الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيء من نار ..نص وقراءة

حسين التميمي

2006 / 3 / 12
الادب والفن


قصة قصيرة
نص وقراءة
الأولاد رحلوا خلف وهم قسري ثم عادوا إلى مستقر تحت الحجر ، وتعودت أنا أن أحيا محيلاً حزن الفراق إلى أغنية ، تناوبتها وزوجتي . البيت الذي شيده جدي وورثته عن أبي . تجعدت وتآكلت حيطانه ونخرت الأرضة نوافذه وأبوابه وصار بالوسع التنبؤ بسقوطه قبل سنوات أرختها برحيل أكبر أولادي ، وكان هذا التنبؤ مختبئاً بذاكرتي يشغل حيزا بحجم الأمل .
أقفلت دكاني ظهر هذا اليوم والرجل الذي سلمني الورقة مضى ليوزع البلاغات التي هي بعدد الآخرين المرتبطين بي صلة قربى انحدرت إلينا من مكان لم أولد فيه . الذين أفاقوا من وقع المصيبة جاءوا إلي وأوراقهم في يدهم مستفهمين عما يحدث ... سخرت من ذاتي في تلك اللحظة إذ رأيت نفسي أشبه بقائد عجوز أُسقط في يده . مررت على الوجوه الحيرى بنظرة محايدة ثم تركتهم عائداً إلى البيت .
عالم حميمي يبعث على ديمومة الأشياء ... عالم صنعته ربة بيت ، خلقته آلهة بيت ، أبواب الحجرات الكثيرة تحيط به كأضلاع مربع فيه الزمن يختصر إلى أشياء بسيطة ولكنها أقدر على الوجود .. أفكر أحياناً ، أن الكائنات التي دجنت عبر قرون قد هيأت لتعيش في هذه الباحة . بدأت في الأيام الأخيرة أحاول التقرب من سر هذه الجنة الصغيرة التي دفعت بأناس كثيرين للمجيء إليها فضولاً ، أو حباً بأشياء أخرى كنت أخاف عليها من الزوال بعد أن مرضت زوجتي إثر غياب آخر طفل ممن كانوا يأتون إلينا . كان الناس يتذرعون بكثرة المشاغل منسحبين عن حضورهم الذي أمتد زمناً طويلاً ، كنت أفهم سر تخلفهم ، ففيما مضى كان جدي رجل دين يجتمع من حوله أهل الحي جميعاً للمشورة في أمور دينهم ودنياهم وتقرباً من نفوذه في نفوسهم ... مستعيناً بذلك على بعضهم بالبعض الآخر ، وإذ مات جدي في ظروف لا أتذكرها ، خيل لهم أن يظلوا على ولائهم الذي تمثلوه في أبي ، ولكن شيئاً غامضاً كان يحدث في نفس أبي إذ أسمعه أحياناً يهذر في الليل بكلام لا أعرف معناه فأحس بشيء خطير يكاد يحدث أراه مرتسماً بتعبير الخوف على وجه أمي حين تستمع إلى أبي .. فهو يغيب أياماً ثم يعود في ليال بلا قمر مقترباً من سريري ومقبلاً إياي شوقاً يضيء فيّ فرحاً يثلج قلبي ويهدهدني لأنام على حلم أن أكبر وأصير مثله .. رجل علم ومعرفة ، وإذا بي أصحو فزعا ذات ليلة لأجده جاثياً عند عتبة الباب يلفظ أنفاسه الأخيرة ، ومن خلل غطيط الاحتضار الأخير سمعته يقول لأمي وهو يشير إليّ ( افعلي شيئاً من أجله) وأذكر أن أول ما فعلته أمي أنها أحرقت كتبه ثم بقيت تبكي بقربي حتى كبرت على دموعها ، وعلى فراق الناس الذين انسحبوا وتركوني في شك من أن يكون الذي مضى حلم ليس أكثر . وهاهم قد فعلوها معي أيضاً ، بدأ الأمر حين كان الصغار يأتون متطلعين من فرجة الباب إلى جنة زوجتي .. تجذبهم ألوان الطيور وأصواتها ، ثم أن زوجتي عرفت بعد ذلك كيف تصاحبهم مشعرة إياهم كأنهم ند لها مستعينة بقصص رأيتها تتدفق بإجادة من فمها كأفضل ما يكون القص ، فكان إن صارت زوجتي مثار حديث في بيوت الجيران ... دفعهم بعد ذلك فضولهم إلى التحقق من صدق ما يتناقله الصغار فكان أن بدأن يترددن إلى الدار ، وإذ رأين غضاضة تواجدي معهن في الدار ، هداهن التفكير إلى حل تمثل في اصطحاب أزواجهن في الزيارات الأخرى فعاد بذلك الى البيت سابق عهد حسبته لن يعود ، رأيت زوجتي تتألق في تلك الجلسات وتبعث فيها سعادة تجعلها تطوف على وسادة من حلم . هي تعرف عن أبي كل الأشياء التي تعلمتها مني ، فكنت أراه في قصصها بطلاً يجوس في حقب الزمان على فرس من أمل مضيء ، وفي الليالي التي أقضيها وحيداً في باحة الدار أستذكر وجوه السامعين فيؤرقني ما ينطبع في ذاكرتي منها غباء يكاد يشملهم جميعاً .. ولولا الصغار الذين يلتمعون ذكاء عند السماع ، لكنت طردت كل الكبار .
دخلت إلى غرفة النوم فوجدت زوجتي ممددة فوق السرير، مريضة كما تركتها في الصباح ، وعيناها تطالعان السقف باتساع يوحي بأنها تنظر لمدى أبعد ، أرحت جسدي على حافة السرير بالقرب منها . سألتني .. دون أن تحول نظراتها العطشى إلى شيء لم أفهمه .
- ما الذي أعادك مبكراً هذا اليوم ؟
وضعت ورقة البلاغ في يدها دون قول .. همست بعد أن قرأتها .
- لقد أتت متأخرة ... متأخرة جداً ...
نظرت إليها .. أذهلني الفزع إذ فهمت ما ترمي إليه ، فصرخت بها
- لا ... لا تخرفي ... أنت أقوى من أن ...
وأخرسني أني رأيتها تلفظ أنفاسها بهدوء ، مبقية عيناها على اتساعهما الذي بدا في تلك اللحظة أمراً غير قابل للتصديق ، ولكن ما حيرني فيما بعد أني وجدت نفسي مساقاً إلى نوبة من الضحك ، أفقدني توازني ، وسقطت أرضاً فقد خيل لي أني أنسلخ في تلك اللحظة عن حاضري فأبعث في زمن آخر لأمثل فيه دوراً مؤثراً في مسرحية تتحدث عن مآسي العشاق في عصر انحطاط وتخلف لا يتناسب ومجد الحب الذي يصنعون . لم يعد الآن في البيت حيُ سواي . بدأ الظلام يزحف إلى الداخل توجهت إلى الفانوس الذي كانت زوجتي تحمله حين تتفقد الدار لآخر مرة قبل أن تنام . أشعلته ومضيت إلى الباب الخارجي فأقفلته بإحكام من الداخل وتوجهت عائداً في طريقي إلى غرفة النوم ... مزمعاً قضاء آخر ليلة مع جثمان زوجتي .. سمعت جلبة في الخارج ، وأصوات أناس يخرّجون من بيوتهم فيعلو صراخهم ، ميزت من بين الأصوات صوت جاري إذ كان يصرخ كأنه يعلنها للجميع ..
- لقد جاءوا لطردنا ولم يمهلونا حتى مجيء الصباح ..
ارتبكت وسقط الفانوس أرضاً وأندلق النفط وإذا بالنار تمتد معه لتمسك بالبساط .. قفزت في خفة لا تتناسب مع ما مر بي من تعب السنين متجهاً إلى دلو الماء ، وإذا بي أقف متردداً في منتصف الطريق بين الماء والنار .. وسمعت طرقات تتوالى على الباب .


قراءة : محمد قرانيا
قصة: شيء من نار. لـ"حسين التميمي".‏
عندما يجد المواطن نفسه محاصراً من جميع الجهات داخل بيته من قبل السلطة، وداخل وطنه من قبل العدو يفقد الرؤية الصحيحة للحياة، ويسيطر عليه القلق والاضطراب وعدم التوازن، ثم مع استمرار الحصار وفقد الأولاد والأحبة وإيداعهم تحت الثرى. يدخل الرجل مرحلة الإدمان. إدمان الموت وفقدان الإحساس بالزمان والمكان... نظراً لإمعان السلطة في القهر، متعاونة مع القدر والعدو الخارجي على متابعة سحق المواطن حين تنذره بهدم منزله.‏
لقد استطاع الكاتب أن يسير بقصته من البداية إلى النهاية عبر خط القهر النفسي المتوتر، من مرض أفراد أسرته إلى موتهم. وتكتمل خطوط السخرية الصاعقة حين يرحل الأولاد عن العالم ويبقى الأبوان على قيد الحياة، وما إن يأتي ممثل السلطة لتبليغه إنذار الهدم. يغلق الزوج دكانه وينطلق على بيته ليزف الخبر إلى زوجته، فتعلمه بأنهم تأخروا كثيراً. لأنها تشعر بدنو أجلها، ثم تسلم النفس إلى بارئها. عندئذ يقرر الرجل أن يقضي الليلة مع جثمان زوجته وفاء لها، فيحمل الفانوس يتفقد المنزل كما كانت تفعل زوجته كل ليلة قبل أن تنام، لكنه يفاجأ بالطرق المتواصل على باب المنزل، ولا يمهله المكلفون بتنفيذ القرار إلى الصباح، ريثما يقوم بدفن جثمان زوجته، يسمع الجلبة في الخارج، وأصوات الناس يخرجون من بيوتهم فيعلو صراخهم، ويميز من بين الأصوات صوت جاره الذي كان يصرخ معلناً "لقد جاءوا لم يمهلونا حتى الصباح. "فيرتبك ويسقط الفانوس أرضاً ويندلق النفط، فتمتد ألسنة النار لتمسك بالبساط. حينئذ يقفز بخفة لا تتناسب مع ما مر به من تعب السنين متجهاً إلى دلو الماء، وإذ به يقف متردداً في منتصف الطريق بين الماء والنار. وسمع طرقات تتوالى على الباب...".‏
تعيد القصة إلى الأذهان عالم القهر الذي يلحق بالشخصيات الروائية التي جسدها عبد الرحمن منيف، تلك التي تطرح العلاقة العدائية وغير المنسجمة بين المواطن والسلطة، لذلك تظل محبطة مصابة بالارتباك والقلق والخوف والحيرة وعدم القدرة على قراءة أسباب العيش الآمن، وهذا ما يولّد لديها الشعور بالعجز والحيرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول


.. إخلاء سبيل الفنان المصري عباس أبو الحسن بكفالة مالية بعد دهس




.. إعلان آيس كريم يورط نانسي عجرم مع الفنان فريد الأطرش


.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال