الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاختزال و التّكثيف في القص إلى أين؟

عماد نوير

2018 / 3 / 21
الادب والفن


الاختزال و التّكثيف في القص إلى أين؟

ينتظر القارئ شيئا جديدا في المواضيع المبحوثة سابقا، فإن خذله المحتوى، و لم يُسْفِر إلّا عن تكرار و إعادة و شرح و إسهاب في نفس الأفكار السابقة، كانت خيبة الكاتب تتجلى بوضوح أمام المد الحداثوي، و انهزام طرحه أمام ذكاء القارئ و متابعته الدؤوبة لكل ما يطرح على بساط النقد و البحث و التّقصّي في مضمار ما!
و هنا لا بد من الإشارة إلى أن التعرّض لفكرة الاختزال و التكثيف و الإضمار و الاقتصاد اللغوي، هو أمر في غاية الحسّاسية من حيث ترقّب القارئ لما هو طارئ و جديد، فالرّهط الأول و أهل الدراية و الاختصاص و المحدثين قد أفرغوا عصارة جهدهم و كنوز فكرهم لتوثيق كل ما هو متعلّق بمقومات و أركان الجنس الأدبي المعشوق، القصة بكل أنواعها، و من ضمن ما كُتب عنه هو الشيء الأهم من حيث اعتباره التحديث الدائمي للقصة، ألا و هو التكثيف و الاختصار و الضغط الشديد للقصة، حيث كان مطلبا يناغم و يلبي متطلبات الزمن المتحرك بسرعات قياسية، احتاجت إلى نَفَس قصّصيّ سريع هو الآخر، ليكون موازيا لنفسية القارئ و الكيفية و الوقتية التي تلائم ظرفه حسب ما أملته عليه المتغيرات سياسيا و اقتصاديا و معرفيا و فكريا و نفسيا.
و لا يخفى على الجميع الولادات و الاستنساخات المتطوّرة للقصة عبر تأريخها الحديث، فتناسل الأجناس القصصية كان يأتي في الدرجة الأساس من حيث التكثيف و الاختزال، و اقتصاد المفردة في النص، و إعطاء المفردة الواحدة دورا أكبر من الأدوار السابقة، و تعظيم و تضخيم وظيفتها في النصّ، و التّسريح و الاستغناء عن المرادفات و الإضافات التي باتت في نظر الكلّ حشوا لا يخدم القصة في شيء.
و لابد من التّأكيد على أن الاختزال أو التكثيف، ليس تكثيفا في عدد الكلمات، أو يمكن تسميته اقتصادا لغويا و لكن هو تكثيف للفكرة ككل، و توسيع من جانب خفي لقدرة الكاتب على عرض مضمونه بالكيفية التحريضية، لا الطريقة الاستغبائية للقارئ، أي بمعنى أن تأتي الاختزال بطريقة ترميمية لشيء مضمر، يحاول به الكاتب أن يدفع القارئ و محرّضا إيّاه إلى اكتشاف سر الحكاية العالق و المستتر في ثوب الجمل الضيّق و لبوس الكلمات المطاطة، و ليس بطريقة الاستغباء التي تأخذ اسم الرمزية الثقيلة و الإشارات المبهمة، فتُضجر القارئ و تحسسه بالبلادة و الحيرة من مرامي الكاتب، ثم بعد ذلك أهمال النص و النقمة من الكاتب، و الأمَرّ هو الدخول في حالة تقهقرية للجنس الذي تكتب فيه، بدل ركوب موجة الحداثة و التطوّر، و بدل أن نرضي طموح القارئ، في تقديم منتج مضغوط و مكثّف بطريقة أدبية و فنيّة مشوّقة، نكون قد قَدِمنا على تشويه النظرية التي يحاول القارئ أن تتطبق على يدي المهَرّة من الكتّاب.
و بما أن التكثيف بمعناه الحقيقي هو جعل مفردات النص تنطق لنا حكايته دون زيادة، لذا فأن اجتزاء أي مفردة من النص سوف تودي به إلى التشويه و التدمير، و هذا هو المراد من التّكثيف و ليس اقتضابا لا روح فيه سوى الاقتصاد العيني!
و حيث قلنا أن تكرار الطّرح قد أَشبع الجمهور، و سوف لن يغني المتلقي، و ستصيبه الحيرة ما لم يلحظ أمرا آخر، و المراد هنا أننا أزاء تساؤل لا أكثر، هل وصل القص إلى أقصى درجاته من حيث الاختزال و التكثيف و الإضمار و التّلميح و الحذف و الاقتصاد، و المسيرة حافلة بتطوّر هذا الشكل من الأشكال القصصية، فالقصة و القصة القصيرة و القصة القصيرة جدا خير مثال على ذلك، و القصة القصيرة جدا ذات الأربعين كلمة أو أقل، حتى وصلت إلى مسمّى آخر و هو ضمني داخل أُطر القصة القصيرة جدا، حيث جاءت قصة الجملة الواحدة، لا تتعدى مفرداتها العشر كلمات، و هذا ما انتهجه بعض الكتّاب في نهايات القرن الماضي((حب تعسفي/ كان ينتظر اعتقالهما معا...لتضع يدها في يده ولو مرة واحدة/ حسن برطال))، و هناك عشرات القصص أو المئات على هذا الشكل، فالإغراء اللغوي كفيل بإعطاء بعدا واسعا لنص في أقل من سطر واحد، و حذا هذا الحذو كتّاب القصة في الوطن الكبير في بداية ظهور القصة القصيرة جدا و التي وصلت لهذا المسمّى بعد مرورها بتسميات كثيرة، و قد واجهت بعض المتاعب أسوة بكل حديث، كشعر التفعيلة أو أي نهضة حداثوية جديدة، و قد استطاع هذا الجنس الأدبي من مواكبة العصر، و فرض حضوره بقوة على الساحة الأدبية، ليصبح فيما بعد الجنس الأدبي المقدَّم و المحبوب.
ثم بدأت حركة التكثيف مرة أخرى في بداية العقد الثّاني من القرن الحالي، و انبثاق القصة الومضة، كوريث شرعي من رحم القصة القصيرة جدا، و قد استطاع المحدثون من وضع أُسسها و مقوماتها و بناءها الأدبي و الفني، لتستقل بذاتها، و لتنزل الميدان بثوب جديد، و رغم أن شرعيتها لم تأخذ إلّا من خلال المواقع الاجتماعية و الألكترونية بادئ الأمر، إلّا أنها نزلت إلى أرض الواقع بعد سنتين أو ثلاث، مع بقاء بعض من الكتّاب في تحفّظ من هذا الجنس لأسباب قد تبدو محترمة و منطقية.
و المهم بالأمر و صدد بحثنا، أننا وصلنا إلى درجات أخرى من التكثيف و الاختزال و الإيحاء مشترطا هذه المرّة الإدهاش و إرباك القارئ إلى أقصى درجاته، و مباغتته بقفلة لا تبدو متوقعة رغم التّسليم بذكاء القارئ، و قد أخذت القصة الومضة عددا محدودا لا يجوز تعديه بأي حال من الأحوال، فهي على شكل شطرين تفصلهما فاصلة منقوطة، تمنح المتلقي التقاط نفس معقول لانفجار الدهشة المرجوّة في الشطر الثّاني، و لا يتعدى الشطر منها أربع مفردات، إضافة إلى العنوان.
إيثار
اقتنى الفقير حذاءا جديداً؛ انتشى بمنحه فقيرا آخرا.
لكن التّكثيف كان يرى أن الجملتين بحاجة إلى ضغط أكثر، و لا حاجة للشرح و إعلام المتلقي أن الاقتناء كان لحذاء جديد، فذكاء القارئ لن يجد صعوبة في استقراء الأمر ، ثم بدأ الاختزال لتكتب القصة الومضة في ست و خمس و أربع كلمات.
لاحَ بصيص أمل؛ اتّهموا الشّمس بالعمالة.
رسُوخٌ
كسّرَتِ العَواصِفُ أَغصانَها؛ جَبَّرها عمقُ جذورها.
تلكؤٌ
استنهضَ جرأته؛ أجابه الفوت.

جموحٌ
جاشَ الرحيلُ؛ استنفرَ الوجدُ.

تَعمّقٌ
استُهلكتِ الكلماتُ؛ استحدثَ معانيها.
و يبقى عامل التكثيف هو عنصر الحداثة و التجديد دوما، و يبقى الإضمار و الإيحاء و الاقتصاد بالمفردة على حساب البلاغة هي العوامل الرئيسة القابلة للتجديد و المتابعة، فالقصة الومضة هنا، و رغم المعارضة من قبل البعض، إلّا أنها نص متكامل موضوعا و بناءً، فهي قصة بحكاية و بطل و حدث و فكرة و هدف و مغزى و نهاية مدهشة، إضافة إلى اتّسامها بأدب الحكمة.
فالتّكثيف يسير بخطوات متسارعة يواكب فيها الإيقاع الحضاري الحديث، و النظرة إلى النص الأدبي على أنه وجبة سريعة تنعش الذاكرة و تغني المخيّلة بأقلّ ما يمكن من المفردات.
و بعد أن وصلت القصة إلى هذا الحدّ من التكثيف، هل يمكن أن نغلق هذا الباب، و البحث في الأركان الأخرى، أم أن هناك من يحاول أن يصل بالنص إلى الدرجة القصيّة، و جعل المفردة، الجملة الفعلية، تقول القصة كلها، محاولا بذلك غلق باب الاجتهاد و عدم الغوص في إمكانية البحث في تكثيف نص بمفردتين و عنوان:
مدٌّ
هاتفها؛ تعطّرت.
نقد
تمادوا؛ ترفّع.
حجٌ
جنّوا؛ نجوا.
هل وصل التكثيف إلى مبتغاه؟
هل وصل إلى الدرجة التي لا تليها أخرى؟
تحيّتي و مودّتي
عماد نوير...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموزع الموسيقى أسامة الهندى: فخور بتعاونى مع الهضبة في 60 أ


.. الفنان محمد التاجى يتعرض لأزمة صحية ما القصة؟




.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا


.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل




.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل