الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثنائية (الوعي – العزلة) في تجربة المخرج المسرحي فاضل خليل

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2018 / 3 / 23
الادب والفن


مقدمة
لم تكن رحلة تشكل الوعي عند الممثل الشاب (فاضل خليل) قد تكونت بالصدفة ،بل إنها جاءت نتيجة لتراكم معرفي إتكأ على نحو اساس على تلك التجربة التي تلقفها من الحاضنة الفكرية التي كانت قد تأسست على شكل حلقات في (دكان الحلاقة) الذي كان يديره والده السيد (خليل رشيد) في مدينته الجنوبية (العمارة) ، إذ تشكلت لحظات الوعي المعرفي الأولى عنده من تلك اللقاءات التي كانت تثير الجدل ، سيما وإنها إرتكزت على مرجعيات الفكر اليساري ، إذ تحول (دكان الحلاقة ) ذاك إلى مصدر أساسي إعتمده الشاب (فاضل خليل) في رسم خطوط حياته المعرفية ، ولم تنقطع ذاكرته عن ذلك المكان حتى وهو في السبعين ، فنراه يستذكر لحظات تشكل الوعي من الثقافة الفطرية الممزوجة بالفكر التقدمي الذي كان سائداً في تلك المدينة الصغيرة والمثيرة ،وفي رحلته للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد بدأت مفاتيح المعرفة تتفتح أمام عينيه ، لتسهم في تكوينه الاكاديمي ، وقد تم تتويج تلك الجهود الدراسية المتميزة والتي صيرت منه مع الطاقات الشبابية التي صار لها شأن في قادم الأيام داخل الحرم الجامعي بعد أن تم تعيينه بصفة (معيد) ليتسنى له بعدئذٍ إستكمال دراسته الأكاديمية في رحلة بحثية أسهمت في تحصيله على شهادة الدكتوراه في الإخراج المسرحي ، فضلا عن ذلك فإن خطوات الشاب لم تقف عند طموحاته الاكاديمية فحسب ،بل راح يجتهد في تطوير قدراته الفنية في تجارب مسرحية متنوعة كان في طليعتها إنضمامه إلى فرقة (المسرح الفني الحديث) والعمل ضمن طواقمها الفنية ، وتجدر الإشارة هنا إلى ان (فرقة المسرح الفني الحديث) كانت من الفرق الإحترافية التي إمتلكت تقاليدها الراسخة سواء على مستوى صناعة العرض المسرحي أو بوصفها واحدة من الفرق التي تنتمي بمرجعياتها المعرفية إلى الفكر اليساري ، الأمر الذي فرض على المشتغلين فيها إمتلاك ثقافة ومعرفة بالمتغيرات الفكرية والسياسية ، سيما وأن أغلب العروض التي تقدمها كانت مثيرة للجدل داخل المجتمع العراقي في تلك الحقبة ، وقد توجت جهود الممثل الشاب (فاضل خليل) بعد أن وقع عليه الإختيار في تجسيد شخصية (حسين أبن الخبازة) في مسرحية (النخلة والجيران ) التي قام المخرج الراحل ( قاسم محمد) بأعدادها للمسرح عن رواية (النخلة والجيران) للروائي العراقي الراحل ( غائب طعمة فرمان )، وقد كان للممثل الشاب حضوره الفاعل بين عمالقة الفن المسرحي العراقي ، سيما وأن تلك المسرحية حققت نجاحاً منقطع النظير إذ يشار إليها بوصفها نقطة تحول في صناعة العرض المسرحي الحديث على مستوى التوافق الفكري والجمالي بين عناصر العرض المسرحي.

جماليات العرض المسرحي ومشاكله المعاصره:
إختار (فاضل خليل) البحث عن مشكلات العرض المسرحي المعاصر في دراسته للدكتوراه التي تحصل عليها من )المعهد العالي للعلوم المسرحية V. T. E. S في بلغاريا - صوفيا عام 1985) وقد أسهمت تلك الدراسة في تشكيل الوعي الإخراجي عنده ،لتبدأ مع نهاية الرحلة البحثية رحلة جديدة في البحث الجمالي على خشبة المسرح رافقتها سلسلة من العروض المسرحية التي أسهمت في صياغة إسلوبه المسرحي الذي أطلق عليه النقاد (مسرح الواقعية السحرية ) على الرغم من أنه كان دائم التأكيد على أن مسرحه الذي ينتمي إلى واقعية المخرج الروسي (فاختانكوف) الخيالية، وقد إنسجم بذلك مع طروحات النقد المسرحي ، الأمر الذي أسهم في خلق حالة من التنوع في تجربته الإخراجية عن طريق اشتغاله على العديد من النصوص المسرحية سواء على المستوى المحلي أو العربي والعالمي،إلا أنها كانت تدخل في منظومة العرض الذي اشتركت سماته مع تيار الرواية الجديدة في أميركا اللاتينية المعروف (بالواقعية السحرية) وعلى الرغم من الاختلاف بين الرواية بوصفها جنساً أدبياً سردياً، وبين العرض المسرحي بوصفه منظومة من العلامات السمعية والبصرية، إلا أن المخرج (فاضل خليل) استطاع المزاوجة بينهما، من خلال الإفادة من تقنيات كتابة الرواية في توظيف مفردات واقعية لها القدرة على التحول داخل فضاء العرض المسرحي فضلا عن امتلاكها للعمق الأسطوري من اجل إنتاج العديد من العلامات التي تخلق لدى المتلقي ذلك المنظور (السحري)، الأمر الذي يجعلها "متحررة من فضاء النص المقترح من قبل الكاتب، حيث تتحاور رؤية المخرج بجدل خيالي مع فضاء العرض السحري، فتحمل علامات هذا الحيز التشكيلي المكاني رموزاً أسطورية وعلامات قادرة على استفزاز اللاوعي الجمعي باشتغالها الدلالي في فضاء العرض، علامات مصدرها الواقع ومساحات تجسيدها عوالم السحر والفنتازيا" وفيها يتشكل العرض المسرحي من المألوف واللامألوف في الواقع الذي يدفع بالمتلقي إلى إيجاد فرضيات في تأويل الحدث الواقعي ، الذي يمكن تفسيره بأسلوب مغاير للتقليدي، كونه قد تشكل من "عالم خرافي ينهض منه البطل وهو عائد ليجسد حالات الزمن المتداخلة بين الماضي والمستقبل، فالكرسي يتحرك في هذا الفضاء الحر كمفردة تحمل دلالات توليدية وتحويلية عديدة ، فهو أريكة للنوم، وساتر حربي، وأثاث منزل" .
أن توظيف (فاضل خليل) لمفردات من الواقع تمتلك قدرة على التحول، يقلل من أهمية اللغة النصية داخل العرض ،على الرغم من انه لم يتخل عن النص المسرحي، إلا أن الرؤية الإخراجية تمنحه إمكانية اختزال النص، مؤكدا ذلك بقوله "لا أبقي من الحوار إلا على النزر اليسير الذي يؤدي الغرض" بمعنى أنه يغادر النص لصالح جماليات العرض بما يمتلك من دلالات سمعية وبصرية، فضلا عن ذلك فإنه غالباً مايعمد إلى إجراء تعديلات على النصوص بما يتناسب والرؤية الإخراجية على الرغم من عدم "تقاطعه مع المؤلف بحكم الانتقاء الدقيق المشروط، وهو لا يمارس أي سلطة على خطاب الأدب- النص إلا في استثناءات – كالإخلال في تنامي الفعل وتشظيه" الأمر الذي يدفعه إلى تحديد خياراته مع المؤلفين الذين يعمل معهم، من اجل تطوير النص المسرحي لصالح العرض، إذ أن الأمر لا يقتصر على الحذف أو الإضافة في اشتغاله على النص ، بل قد يحصل أن يقوم المخرج بحذف أحدى الشخصيات كما حصل في مسرحية " (سيدرا) حيث عمد المخرج إلى حذف شخصية (الكاهن) المحرض تارة والمحايد تارة أخرى، ولكن من دون إرباك أو إخلال بالنسق المنطقي للدلالة الدرامية المتواجدة في النص" ويعود ذلك إلى أن المخرج وجد ان الإفادة من مضمون هذه الشخصية أفضل من تجسيدها لذلك عمل على تحويل ذلك المضمون إلى شخصية المرأة (ليليث) والتي لعبت دور المحرض، الأمر الذي دفع بالبنية الدرامية إلى تبني العديد من التحولات التي أسهمت في تطوير العرض المسرحي، من جهة أخرى نجد الممثل في عروض (فاضل خليل) يعد عنصراً فاعلا على مستويات عدة، منها قدرته على إيصال أفكار المؤلف عن طريق تفاعله مع لغة النص الدرامي الممزوج على نحو فاعل مع الرؤية الإخراجية التي يعمل المخرج من خلالها على " تحويل أجساد ممثليه إلى أسلحة فكرية استطاع من خلالها أن يؤسس نوعاً من المراسلة مابين لغات العرض المسرحي" حيث لعبت تلك اللغة المتولدة في العرض دورا في تطوير منظومة (الواقعية السحرية)والتي تعد "محاولة تجريبية في قراءة الواقع الموضوعي قراءه إبداعية , ناتجة عن تفاعل ذات المخرج مع الواقع اليومي وخلق واقع فني إبداعي جديد يتميز بالسحرية, يفجر المادة النصية الأسطورية ليبدع منها حلما تشكيليا يعبر عن حقيقة الواقع الدفينة بكل مرجعياتها وبلغة فنية مبدعة منطلقاً من فرضية المعالجة في التجربة" ، وبذلك يكون اشتغال (فاضل خليل) على النصوص المسرحية الواقعية بأسلوب غير واقعي اعتمادا على الأسطورة والحلم من اجل إنتاج صورة بصرية سحرية، الأمر الذي دفع به إلى التشارك مع عدد من كتاب المسرح، كما هو الحال مع الكاتب المسرحي (فلاح شاكر) إذ قدم له مسرحيات عدة منها ( في أعالي الحب ، مائة عام من المحبة) ، والكاتب (خزعل الماجدي) في مسرحية (سيدرا) فضلا عن مشروع مسرحي لم يرى النور بعنوان (سردنبال) كان المخرج الراحل (فاضل خليل) يسعى لتقديمه على خشبة المسرح ولكن الظروف حالت دون ذلك .

العزلة والمجتمع في حياة وموت الفنان :
لم تكن فكرة (العزلة والمجتمع) التي أشار إليها ( برديائيف) في كتاب حمل الأسم نفسه بعيدة عن الحياة الإجتماعية التي عاشها الفنان الرحال (د.فاضل خليل ) ، ذلك أنه لم يكن يدخر من الحياة شيئاً للعزلة ، إلا ان الحياة لم تكن تبادل (فاضل خليل) الإبتسامة التي إعتاد أن يقدمها لكل من يلتقي به .
أن المتغيرات السياسية التي حصلت بعد (2003) ألقت بظلالها على الثقافة العراقية والمسرحية منها ،إذ إختار عدداً من المسرحيين الركون إلى الصمت والعزلة بعيداً عن اضواء التغيير الذي كانت الأحداث فيه تتسارع والتشققات الثقافية تظهر على السطح وصراعات الأنا والآخر تحرق كل شيء ، الأمر الذي دفع بالفنان الراحل (فاضل خليل) إلى إنتظار هدوء العاصفة والإكتفاء بفعل ثقافي ومعرفي داخل أروقة كلية الفنون الجميلة ، إلا أن الحنين إلى خشبة المسرح كان يلازمه ، فهو يحفر عميقاً باحثاً عن أفكار مسرحية ومعالجات بصرية داخل نصوص مسرحية متنوعة ، ولكن الزمن متوقف والخشبة ميتة ، من هنا رأيناه يصرخ في محيط لايسمع حتى في كل ذلك الضجيج الذي أفرزته السياسات الثقافية تحت مسمى (بغداد عاصمة الثقافة ) حيث لم يكن احد يسمع صوت (فاضل خليل) الإبداعي .
لقد إختار(فاضل خليل) أن يكون إيجابياً وبدأ بتقديم مقترحات لتطوير الحركة المسرحية التي بدأت تعاني من غياب المشروع المسرحي الحقيقي ، وكان من مبادراته الإصلاحية ، تأسيس فرقة (مسرح الظل) وهي فرقة مسرحية تقوم برعاية المسرحيين المشتغلين في الحقل المسرحي والجادين في تطوير الحركة المسرحية ومحاولة عزلهم عن الطارئين على خشبة المسرح الأثيرة عنده، لكن تلك الفكرة لم تلق صدى المسؤولين عن المسرح في السنوات الإقتتال والإقصاء ، فجاء بمشروع آخر ، أراد فيه تأسيس مسرح شبه مستقل مستفيداً من بناية (مسرح الرافدين) الذي تم إنشاؤه حديثاً ، ولكن العزلة كانت حاضرة مرة أخرى لتجعله يعود إلى أروقة كلية الفنون الجميلة ، ساعياً وباحثاً ومراقباً لكل لحظة جميلة تصنع هنا أو هناك مبتسماً ومشجعا لكل نشاط مسرحي .
كان دائم التفكير في المستقبل وفي المقابل كانت السياسة التعليمية تفكر بإحالته على التقاعد .. مؤكدة على أن العزلة هي كل ماتبقى لمن كان مبتسماً للحياة .
لقد أخذت العزلة من (فاضل خليل ) تلك الحياة الجميلة التي كان يرسمها .. ومنحته بدلا عنها موتاً بطيئاً وثقيلاً كأنه عاصفة شتائية باردة وموحشة.
غادر فاضل خليل الحياة والعزلة في (8 -10 -2017 ) تاركاً أثراً بليغاً وعميقاً في نفوس المشتغلين معه، إذ لم يزل المسرحيون يتذكرون تجاربه المسرحية ، ولم تزل ملاحظاته ترافق الممثلين الذين تشاركوا معه خشبة المسرح ، تلك هي الحياة الحقيقية التي لاعزلة فيها ..ولا موت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فرخ البط عوام
عدنان اللبان ( 2018 / 3 / 24 - 09:55 )
احسنت ايها النبيل في هذا المقال الرائع .

اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة