الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مركز البحوث العلمية -4-

علي دريوسي

2018 / 3 / 25
الادب والفن


غادر مسؤول السكن، دخلتُ إلى غرفتي أتفقَّد محتوياتها، جلست على الكنبة لأختبر راحتها، اِستلقيت على السرير لأختبر طراوته، شمّمت رائحة الأغطية والفراش لأختبر نظافتها، كانت الرائحة طيبة لا تدلِّل على عتقها، مسحت بكَفِّ يدي على رفوف المكتبة فوجدتها نظيفة لا غبار عليها، أدرت مفتاح جهاز التدفئة فسمعت هدير ماء يسري في داخله كما القشعريرة في الجسد، ذهبت إلى دورة المياه لقضاء حاجة ولأختبر تدفُّق الماء وغزارته، دخلت إلى المطبخ لأعاين محتوى البرّاد، اِستكشفت مفاتيح غاز الطبخ وعياراتها ومكان توضع إسطوانة الغاز، هززتها برفقٍ لأختبر الحجم التقديري للغاز في داخلها.
خطرت في رأسي مجموعة من الأسئلة التي نسيت أن أطرحها على المشرف: "من هو المسؤول عن اِستبدال جرات الغاز حين تفرغ"؟ "ما هي تكلفة الكهرباء شهرياً"؟ً "ما هي تكلفة التدفئة"؟ "أين أستطيع غسل ملابسي"؟
تخيَّلت نفسي لبُرهةٍ وقد قبضت راتبي، ورحت أخطِّط بالورق والقلم كيف سأصرفه، كيف سأشتري كل الأشياء الغذائية والمشروبات التي طالما حلمت بها واِشتهيتها في مراهقتي ومراحل دراستي، كيف سأهدي أبي حذاء وزجاجة عرق. تخيَّلت نفسي أقف في الصباح الباكر أمام بَوّابة أحد المخابز وطابور من المنتظرين أمامي، وجدت نفسي أسحب من جيب قميصي بطاقة المركز السحرية فيبصرني البائع، يغمزني بطرف عينه وأحصل بعد ثوانٍ على خبزي دون اِنتظار.
*****
عدت إلى غرفتي، فتحت حقيبتي الكبيرة، تناولت منها بعض الكتب، قاموس إنكليزي-عربي، أنظمة التشغيل، البرمجة، كتاب ديناميك الغازات، كتاب محركات الاحتراق الداخلي، تصميم الآلات بالإضافة إلى رواية خريف البطريرك، وضعتها كلها بشكلٍ مُرتَّبٍ على رف المكتبة.
تناولت ملابسي الداخلية بيضاء اللون من ماركة حنين، أخرجت قميصين وبنطلوناً أسود، كانت قد أهدتني أختي قماشه وتكفَّلتْ بدفع أجور خياطته، كلَّفها في ذلك الوقت نصف راتبها الشهري على الأقل. أخرجتُ من الحقيبة بيجامة نوم، حذاء، بضعة صحون، كأسين زجاجيتين، ملعقتين، شوكة وسكين، طنجرة صغيرة، صابونة غار، قطعة ألمينيوم وإسفنجة لغسيل الصحون... حالما أنهيت تفريغ حقيبتي بدأت أشعر بالجوع، ندمت في تلك اللحظة لأنَّني لم أجلب معي علبة " البقرة الضاحكة" وربطة خبز وبضع حبات زيتون.
نمت في يومي الأول مبكراً ودون عشاء، حتى دون كأس شاي، أَفَقْتُ مراراً من نومي على أصوات أمعائي، كلَّمت نفسي: "لقد أخبرونا أنَّ المركز يقدَّم عادة وجبة فطور فرنسية جيدة، لا بأس إذن، سأصبر حتى صباح اليوم التالي. لكن وأسفاه غداً يصادف يوم جمعة، يوم العطلة الأسبوعية".
استيقظت في اليوم التالي حوالي الرابعة صباحاً مرعوباً من الأصوات التي سمعتها، تراءى لي أنَّ السكن الطلابي قد بُنِيَ في حارةٍ تملأها الجوامع من كل الزوايا والاِتِّجاهات، وصلتني أصوات عالية متداخلة وبعضها تردَّد كالصدى: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. قلت في سري: "الله أكبر".
خرجت إلى البلكون ونظرت حولي أتأمل ذاك المشهد الغرائبي، نظرت إلى نوافذ البيوت المحيطة لأجدها مضاءة، من الشقق المجاورة وصل مسمعي أصوات الله أكبر، خفت لوهلةٍ، أحسست بغربتي عن المكان والزمان، لم يسبق لي أن عشت في حارة تنبت فيها الجوامع كما الفُطْرُ في غابةٍ، كان كل شيء من حولي بمثابة فلمٍ سينمائي أو رواية رومانسية، لم أستطع العودة للنّوم، تحمَّمت وبدّلت ملابسي، فتحت النافذة لتهوية غرفتي، تنفَّست رائحة خبزٍ طري، سمعت زقزقة عصافير بطني، ملأت طنجرتي بالماء، وضعتها على غاز الطبخ لعدة دقائقٍ ثم صببت لنفسي كأساً من الماء الساخن.
*****
في تمام السادسة صباح يوم الجمعة فُتِحَ باب الشقة، دخل اِلياس يجر وراءه حقيبتين وقد علَّق حقيبة ثالثة على ظهره. كان اِلياس شاباً ذكياً، طويل القامة نسبياً، مكتنزاً بعض الشيء، حليق الذقن كعادته، واسِع الشِّدْقَيْن، مُدوَّر الرأس بنظارةٍ طبية وبشعرٍ خفيف ناعم، كانت شفاهه الرقيقة وتلك المُسمّاة بلحسة البقرة في مقدمة شعره من المعالم التي تُميّز وجهه.
دخل وقد تَفَصَّدَ جسدُه وجبينُه عرَقاً، ولج باب الشقة مزهواً بقميصه المُعرَّق بالأبيض والسماوي وتدرُّجات اللَّون الأحمر، كانت أزرار القميص العلوية مفتوحة لتكشف عن صليبٍ يتدَّلى من رقبته محمولاً بسلسالٍ ذهبي ليعشعش بين شعر صدره.
كلانا لم يتفاجأ بالآخر، صبّحته بالقول: "أهلا وسهلاً أخي أبو زيتون الغالي، ها هي الأيام تجمعنا مع بعضنا في رحلةٍ جديدة تنطلق هذه المرة من بيتٍ مشترك".
تقدَّم اِلياس مني فاتحاً ذراعيه: "صبحّك الله بألف خير، يسعدني أن نكون سوية في رحلتنا العلمية القادمة، سنصبح أخوة".
دخل مع حقائبه إلى غرفته ثم خرج حالاً وبيده حقيبة واحدة، توجَّه إلى المطبخ وهو يقول: "حبيبي أحمد، دعنا نقتسم المطبخ".
ودون أن يسمع تعليقي على ما تفوَّه به حدَّد الجهة التي يرغبها في الرفوف والبرَّاد ثم فتح حقيبته، أخرج مُعَدّاته وأدواته، وراح يُرتِّبها على الرفوف الخاصة به. من بينها كان قطرميز مكدوس شهي وآخر للزيتون المجرَّح وبعض من معلبات السردين والتونة والمرتديلا والجبنّة المسنّرة، ربطة خبز كبيرة، شاي، قهوة، سكر، متّة.
قال وهو يضع أشياءه بحرصٍ شديدٍ: "إنَّها مجرد أشياء بسيطة للزَّنَقَة"!
سال لعابي ولم أتفوَّه بحرفٍ واحدٍ بما يتعلَّق بخصوصياته الغذائية.
هجست لنفسي: "لو تعرّضتْ هذه الشقة التي نسكنها إلى حريقٍ هائلٍ، وإذا ما أُعطي الزميل اِلياس مدة زمنية وقدرها ستين ثانية لمغادرة البناء قبل أن تلتهمه النيران، وسُئل في الوقت ذاته عن أهم شيء قد يخطر على باله كي ينقذه ويأخذه معه؟ فستكون إجابته حتماً: مؤونة الزَّنَقَة".
وبدلاً من أن أطرح عليه السؤال التخيُّلي من باب التَّسلية واللَّهوِ سألته بحذرٍ: "هل ترغب أن نمضي هذا اليوم سويةً في حلب"؟
أجابني وكأنَّه قد توقَّع السؤال: "أحمد، هل تعلم لماذا ينتخب البريطانيون يومَ خميس"؟
قلت: "في الحقيقة لم أفكّر بهذه النقطة سابقاً، أين يكمن السبب؟ هل ينتخبون فعلاً يوم خميس فقط!؟"
أجابني اِلياس: "لأنَّ يوم الجمعة مُخَصَّص للمرح وزيارة الحانات، ويوم السبت للنوم العميق والراحة، ويوم الأحد للصلاة في الكنيسة. أما يوم الخميس فهو يوم العمل والنشاط، يوم اِقتتاح أسواق الفلاحين والبيع والشراء والحركة. وها أنا اليوم قد تواعدت سلفاً مع أصدقاءٍ لي للتسكع والكيف. ألم تقرأ ما قاله اِمرؤ القيس: اليوم خمر وغداً أمر".
تركته وشأنه وقرَّرت الذهاب إلى أقاربي لأُمضي معهم نهار الجمعة.
*****
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهدوا الإطلالة الأولى للمطرب پيو على المسرح ??


.. أون سيت - فيلم -إكس مراتي- تم الانتهاء من تصوير آخر مشاهده




.. أون سيت - فيلم عصابة الماكس يحقق 18 مليون جنيه | لقاء مع نجو


.. أون سيت - أول عرض | فيلم النمر والأنثى مع إنجي يحيى




.. أون سيت - محمد ثروت بيحكي عن الجزء الثاني من فيلم بنك الحظ