول بحصيرة وعدد من الفرشات لأنها اعتبرت أن والدي المنفي المطارد هو شقيقها بالروح .
ما زالت صورتها تراودني حتى اليوم وهي ترتدي ملابسها وكانها لا زالت في قريتها البعيدة وتصر على لبس بنطال تحت الفساتين لخجلها الشديد من إبراز ساقيها النحيلتين ،ومن شيم المرأة المحتشمة تغطية ساقيها كما كانت تقول . مازالت صورتها تراودني وهي تجوب حواري مخيم اليرموك تسأل عن الناس وعن الشباب المطاردين أو الشهداء لتجدد عهد ذاكرتها وذاكرتي .
أنيسة كانت الاقدر والأذكى في دغدغة مشاعري وخيالي حول وطني الذي لم اكن قد رأيته بعد وأذكر كيف كنت أتربع صغيرة أمامها وهي تتحدث كما الملكة عن أيامها في الطنطورة وبحرها الذي لا يشبهه بحر في فلسطين تماماً كعنب قريتنا الذي لا يشبه طعمه اي طعم آخر في حلق والدي الذي لم يصل أبداً إلى حد استفزاز مشاعري وأحزاني كما كانت تفعل أنيسة .
حدثتني مرةً كيف كانت تنسل إلى مجالس النساء اللواتي يعددن العروس لليلة زفافها وتسرق قسماً من حلاوة السكر المعدة لإزالة شعر العروس لتذوقها ،وفي مرة أخذت قطعة كبيرة ولكنها التصقت بحاجبيها وعندما نزعتها كانت بلا حواجب فاضطرت أن تهرب أياماً متواصلة منذ الفجر وحتى المغيب تجلس قبالة البحر وحيدة ساكنة إلا من خواطرها وفرحها الطفولي .
التهجير والخروج من فلسطين كان محطتها الاولى مع الالم الذي حدثتني عنه بكثير من التفصيل كيف نظرت للمرة الاخيرة الى القرية وبكت البحر الذي كان مأمن أسرارها وصديق طفولتها وبعدها استسلمت أنيسة لحمى قوية طويلة لم تستفق منها إلا وهي في دمشق المنفى الجديد .
الخجل عندها كان له طعم مختلف لأنها كانت تترجمه حدة وشراسة مع من حولها لكنه بقي سوراً عرف كل من أحبها كيف يتجاوزه إلى قلبها الكبير .
أحبت أنيسة مرة واحدة في حياتها وكانت تتدلل كثيراً على حبيبها الذي خطبها وذهب لحتفه قبل أيام من عرسهما .
أخبرتني تلك القصة في الشتاء فالتصقت بها وأنا ارى ملامحها للمرة الاولى تعبق بهذا الالم : عندما وصلت جثته أصر أهلي أن يحمموه في بيتنا وجئت لأراه وللمرة الاولى أمسكت يده كانت باردة ولكنني أقسم أنه تبسم حين رآني وفتح عينيه، فطلبت مقصاً وذهلت النسوة حولي لهذا الطلب لكنني أصريت عليهن وقمت بعدها بقص جديلتيّ الطويلتين ووضعتهما بجانبه في التابوت ومنذ ذلك اليوم توقف شعري عن النمو ، ومن يومها لا أطيق بيتنا هذا وأحاول قدر الامكان الهرب منه إلى بيوت أخرى وناس آخرين.
أزالت الايشارب عن رأسها فرأيت شعرها القصير الاشيب وصدقتها .
لم تتزوج أنيسة بعده برغم طلبات كثيرة ملحة من اصدقاء وعائلة وجيران كان حبيبها بحراً آخر ابتلع أسرارها ونام بعيداً .
ذكريات أنيسة عن فلسطين كانت مفعمة بالاطعمة والروائح الغريبة على عكس ذاكرة والدي المليئة بالقسوة والصخور ربما لأنها نشأت على الساحل وهو نشأ في حضن قريتنا الجبلية .
ذاكرتها مليئة بالماء واللزوجة الذين كانا يفعمان طفولتي وطفولة كل الاولاد والبنات بطعم آخر للفرح والانتماء .
أنيسة التي جار عليها الزمان كثيراً وحصدها كل أفراحها كانت تحصن نفسها بالرواية وبسحرها وتنقلها بأمانة لكل من حولها فتترك أثراً كبيراً في الذاكرة والروح .
مررت يا أنيسة قبل حوالي العام أمام قريتك الطنطورة كنت مع طلابي أهرب من موسيقاهم الصاخبة ورقصهم إلى الووكمان وفيروز مررنا بجبال تشبه الحلم فسألت سائق الباص :أين نحن الان؟ أجابني بعينين باردتين ولسان ميت : هذه الطنطورة
لم أعرف ماذا أصابني ركضت من شباك الى آخر والتقطت كل ما أستطيع رؤيته ورؤيتك به وحاصرتني بحضورك بشكل لم يخففه عني إلا الدموع الكثيرة التي تساقطت على غير موعد .
كنت أراك هنا وأرى الطنطورة بعينيك التي حدثتني وآلمني أن أمسّ مكانك وذاكرتك في وقت تبدين فيه أبعد من أن أراك وأسمعك من جديد .
أنيسة ما زالت في مخيم اليرموك في دمشق ،ما زالت صديقة العائلات والناس المحملين بالتعب والذاكرة ،ما زالت تطوف شوارع المخيم ببنطالها المعهود تحت الفستان وكأنها في الطنطورة وتفتش عن بحرها وحبيبها .
تذكرين يا أنيسة :عندما خلعت بنطالك لأول مرة وارتديت فستاناً أنيقاً لاستقبال والدي بعد خروجه من السجن؟ ذهبنا الى مطار دمشق الدولي وكانت حشود كثيرة تنتظر وعندما رأيتِهِ وقفت وزغردت وهاهيت (1) ورقصت رقصتك الفلسطينية الرائعة. يومها كنت أود أن أقول لك :عمتو أنيسة وين بنطلونك ؟وكمان الايشارب وقع عن راسك وانت مش حاسة؟؟
هي في منفاها البعيد وحصيلة الذاكرة ، وأنا في منفاي الوطن مع توهج الذاكرة والاسماء والوجوه .


رجاء غانم دنف /فلسطين

(1) المهاهاة :نوع من الكلام المنتظم على وزن واحد تقريباً يقال في الاعراس والافراح يمجد العروسين وأهلهما ويدعو لهما بالهناء وراحة البال ويترافق عادة مع الزغاريد وهي عادة عرس متبعة في كل بلاد الشام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تناور.. «فرصة أخيرة» للهدنة أو غزو رفح


.. فيديو يوثق اعتداء جنود الاحتلال بالضرب على صحفي عند باب الأس




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات القصف الإسرائيلي في جميع مدن ق


.. حماس: تسلمنا المقترح الإسرائيلي وندرسه




.. طالب يؤدي صلاته وهو مكبل اليدين بعدما اعتقلته الشرطة الأميرك