الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانفصام

صيقع سيف الإسلام

2018 / 3 / 16
الادب والفن



إن تجربة مدينة جديدة ليمد الإنسان بشعور عظيم من الحماس و التفاؤل و الأمل الكبير ، هذا ما أحس به وأنا أنزل ضيفا في مكان لم يسبق لي رؤيته . مدينة صغيرة نسبيا بشوارع نظيفة و مصابيح ليلية كثيرة و أزقة ضيقة ، يسكنها مجتمع تقليدي يجد متعته في سرد الأساطير و نقل الحكايات الخرافية ، أول ما وصلت هناك حتى صار الجميع يحدثني عن ذلك المجنون الذي خسر ثروته و لم يتزوج أبدا و كيف أنزل الرب به عقابا ، جعله أبكما لا ينطق ، أبكم من عشر سنوات قالوا ، جزاءا لأفكاره التي يؤمن بها ، خاصة احتقاره للمجتمع و سعيه في تسميم شبابنا . . . هذه كانت البدايات التي عشتها داخل العيادة الجديدة التي بعثت طبيبا فيها ، عيادة مختصة في الذاكرة و الزهايمر ، تعتني خصوصا بالكبار في السن . كان يوم الاستقبال احتفاءا هائلا ، بلغ من ذلك أن المرضى أنفسهم لم يأتوا لزيارة استشفائية بل تهنئة و ترحيبا بي ، كان شيئا جميلا رائقا ، حتى أن بعضهم جلب هدايا خاصة لي ، يعلقون قائلين : لقد أبدلنا الله بذاك المجنون المسخوط إنسانا عظيما مثلك ، هي رأفة و رحمة تنزل من قبة السماء على بيوت مدينتنا الصغيرة . . . كل هذا زاد من فضولي الشديد في معرفة تفاصيل قصة هذا الأبكم الذي لم يسمع الناس صوته من عشر سنوات ، الجميع كان يترنم و يتغنم به كأيقونة ، لوهلة شعرت أنه الشيطان بالنسبة إليهم و هم كانو في انتظار النبي المخلص ، غير أنني كففت عن التساؤل بصدد فضولي تحقيقا للباقة ، و قد سرني أخيرا التوقف عن الحديث في تلك المسألة لما دخل أحد الرجال موقفا النقاش ، رجل طويل ممشوط القوام ، شبيه بأرستقراطي غني ، وجهه مشرق ينم عن ذكاء ، مع ابتسامة لا تفارق محياه ، و سرعان ما أفضى عن مرامه بأنه يود حديثا خاصا في قضية مهمة بل و خطيرة جدا في نظره ، بيد أن الحضور من أصحاب المدينة منعوه و صدوه ، و اعتبروا فعله من قلة الكياسة ، ثم اعتذروا عن سلوكه وتصرفه ذاك ، ولم تسنح لي الفرصة أن أسمع ما يريد ، إلا أن ضحكات هنا وهناك و تسامرا خفيا قد ألمح لي بعبارة غريبة صدرت من الأرستقراطي أنه ينوي محو ذاكرته ، ولم أعتبرها شيئا البتة .

انقضت الأمسية بشكل جيد ، و قد ألح الحضور أن يوصلوني إلى بيتي خوفا علي من المجنون الأبكم ، غير أنني رفضت و قررت المضي وحيدا تحت جنحة الليل . إن المشي في الليل البهيم يمدني بنشوة عظيمة و يساعدني على التوغل لأعماقي و الكشف عن بعض الخبايا المطمورة داخلي ، الليل بالنسبة لي ساعة التواصل الصادق مع نفسي و لا شاهد على ذلك إلا نقط النجوم . عموما أغلقت العيادة و انفصلت عن الحضور ، ورحت أخطو خطواتي ببطء و نسيم الليل البارد يلفح وجهي بنعومة ، و كعادتي أغلقت عيوني و أقللت من سرعة تنفسي و أبطأت من سيري ، طلبا لخلود تلك اللحظة ، و استمرارها إلى الأبد . دوما ما شعرت بشبه هذه اللحظة بتلك التي يعاينها الغريق في وسط المحيط قبل غرقه تماما ، هو يبصر المحيط بجماله المطلق في ذلك الكسر من الثانية ، يبصر المحيط بسكونه وصمته و حكمته ، جمال لامنتهي ، قلت ذلك الكسر من الثانية لو استمر إلى الأبد لما رضي الغريق أن ينجو بنفسه ، بل يظل على غرقه مع ما يجده من جمال المحيط في أعماقه و الصمت يطبق على جميع الجهات ، هذه شاعريتي مع لفحة النسيم تلك في الليل البارد . . . على أن هذه الشاعرية بدأت تفقد جاذبيتها و أنا أسمع حثيثا سريعا يخطو باتجاهي و يهمس بجمل متقطعة : " هل تغفر لي ؟ " ، " هل تفهمني ؟ ، أريدك أن تفهمني فقط " ، " الاعتراف هو ما أحتاجه فقط " . . . التفت خلفي فإذا رجل على رأسه قلنسوة تغطيه يسرع باتجاهي و يدمدم حروفا ما ، أسرعت كي أسبقه غير أنه زاد من قوة سيره ، استدرت في أحد الأزقة الضيقة ، ليستدير هو الآخر ، ولم تمض لحظات حتى أمسكني من كتفي ، و رماني على حافة الجدار ، قلبي يكاد يخرج من قفصه ، و رجفة تصيب جسدي كاملا برعدات من الخوف المميت ، هي نهايتي هكذا خطر لي ، وما ضاعف من رهابي هو أن وجه الشخص مختبئ في مسحة من الظلام ، لا يكاد يبرز شيء إلا عيونه البراقة ، عيون واثقة تثقب الحديد ، ثم أدركت أنه لا يملك سلاحا ، لكن عضلاتي كانت متقلصة متشنجة و لم يخطر في ذهني القيام بأدنى حركة ، كنت مشلولا تماما ، و هكذا انطلق صوت دافئ حصيف يهمس من تلك الظلمة . قال الصوت :

. . . . .

أريدك أن تسمعني فقط ، سأمضي سريعا ، سريعا أقول لك أيها الإنسان الطيب ، أنت بروحك الطاهرة تدرك حاجة الإنسان إلى الاعتراف ، حاجته كي يجد شخصا ولو طفلا صغيرا يغفر له و يعطيه أملا . إن ما يحتاجه كبار المفسدين أحيانا إلا كلمات الصفح و الغفران حتى يستحيل الواحد منهم إلى راهب عظيم و مصلح هائل ، هذه بغيتي عندك أيها الإنسان الطيب ، تسمع لي ، نعم ، نعم ، سوف تسمعني وتغفر لي و يمضي كل منا في سبيله . . . الذنب الذي يؤرقني ويثقل كاهلي أيها الإنسان الطيب أنني سترت جرما عظيما ارتكبه أحد الأرستقراطيين العدميين ، آسف لن أحكي لك الجريمة، إنها شنيعة ، بل ليس هناك أشنع منها ، بشعة تقتل النفس الطاهرة أقول لك ، وإذا علم هذا الأرستقراطي العدمي بأني أخبرتك و أفصحت لك ، سيقدم على قتلي ، هو غير رحيم البتة ، البتة ، اعتذر على كلامي المتفكك و جسمي المرتعش ، لا أستطيع السيطرة على أعصابي ، أنا أنفعل بسرعة و قوة ، يسيرا فأفقد توازني العقلي ، بل لا عقل لي البتة ، أنا مجنون هاهاها . . . حسنا ، إليك التفصيل :

لم يكن هذا الأرستقراطي العدمي إلا فلاحا حقيرا مغمورا في تراب أرضه الصغيرة ، يهتم بها اهتمامه بنفسه ، بل أعظم ربما ، و بقدر غبائه الفطري ، إلا أنه امتلك نزعة تؤهله لاخفاء تلك الغباوة ، أعني امتلاكه لقوة تأمل هائلة تسعده في تحليل الأمور . و لا جرم أنك تدرك ما للحظة صغيرة و موقف بسيط أن يغير من مجريات الحياة و يقلبها رأسا على عقب ، حتى قد يخلق مثل هذا الموقف البسيط من الفلاح الساذج فيلسوفا ضخما ، وهو ما كان لهذا الأرستقراطي ، ففي أحد الأيام شاهد على تراب أرضه طفلا صغيرا مصابا بأحد الأمراض الموسمية ، وهو مرض موسمي له أعراض بارزة على الجسد لا إمكانية في سترها ، احمرار في الأنف ، وسيلان الدموع ، و كحة مستمرة و متقطعة ، و جفاف في الفم . لقد كان الفلاح مصابا هو الآخر منذ عشرة أيام بهذا المرض و قد أرهقه جدا . في اليوم التالي مر ذات الطفل من هناك ، غير أنه بصحة وحالة ممتازة ، ليست عليه علامة مرض واحدة ، حيث أدهش الأمر الفلاح و استغرب لفترة مديدة تلك الهيئة ، على أنه خبير و ملم بمثل هذه الحوادث . لم تشكل القضية سحرا بالنسبة للفلاح فقد عاين نفس الأمراض الموسمية لمدة طويلة ، إن ما خالج ذهنه و نبت في خلده تلك الساعة هو سؤال سوف يصوغه بعد سنوات في هذا القالب :
ما الفرق بين الشخص العادي وبين الشخص صاحب المعرفة ؟.

سابقا كان هذا الفلاح يعتقد بأن الشخص العادي الساذج أفضل من ذاك صاحب المعرفة ، أي الشخص العادي له القدرة على عيش التجربة ذاتها و الانغماس فيها و التمرغ في وحلها ، و هذا هو الشعور بالحياة حقا ، في حين صاحب المعرفة أقل عيشا للتجارب و أقل انغماسا و منه يكون إحساسه بالحياة ضئيلا فقيرا . أن يعرف المرء متتالية فيبوناتشي الرياضية في أوراق الزهور ، لا يساوي فلاحا يمسك الزهرة و يستنشق عبيرها و يبصر امتصاص رحيقها وهو قطعا يجهل فيبوناتشي . أن يعرف المرءالقانون الثاني للديناميكا الحرارية لا يساوي شخضا فوق سفح جبل مثلج بارد يستدفئ عند نار دافئة صفراء . أن يعرف المرء نظريات أوجست كونت و غوستاوف لوبون و آدلر لا يساوي شخصا يتعارك مع الحياة داخل المجتمع و يقع في العصاب و الأمراض النفسية . . . ثم جاءت واقعة الطفل ، مرض الطفل استمر يوما أو يومين ، في حين مرض الفلاح استغرق عشرة أيام ، السر هو نبتة علاجية علم بها هذا الفلاح لاحقا . معرفة النبتة تلك هي الشيء الجوهري الذي جعل الطفل يسبق بالشفاء الفلاح مدة ثمانية أيام . هنا برز استنتاج الأرستقراطي : معرفة النبتة قلصت زمن الشقاء و ضاعفت من زمن المتعة و اللذة ، معرفة النبتة ساهمت في رفع رصيد الحياة ، هذه الحيثية تجعل صاحب المعرفة أكثر إحساسا و شعورا بالحياة ، بل و تكشف له النقاب عن شيء مكتوم هو القدرة على تحديد الأهداف الحقيقية في الحياة ، ذلك أن البشر العاديون ممنوعون من قدرة تعيين الأهداف الحقيقية و السعي و البذل لها ، هو السؤال الثاني في قصة تولستوي عن الملاك المعاقب بالطرد من الملكوت ، ولن يعود إلا بالإجابة عن اسئلة ثلاث ، منها : ما الذي منعه الإنسان ؟.

يجب أن أذكر هنا صفة أساسية تتعلق بهذا الفلاح الذي صار فيلسوفا ضخما . إن الوفاء صفة ثابتة في البشرية و لا مناص في التملص منها ، حتى أنها تكون حقيقية و مجازية ، يبقى فقط اختلاف لما أو لمن نحن أوفياء ؟ . بعضنا وفي لنفسه فإذا ما تعلق الأمر بذاته كان راضيا ، مركزيته هي ذاته ليست شيئا آخر يبحث في الشيء المتصل بالذات أهو حق أو كذب ، أهو جريمة أم عمل إنساني ، هذا النوع من الوفاء يبحث فقط على الذات و يقوم باقصاء الغير . بعضنا الآخر وفي لشخص آخر ، فكل ما يرتضيه الشخص الآخر هو مقبول سائغ عنده و لا يتعلق الأمر بإرادته هو ، إرادته هي ما يرضاه الشخص الآخر سواءا كان عشيقة أو أما أو أبا أو شخصية خيالية . الفلاح يختلف عن كل هذا فهو وفي فقط للقيمة ، وفي للمبدأ ، وإذا ما خدش المبدأ يخسر الأرستقراطي نفسه و تنكسر روحه و يصبح كل شيء بلا معنى في نظره و اعتقاده ، ولما كان وفيا للقيمة المطلقة ، وفيا للمبادئ السامية ، استطاع أن يقوض الفلسفة و الفكر و المعرفة عموما ، قلت استطاع أن يقوض كل هذا خدمة للمبدأ و في أمل تغيير العالم ، هو مؤمن مسرف الإيمان بما قاله ماركس أن مهمة الفيلسوف لا تكمن فقط في تحليل العالم بل في تغييره . هذا التغيير للأفضل و السعي لخدمة الإنسانية و الصلب من أجلها حتى لو استلزم الأمر . . . ربما بدأت تفهم الآن أيها الإنسان الطيب أن سبب معاناة الفلاح يتعلق بهذه الصفة خصوصا ، الوفاء للفضيلة و القيمة المطلقة . لقد قابل المجتمع أفكار هذا الإنسان في الرقي بأحوال الناس ، تمت محاصرته و عزله بأفكار دونية تارة و بسذاجات و سخريات تارة ثانية ، لم يعد مفهوما لهؤلاء الناس مجريات الأمور و المقاصد التي يسمو إليها هذا الفيلسوف الفلاح ، وبقدر سخريتهم و صدهم عن سبيله ، ازداد بؤسا و أرقا و كآبة ، تتألم نفسه في سبيلهم و لأجلهم ، إنه في حالات كثيرة يصاب بحالة هيسترية ، يضطرب فيها عقله و يغدو شبيها بإنسان سكران يحاول الهروب من نفسه ، من ذاته . إن عدم تحقيقه لشيء كفيل بخدمة الإنسان و العالم يعذبه ، ويزداد عذابه بمرور الوقت و تعاقب الأيام ، يغدو الألم عميقا و شرسا يفترس كل إحساس بالسعادة ولو صغيرا كان ، أخيرا يستعمر الألم القاتل كل الأحاسيس ، و يستحيل الفلاح إلى كآبة لا تطاق ، لو جاز لها أن تتمظهر على أرض خضراء يافعة لأحالتها لشيء محروق أسود سواد الفحم الخام .

إن كآبته كانت شيئا مدمرا هذا الفلاح ، غير أن شيئا زاد في جرعتها فصارت سما زعافا . زوجته تركته في اعتقاد منها أن زوجها قد تغير و أصابه مس من الجن ، هو مجنون الآن ، مجنون أرستقراطي ، و الفلاح كان يحبها حبا مقدسا إلهيا ، حبه لها كان مثاليا ، حبه لها كان مبدأ بحياله من مبادئه السامية ، ولما افترقا كان يردد دوما و أبدا أنها تعشقه ، فقط هي تجهل ، ذلك أن تمظهرات العشق متعددة ، من عشق الجسد ، إلى عشق المرأة لأبيها في صورة عشيقها ، إلى عشق المرأة لمعشوقها وهو في صورة ابن لها هي أمه . يردد الفيلسوف الفلاح دوما أن تلك المرأة تحبه حبا عارما جارفا لكن هي تجهل بذلك ، و حينما تكبر و تنضج تدرك هذه الحقيقة ، هي تحبه هو الفلاح كشبح في جسد زوجها الجديد لا أكثر .

خسر الفليسوف الفلاح مجتمعه و زوجته ، هناك قرر فكرة من أفكاره تقول : يملك الإنسان أن يعيش فقط داخل ذكرياته القديمة دونما احتياج لخلق ذكريات جديدة ، وبهذه الفكرة انعزل داخل بيته و أرضه الصغيرة التي تحيط بمنزله و تدر عليه من خيراتها، تكمن فكرة العيش في الذكريات القديمة أن لا يكون هناك مستقبل البتة ، فقط خلايا تشيخ و تذبل ، لم يقرأ الفلاح كتابا جديدا ، ولم يستمع لمعزوفة حديثة ، ولم يغير من ترتيب الأثاث ، لم ينظف غرفة واحدة من مسكنه ، لم يتعلم وصفة طبخ أخرى ، الخلاصة لم يأت على شيء جديد مهما كان . . . اعتقد الفلاح أن السعادة لا تكمن في العيش يوما بعد يوم و خلق ذكرى جميلة بعد ذكرى جميلة ، قال لنفسه أن سبب شقائه هو ذاك الأمل بغد أفضل ، الأمل بمستقبل أجمل ، هذا هو الشقاء بعينه ، فقرر قطع الأمل بمستقبل أفضل و العيش مع الذكريات الجميلة التي مرت به ، هي ذكريات محدودة و سيكررها كثيرا ، لكنه على الأقل لن يصاب أبدا بشيء اسمه خيبة الأمل . لم يخرج من منزله ذاك لسنوات طويلة ، دوما يعيد ذكرى جميلة كقراءة كتبه المفضلة ، أو متابعة مذكرات زوجته المضحكة بخطها الركيك ، كذا استماعه لمعزوفات زفافه و كبار الموسيقيين الذين التقى بهم ، يكرر ذلك يوما إثر يوم ، الذكريات الجميلة السابقة يوما إثر يوم ، أيضا صلاته الدائمة في جوف الليل و رقصات المازوركا و الفالس و التعبير الحركي الذي يتقنه ، كتاباته التي قام بها كان يعيد كتابتها بنفس المواصفات كلمة كلمة و بنفس الشروط السابقة التي كتبها بها ، الإنارة المنخفضة ، النافذة المفتوحة ، السمفونية ذاتها تشتغل ببطء و خربشة قليلة ، ثم بعد الانتهاء من التأليف يقوم بحرقها في النار الدافئة حتى يتسنى له تأليفها هي عينها مرة أخرى ، ربما المرة الألف أو يزيد . لسنوات طويلة لم يعرف الفلاح الفيلسوف إلا الماضي القديم بذكرياته اللذيذة . كان الناس يعيشون المستقبل لكن الفلاح جعل الماضي هو المستقبل كفكرة للعيش داخل هذا العالم .

ربما استمرت فكرته في عيش ذكريات الماضي السعيدة لعشر سنوات أو يزيد ، لكنه أخيرا في ظلمة الليل خرج هائما سائحا مضطربا يبكي بحرقة و يحاول أن ينشد نشيدا يحفظه ، ينطلق كلماته بصعوبة وتلعثم ، كان منظرا مؤسفا ، أحسستني أرى الفلاح الفيلسوف من داخل عقله ، كأنني هو ، شعور تملكني تلك اللحظة و شعرت بصداع شديد إثر ذلك ، لم يدم طويلا ، استفقت سريعا ، فإذا بالفلاح على رأسي يبكي و يسألني المغفرة ، راح يردد كلمة التوبة التوبة ، لم أتحمل المشهد ، راح يهذي و يمسكني و يهزني قائلا أن أعده بشيء واحد : لا أكشف سره لأحد ، حاولت تهدئته لكن أضحى منفعلا بشدة ، فوافقت على وعده ، هناك اعترف لي بأنه خان زوجته .

بقدر ما تبدو خيانته لزوجته أنها شيء غير مفهوم بل سخيف باعتبار ما ، بأكثر من اعتبار حتى ، إلا أن الصفة الأساسية للفلاح الفيلسوف كانت هي الوفاء للمبدأ ، الوفاء للفضيلة . حبه لزوجته لم يكن في نظره شيئا حبيسا في قوقعة المشاعر فقط ، بل حبه كان عقيدة ، كان مبدأ بحياله . خيانته لزوجته كانت خيانة للمبدأ ،و لأن المبدأ و الفضيلة هي حياة الفلاح كاملة ، فقد خان حياته كاملة ، خان نفسه و دمرها و أذكى نار الكآبة فيها ، وبدل فشله في تقديم شيء للإنسانية ، انضاف إلى ذلك خيانته للمبدأ ، خيانته للفضيلة ، مرة أخرى خيانته لحياته ككل ، و حقيق أن زوجته ليست زوجته ، لكنها بالنسبة له مبدأ و المبادئ خالدة سرمدية لا يجوز نقضها في سائر الأوقات . . . هكذا سعى في أن يجد شخصا ما يغفر له و يستمع له ، سعى الفلاح الفيلسوف و الأرستقراطي عندي كي أغفر له خيانته لزوجته و كي اطمئنه في فشله لتقديم عمل حقيقي للإنسانية ، كنت عزاءه الذي ينجح في تسكين نزعته المثالية . . . ها أنت تراني أنا أيضا مصاب بكاهل مثقل ، أعترف لك أيها الإنسان الطيب ، يا مبعوث السماء ، سأرحل ولن تراني أعدك ، أريدك فقط أن تحقق طلب الأرستقراطي الذي زارك مبكرا في هذه الليلة ، أريدك أن تقتله إن لم تستطع محو ذاكرته ، ها أنا أرحل ، ارحم ذاك الإنسان و ارحمني معه ، هو دوما يأتي يطلب المغفرة عندي ، لا تفزع ها أنا أبتعد ، أبتعد ، وداعا أيها الطبيب ، وداعا ...

. . . .


بقدر ما هو مرعب هذا الموقف ، أن أعايش أنا الطبيب الذي يزور هذه المدينة لأول مرة ، إلا أن الموقف في ظرف دقائق استحال إلى شيء ودي ، الصوت من الظلمة يتحدث ، و أنا أستمع ساكنا بل مهتما بالقصة ، زال خوفي تدريجيا و ارتفع فضولي أكثر ، و لا جرم أن هدوئي أتى من باب اطمئناني ، لماذا عايشت الاطمئنان ؟ . ببساطة : لأن العيون لا تكذب ، تلك العيون البراقة التي كانت تتحدث من الظلمة بصوت حصيف ، هي نفس العيون للأرستقراطي الذي لمحته داخل العيادة في وقت مبكر . ربما سيبدو هذا غريبا ، لكن الأرستقراطي و الشخص الذي كان يتحدث معي هما نفس الشخص ، الأرستقراطي و الشخص الذي كان يسمع اعتراف الأرستقراطي هما الأرستقراطي عينه . إن انعزاله و عيشه في ذكريات الماضي و جعل الماضي مستقبلا خصوصا بعد فشله في تحقيق عمل للإنسانية ، كل هذا ساهم في تطوير هلوسته إلى مستوى معين ، حتى حادثة خيانة زوجته في أغلبها ناجمة عن تعذيب نفسه في فشله لتحقيق عمل جدير بخدمة البشرية ، هو اعتقد أنه لو تمكن من خدمة الإنسانية بعمل عظيم فقطعا زوجته كانت لتبقى معه ، و لأنه فشل في تقديم عمل كفؤ تركته زوجته ، فلام نفسه أنه قد خان زوجته بفشله الذي كان ، و لأن المجتمع ينبذه مع حاجته الملحة إلى الانفجار و تفريغ ما بجوفه ، انفصمت شخصيته لتخلق شخصيتين مستقلتين ، واحدة هي الأرستقراطي الذي فشل في خدمة البشرية ، وواحدة تغفر للأرستقراطي فشله هذا . الإنسان دوما في حاجة إلى المغفرة ، أن يغفر الرب أو شخص ما للإنسان يعطيه توازنا داخليا عظيما ، فهذا الإنسان حتى اثناء ارتكابه للجرم و حتى مع معرفته كونه غالطا مذنبا ، قلت مع كل هذا يوجد صوت داخلي صغير يهمس قائلا : أنت لست مخطئا ، أنا أغفر لك . . . فإذا لم يجد الإنسان أخا له أو ربا رحيما يغفر له ، صار ذلك الصوت الداخلي الذي يهمس ، صار يصبح قويا إلى درجة قد تجعله كيانا بذاته يبرز في شخصية انفصمت عن الشخصية الرئيسة مثل ما حدث للفلاح الفيلسوف . هذا الذي حدث أصابني بالدهشة كما بالشك في نفس الوقت ، أصابني بالدهشة و أنا أرى تلك الثقة التي يتحدث بها كل من الأرستقراطي و الشخص الذي يغفر له ، كل منهما يتحدث كأنه إنسان لوحده و بحياله ، و هما في الحقيقة كيان واحد ، أما الذي أصابني بالشك فهو إذا كان انفصام الفلاح الفيلسوف يبلغ هذه الدرجة من القوة و التناقض في نفس الوقت ، فلم لا أكون أنا الطبيب انفصاما ثالثا للفلاح الفيلسوف حتى أقتل نفسي كون الانفصام الثاني الذي يغفر لم ينجح في كبت الألم ، ربما لا أزيد على كوني انفصاما ، بل ارتقى الشك بي إلى التفكير في أن العالم كله بملايين البشر الذين يعيشون فيه ما هم في الأخير إلا شخص واحد يملك انفصاما في الشخصية ، انفصام لملايين الشخصيات يعتقدون أنهم مستقلين وهم يستعمرون جسدا واحدا فقط ، ولما لا ؟ ، فربما الكون كله مكون من ذرة واحدة لها سرعة فائقة بها تشكل ما نراه منظورا أمامنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة