الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سفرة الى العْمارة

باسم السعيدي

2018 / 3 / 18
سيرة ذاتية


هل لبستَ يوماً سترة أبيك ووضعت نظارتيه على عينيك؟ محاولاً تقمص شخصيته؟ وهل لبستِ سيدتي يوماً عباءة أمِّك وحملتِ حقيبة يدها لتقلديها؟؟ أفعلتم ذلك؟؟ حسناً إذا ستفهمون هذه الرحلة الى الذات العتيقة.
حملت حقيبة السفر (ذات الأحزمة) على ظهري متوجهاً الى سيارتي لأضعها هناك، ثم عدتُ لأحمل حقيبتين كبيرتين تعودان الى "علي"، الخال كبير العمر قليلاً، هو قادرٌ على حمل حقيبتيه بيدٍ واحدة، لكنه يتركنا نستمتع بالتصرف بتهذيب معه، كيما نرضي ذواتنا ونملأ الفراغات في بنيتنا العاطفية، "دكتور طالب" حمل حقيبته بنفسه ليضعها في مؤخرة السيارة، كذلك فعل "مازن" و "معن"، وانطلقت السيارة تنهب الأرض نحو الجنوب.. الى العْمارة.
كل واحد منّا لديه حكاية عن هذه السفرة، ربما يقصها على أولاده، أو يكتب عنها، أو يؤلف مسرحية تحكيها، لكنني (وأنا أصغرهم) اخترت أن أضع على صفحاتٍ بيضاء ما أدعوه العودة الى الذات.
حين تصل الى وجهتك في السفر تكون قد أتتمت مهمتك الأولى في كل سفرة، يبقى أن تترك لخططها أن تنساب على صدرك وحدها فتقوم بعملية تشريح كبرى، تغوص في أعماقك وتعيد كتابة التاريخ، تاريخك الشخصي ولا شك، لكنها تعيد صياغة التاريخ أيضاً.
دعوني أعيد صياغة الجملة الأخيرة بكلمات أخرى، هل سمعت بالإهرامات؟ سور الصين؟ برج إيفيل؟ لا ريب أنكم سمعتم بها أو رأيتم بعضاً منها، يوما ما في نطلع عام 2008 كنت أتسلق سور الصين العظيم مع الصديق سلفستر، كان معنا العشرات إن لم يكونوا مئات، تعبت جداً، كانت زاوية الانحدار عالية، وأحسست بنضوب قواي ، توقف سلفستر حين رآني متعباً، وحاول أن يبدو جنتلماناً ليتكلم على بناء سور الصين العظيم لا عن لياقتي البدنية المتدنية فنظر الى الأميال العديدة التي لم تزل تصَّعّدُ بعيداً فوق الجبل الواقع شمال الصين، قال: (عمل عظيم بناء هذا السور)، فعقَّبتُ وأنا أحاول التقاط أنفاسي : (عمل عظيم صعودي الى هذا المكان بينما لم يزل قدّامي اضعافه، أما بناء هذا الصرح العظيم فلا أعتقد أن بإمكاني إطلاق وصفاً متواضعاً كهذا عليه)، ما أريد قوله هو: أن تسمع أو تقرأ عن المكان أو الحدث أو التاريخ قد لا يوحي اليك بحقيقته، بل صورة عنه فقط، أما أن تذهب اليه وتشاهده فهذا وحده صناعة تاريخ، شخصيٌّ ربما لكنه سيعيد اليك فهماً جديداً للتاريخ.
بيت جدي
لبيت الجد في الذاكرة موقع الصدارة، لا يغادر المصادر الأولى لصناعة الوعي، والعاطفة، والحظوة، والخطوات الأولى في تلمس الحياة، لقد وقفنا على مقربة من البيت، لم يتغير فيه الكثير، البوابة تغير لونها لكنها هي هي، بعد خمسين عاماً أو أقل قليلاً .. لكنها هي، وقفت بسيارتي ومعي عيون تتطلع الى البوابة، نطق مازن (بيت فرحان) إسم المالك الأقدم الذي آجره لجدي رحمه الله، ربما لو طرقت الباب وفتح لك الباب أهل الدار وسألتهم عن بيت فرحان لما عرفه أحد، فبعد نصف قرن وتداول العائلات على سكنى هذا الدار لم يعد يعبأ أحد بمالكه الأقدم فرحان، لكن الذاكرة تشق الضباب الذي يغلف حلوى الحقيقة فتنزع الماجريات المتعاقبة عبر العقود وتذيقنا حلاوتها كلها، طعم أشبه بحلوى شعر بنات في حلوقنا قبل ما يقرب من نصف قرن.
بيت جدي – بيت فرحان ، سمِّه ما شئت، فلي فيه عند قاع الكينونة أحداثٌ مهما بدت صغيرة وتافهة لكنها كانت كافية لتشق تراكم العقود والنصف قرن وتجدني قبالتها طفلاً صغيراً يقود سيارته السورينتو السوداء بعمر يربو على الخمسين ، ما أشبه اليوم بالبارحة، حين لبست معطف أبي ونظارته لأبدو مثله، طفلان في دوران الأرض حول الشمس، دارت الأرض خمسين دورة والطفل هو هو، الملابس تبدو على مقاسه الآن، لكنه ما تغير، أو هكذا تبدو الأمور حين نعود بالذاكرة لقراءة تأريخنا الشخصي ذاته مرتين.
السينما
بكيت كثيراً وأنا طفل، فيلم ملحمي ربما هرقل لا أدري لكني أذكر أن أصدقاء البطل قُتلوا، وحوصر هو، أُجهدَ وكافح من أجل البقاء لكنني إنشغلت بالبكاء عليه لأنني ظننته سيموت، أصغر أخوالي (المرحوم عقيل) هو الذي أخذني الى سينما الخيام، في المقاعد الأولى (المصاطب ابو الأربعين) ، ترك هو الآخر الفيلم وانشغل بي ليفهمني أن هذا تمثيل وليس حقيقة، لكنني لا أفهم الا الصورة قدّام عيني، ولا أرى ما وراء الصورة، اليوم وأنا أنظر الى شاشة السينما ذاتها التي تهرأت بسبب الإهمال وعامل الزمن ، وأنا أنظر الى شبح الشاشة البيضاء لا أنظر الى الصورة، بل الى ما وراء الصورة، عجيب أمر هذا الطفل في داخلي لا يريد أن يكبُر، إنه ينظر الى ما يربط به هو، غير عابئٍ بالمنطق او بالمدلول الصوري للأشياء، إنه عالق في عمر الطفولة.

الأكَرح
دعانا أبو حيدر المهندس علي لزيارة الهور، فانطلقنا صبيحة الجمعة، تكفل هو مشكوراً بكل التفاصيل، الموافقات التحريرية، الزوارق وبلّامتها، الغداء ، باختصار كان الرجل على مستوى مرموق من الكرم والتنظيم والأريحية، ذهبنا الى الكحلاء (مسيعيدة أو الجَحَلةْ) بالجيم المعجّمة، ومنها انعطفنا يساراً نحو مقتربات الهور، أنزلنا ساراتنا قرب مسكن احد المعارف في سَلَف ابو خصَّاف على ضفاف الأكَرح، نهر واسع عرضه نحو ثلاثين الى اربعين متراً ، تمت عملية الكري فيه بنجاح ونظافة وانسيابية واضحة، ركبت في أحد الزورقين الذين يعملان بالبنزين، وانطلقت بنا تشق أمواج الأكَرح.
قرأت عن الأهوار، ورأيت صوراً، كنت صغيراً وأنا أشاهد زيارات نائب الرئيس للأهوار، هو وحمايته في زوارق، يدور بين السِلاف ويحكي مع الكبار والصغار، يسألهم عن الكهرباء والتلفزيون، سمعت أنه أهداهم تلفزيونات ليتمكنوا من مشاهدة زياراته، بروباغاندا تقتحم عالم السِحر لتحيله الى مجرد رقم في قائمة الهيومن ريسورسز التي تعتمدها الدولة في إدارة مواردها البشرية، نظرة بسيطة الى عالم معقد، الأكَرح وغيره من روافد الهور هي أكثر من بوابة النجوم، ذلك الفيلم العظيم الذي أخرجه رولاند إيمريك عام 1994، الأكَرح والمعيَّل والعدل وغيرها من البوابات التي تحرس عالم الفيري تايل الكامن في الهور (هور أم النعاج) وغيره من الأهوار، الطبيعة هنا ليست صديقة لإنسان فقط، بل هي أمٌّ رؤوم، تغذي وليدها من يوم مولده وحتى مماته، الطيور صديقة له، الأسماك صديقة له، البردي والقصب .. كل شيء ما خلا الإنسان، وحده الإنسان عدو نفسه، والماء مرآة كبيرة ومن صفائها وأمواجها وتقلباتها تجعله يرى كيف هو، وكيف يرتقي حيناً، ويهبط حيناً ، وينزوي أحياناً الى نفسه، وحده الهور يعرف الحقيقة، خبرها لآلاف السنين، وحده كان شاهداً صامتاً على أطوار الإنسان وأمزجته المتناقضة، لكنه كأي أم تحب وليدها ترسل الأمواج لتغسل الأدران وتعيد صفاء مياه الهور والإنسان فيه في صبيحة اليوم التالي، ابن الهور طيب، طيبته تفوق التصورات، لكنه حذر جداً، تعلَّم ان لا يركن الى شيء، سوى زورقه والماء.
الهور مسطح مائي كمعلومة جغرافية، لكنه حين تحضر عند عتبة بوابته يستحيل كائناً شامخاً، يسمح لك بالمرور الى كنوزه، وعليك أن تنظر اليها بعين سماوية، لا بعين الهيومن ريسورسز ، لأنه حينذاك لن يكشف لك عن السحر.
أنا وقفت عند بقايا شجرتي بخور جلبتهما حتشبسوت الملكة الفرعونية الى عتبة قصرها في طيبة عاصمة الفراعنة (الأقصر حالياً) في الدير البحري، جلبتهما من بلاد بونت (الصومال على الأكثر أو اليمن)، لا تظن للحظة إن بقايا الشجرتين قدّامك هما مجموعة ألياف كربونية متعفنة عفا عليها الزمن، بل أنت أمام توثيق لتاريخ ملكة عظيمة، أرسلت البعثات الى أنحاء العالم لجلب ملامح الجمال والعطور وسيماء العظمة، معبد حتشبسوت حين تنظر اليه يمثل حقبة 1400 سنة قبل الميلاد حاضرة لديك بعنفوانها كله غير منقوص، هذا لا يشبه البتة أن تقرأ في كتاب التاريخ (حتشبسوت ملكة عظيمة حكمت مصر بعد وفاة زوجها تحتمس الثاني حتى .....)، كلا الأمر ليس هكذا مطلقاً، أن تقف عند مرتقى المعبد وتصعد على المرتقى في الطريق الجنائزي الملكي نحو قدس الأقداس ؟؟ كأنك تنظر الى التاريخ بعينك لا بخيالاتك، لا بالكلمات التي يكتبها مؤلفو الكتب، هذا بالضبط ما تشعر به وأنت تقحم يديك في ماء الهور من الشختورة أو الطرادة أو الزورق .. تشعر بأنك تقارب عشرة آلاف عام من التاريخ المتربع في تلك الأنحاء البكر .. هل جالستَ رجلاً يوماً وشعرت بانك بين يدي آدم أبي البشر؟؟ هذا هو التوصيف الأقرب الذي تشعر به وأنت محاط بالماء والتهول (جمع تَهَلْ) او الجبايش (جمع جباشة) كما يسمونها، طبيعة كانت رابضة هنا ألفيات وألفيات بانتظار أن تحضر بعقلك قبل عينك لتكون شاهداً على التاريخ.. فالسهل الرسوبي المسمّى ميزوبوتاميا هكذا بدأ .. وها أنت حاضر عند تعميده الأول.
المضيف
بشِبابه (جمع شَبَّة) الخمس عشرة يربض على تلة عالية المضيف الذي بنته دائرة الأهوار في الموارد المائية لميسان، جهد جميل ورمز عظيم، أحيي الرجل الذي طرح الفكرة، والذي تبناها، والذي نفَّذها .. من الداخل تجد الشّباب وهي الأعمدة المقوسة التي تمثل الهيكل الحامل لكل المضيف الذي يعلو قرابة ثمانية أمتار، وطوله يصل الى ثلاثين متراً .. مع بوابات وزخارف جميلة .. يؤوب اليها السياح للإستراحة وتناول الطعام الذي يكون السمك المشوي على طريقة أهل الهور مادّته الأولى، المضيف نكهة جنوبية عربية بطعم رائع.
رواية الغبار والمطر
الأيام والليالي التي قضيناها في العمارة كانت في دار الأستاذ خالد المطلبي، ذلك الباذل الكريم المعطاء الذي أخجلنا بحفاوته بنا، لقينا عنده الروائي والقاص الأستاذ عبد الرزاق المطلبي .. صاحب رواية الظامئون التي أُنتِجَت فيلماً سينمائياً 1972 إخراج محمد شكري جميل.
جادلتُ الروائي عبد الرزاق المطلبي الذي احتملني برحابة كبيرة بالرغم من مرضه، على قصته (خبز أمي) قلت له إن القصة تبدو لي كأنها قصتين، لا واحدة، فأيدني قائلاً إن القصة فعلاً بجزئين لكنهما جمعا في قصة واحدة لأننا لايمكن لنا التفكيك بين الحنين الى الوطن والأم ، كلاهما واحد. كما سألته عن قصة للفتيان إسمها (الموجة وطائر النورس) وأنها تصلح للكبار، كان رده رائعاً فقال : غنها قصة للفتيان، تعلمهم أهمية الحب والتضحية، بينما القصص التي نكتبها للكبار يجب أن تحمل في طياتها معانٍ أدق حول النزاع النفسي للإنسان المحب الذي يحمل التناقضات بين ثنياته النفسية، وهذا هو الفرق بين قصص الفتيان والكبار، ثم أراني الإهداء المذكور في روايته الغبار والمطر .. الى الضحايا المجهولين في الحروب .
قال إن الرقابة (في عام 2001) رفضت هذا الإهداء، وطلبوا منه تبديله لكنه قال بأنه سيلغي طبع الرواية إن أصروّا .. فطُبعت الرواية على ما أراد.
الرجوع
وأنا عائد الى بغداد شعرت بأنني أخلع عني ربطة عنق أبي، ونظارته الطبية، وجاكيتته البنية بالمربعات الدقيقة، لبست تي شيرتي الصيفية البيضاء، والشورت الحبري القصير ذي الخطوط البيضاء الرفيعة جداً عند الخطّين النازلين في جانبيه، وحذائي الصيفي الصندل، وركبت بعنفوان الطفولة كله على المركبة الخشبية بالمحامل البولبرنات .. ويدفعني الصبية من الصحاب في الدرابين الضيقة في صبيحة اليوم .. حالماً باللعب بالدعبل لما بعد الغداء.
الطفل فيَّ الذي يأبى أن يكبر أصبح صديقي في النهاية، أيقنت أن عليه أن يرتوي من بئر الحقيقة فقط، ولا حقيقة الا في الطفولة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو يرفض الضغوط الدولية لوقف الحرب في غزة


.. أثار مخاوف داخل حكومة نتنياهو.. إدارة بايدن توقف شحنة ذخيرة




.. وصول ثالث دفعة من المعدات العسكرية الروسية للنيجر


.. قمة منظمة التعاون الإسلامي تدين في ختام أعمالها الحرب على غز




.. القوات الإسرائيلية تقتحم مدينة طولكرم وتتجه لمخيم نور شمس