الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة/ ذات الرّداء الأسود

عماد نوير

2018 / 3 / 25
الادب والفن


ذات الرداء الأسود

وقفت أمام الباب برهة تكفيها تنسيق هندامها الذي لا تعوزه حاجة إلى ذلك، رفعت رأسها بشموخ كأنها تحاول اختراق الباب، و الولوج إلى أسرار الداخل، فجمال الأشياء الواضحة للعيان، لم تكن قبل قليل بهذا البهاء، كان الهاجس الخفي يدفع بها لاستباق كلمة الترحاب بربع ساعة، محاولة رؤية الحياة التي يغرق بها ذلك الرجل الذي عرفته قبل ثلاثين سنة ماجنا و قحا عبثيا لا يأبه بالنّظام و الانصباط، كانت ثقوب الزمن تسربل بصيص من حياة سابقة، تجبر فضولها للاندفاع نحو ذكريات قديمة، و العيش لحظات الانتظار في شريط سريع، ضغطتْ على جرس الباب، هذا الباب الذي دخلته ذات يوم دون دقة جرس، أو طرقة باب، الباب نفسه، لكن رائحته تغيّرت، و لونه تغيّر هو الآخر ليس لمرّة واحدة و حسب، فعوامل الزمن قد أظهرت تجاعيد الطلاء و إن أخفته كثرة الدهانات، شجرة السدر العتيدة مازالت شامخة تقاوم الظروف، إلّا من الإهمال الذي صار رفيقها الحميم، تطلّعت إلى أغصانها المتدلية فوق الجدار، خلعت نظاراتها السّوداء الكبيرة، لعلّها تتعرّف عليها، ابتسمت لورقة مصفّرة نخرتها دودة استوطنت الشجرة دون رادع، خاطبتها: هل ذكرني أجدادك يوما، فهم كانوا شهودا على غفلتي، هل ذكروا كيف هجرتِ العصافيرُ أمّكم الشّجرة ردحا من الزمن، احتجاجا على استخدام فيأها لجريمة وحشية، هل ذكروا كيف حجبت أغصانها المتشابكة رؤية البشاعة عن أرواح العاشقين الصّادقة المحلّقة في فوق القلوب الولهة.
نظرتْ مرّة أخرى إلى هندامها و أناقته بذاك الرداء الطويل الأسود و ربطة رأس بنفس اللون على طراز نبيلات القرن السابق، عدّلت من مظهرٍ هو غاية الاعتدال، أنزلت حقيبة يدها السّوداء ماسكة بها بكلتا يديها أسفل البطن، كطالبة ثانوية يافعة، أمسكتْ بحنو تلك الورقة المريضة و همست لها: هل ذكر أجدادكم كيف واريتُ حالتي المزرية تحتهم، و كيف عدّلت هندامي الذي مزقته وحشية الشهوة، و عفّرته وساخة النشوة، كيف حاولت إصلاح حالي المبتذل الوضيع أمام الدخان الذي يغطيني تباعا بلا رحمة من سيجارة المنتشي للتو من طراوتي و ليونتي، هل ذكرَ لكم الأجداد كيف انصرفتُ من هنا دون أن أنظر للجاني، كيف ودّعني بعين الظفر و ابتسامة الاستحقار!

مازال التسجيل الصوري يعرض جانبا لا يمكن أن تغفله العين السائرة في طريق مُدغل، موحش، كئيب، تنبعث منه روائح ذكريات نتنة، يتوقّف التسجيل بضغطة زر الإرادة و التّحدّي، و العودة إلى عالم القوّة، ترافقها ضغطة مهذبة على جرس الباب، ينفتح عن عمر بأكمله، وجه الجاني مجعّد هذه المرّة، أوغلت به تضاريس الزمن، فبدا هرما أكثر مما يجب، ماذا ستقول له، و واقع الحال أفرز عمّاً أمام فتاة ناضجة، ليس هناك ما يدعو لتقارب في العمر، حتى إن تأكّد ذلك في هويتي الميلاد!
رأت حربا طاحنة امتدت لمدة ألف قرن، تساقطت فيها حتى الأزمان العتيّة صرعى أمام غول الجرائم البشعة، و اتّساخ العمر الطويل بلوثة شرف، و تصدّع جدران العفّة كلّما رممتها السنون و التناسي و التغاضي، عيناه مازالتا تجرمان كل يوم، شحوبه و اضمحلال وسامته بين تجاعيد الشّر، و نظرات أطلال المكر، انهزاميته المتعكّزة على قوة زائفة، و روحه الشهوانية المفترسة، التي تُيقظها رائحة الأنثى في أي زمان، انفتح الباب عن زمن غابر و شخصية قبيحة!
تساءلت عن كيفيّة الثأر، كيفيّة قتله، إغواؤه في غاية البساطة، ليس هناك مجالا للمقاومة، ليس هناك خوف من فساد الخطة غير الموضوعة بدقّة، ليس هناك أي دليل لقدومها إليه في هذه السّاعة، هو وحده تأخّره سُكرة الليل إلى نومة تمتد حتى الظهيرة، و ابنته الوحيدة في دوامها حتى الثالثة، و هو وحده و ذكريات بعيدة، و أخرى قريبة و إن كانت خجلة لهزال هيمن عليه، الأمر سهل، لم يعد صيّادا لا يُقاوم كما كان، أصبح صيدا لا يحتاج إلى كمائن، ابتسامة واحدة و معالجة أخرى ترمي به إلى مزابل أعماله، و نتانة ذكرياته، و تأوّهات ضحاياه:
-السّلام عليكم.
أجاب على الفور، بعد أن اعتدل و استطالتْ قامته الفارعة:
-عليكم السّلام.
-السيد منصور، أليس كذلك!!؟
-نعم، أنا هو... بِمَ أخدمكِ سيدتي؟
-على الباب يا سيدي؟!
-عذرا...عذرا...تفضلي.
دلفتْ إلى الداخل بهيبة و شموخ تتجول عيناها أرجاء المكان، استقبلتها صالة تناثرت على أركياتها كتب، مجلات، زجاجة فارغة، و أكياس أكل جاهز، و فوضى ذكورية معتّقة باللاأبالية! جلست باطمئنان و هو يعتذر عن ارتباك المكان، مع إيحاءات الوحدة التي تولّد هذا الفراغ من التنظيم.
-استرح سيد منصور، لن أمكثَ طويلا، فقط سأُحدّثكَ قليلا و أنصرفُ.
ابتسم و عيناه تلتهمها، كيف سيُصلح حاله يا تُرى؟ فمنظره في غاية البساطة، لم تجلس بحضرته امرأة من قبل و هو بهذا الشكل المزري، فلطالما كان مغريا لدرجة أن الضّحية لا تأخذ بيديه دقائق، لتكون في قدر عشائه، و النار معدّة قبل حضورها بساعات!
-سيدتي، أنتِ تأمرين، كيف يمكنني مساعدتكِ، و بأي أمر؟
بعين الانتقام، كانت ترى المشهد يتراكض، ليغرق بدمه و المدية مغرزة في عنقه، بعد أن اقتربت منه، اقتربت أكثر، و دَهْشَته الجمتْ كل حواسه، مالتْ عليه، فتحرّك الحيوان الذي بداخله، و تحرّك الغيظ الذي بداخلها، امتدت يده إلى خصرها، و امتدتْ يدها نحو عنقه، لتستقر الحسرة الطويلة يسقيها دمه الحار، يفزعها شخير نزعه، و حشرجة انطفاء روحه!
هزتْ رأسها تخاطبها ذات بعيدة: لن تنزلي إلى تسافله، لن تكوني مجرمة كإيّاه!
-هل تعرفني يا سيدي؟
-يؤسفني أن لا أعرف كل هذه الأناقة و الرقة و البهاء.
-أنا ليلى، و أتمنى أن تكون ليلى واحدة قد مرّت بك، فالأسم شائع، و مرورك على الأسماء وفير! أنا ليلى...
-عرفتكِ... ليلى المغرورة.
-لقد قضيتَ على غرورها، بقضائك على أمور أكبر من الغرور!
-ما الذي ذكّركِ بي، و ماذا تريدين؟
-و هل نسيتكَ، لأتذكّر! هل تعلم بأنَ ما تتركَه لا يُنسى؟
-إذا؟
نظرت لصورة على الجدار، شاب و يحتضن زوجته و ابنتهما تتسلّق كتفيهما:
-تلك زوجتكَ يرحمها الله؟
-نعم.
-ما أجمل طفلتكما، كم أصبح عمرها الآن؟
-ثلاثة و عشرون!
-اصغر أبنائي السبعة، أيضا عمره ثلاثة و عشرون.
توقفت عن الكلام، و مازالَ ينتظرُ، أطرقتْ قليلاً، ثم واصلتْ:
-لكنه وقح، يتصّد الفتيات، دونما خُلق، و يبدو أن ابنتكَ ستكون عشاء سائغا في الليلة القادمة!
انتفض من مكانه، تغيّرت سحنته، زمجر و توعّد:
-سأقتله.
-و هل قتلكَ أحد؟ و هل كُنتَ تدري عن شيء لو لم أخبركَ؟ جئت أحذّرك فقط، اعتنِ بطفلتكَ.
نهضت، عدّلت هندامها، وسط ذهوله ارتقت شموخها، يتبعها ذلّهُ إلى الباب، قابلتها صبية بعمر الورد:
-أهلا سيدتي.
-أهلا حبيبتي، ما أجملك! في المرّة القادمة، قولي عمتي.
ودعتهما بأناقتها المعهوده، التفتتْ الصبيّة لوالدها:
-مْنَ هذه المرأة يا أبي؟
-إنها مَعْرفة قديمة، من أيام الكليّة.
-لماذا تعتمر السّواد؟
-أظنها حزينة على ماضٍ بعيد.!
عماد نوير...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس