الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مركز البحوث العلمية -8-

علي دريوسي

2018 / 4 / 4
الادب والفن


كلمات هند عن البحر ورأس البسيط أعادتني إلى طفولتي. كان عمري خمس سنوات وطولي لم يتجاوز تسعين سنتيمتراً حين حملني أبي على كتفه القوية كجذع شجرة زيتون، وأصعدني إلى العِرْزَال مستعيناً بالسُّلَّم الخشبي الطويل كحبال الوهم والكذب، كنت أحمل بين يديّ رزمةً من أعواد الحِمَّص الأخضر المالح ولعلّها كانت صفراء يابسة إذ لم أعد أذكر الحدث تماماً، ثم تركني ومضى إلى شِلَّته.
كنتُ أقفُ في العِرْزَال وحيداً، بين أشجار الصنوبر والجوز، تحت السماء فوق أغصان الشجر، تداعبني أشعة شمسٍ شارفت على الأُفُول، تصلني من قريبٍ رائحة البحر نَفَّاذة ومن بعيدٍ رائحة شواء عيدان الحِمَّص، أقفُ في العِرْزَال كناطورٍ للبحر والغابة ولشِلَّة العَتَّالين والعمال الأقوياء النَشاوَى هناك.
كنت أحتار في أمر أولئك الرجال حين أراهم يكورون قبضات أياديهم، يبصقون في داخلها، يفركونها ببعضها البعض حتى في عِزِّ حرارةِ الصيف، يقبضون على النِّصَاب الخشبي بأصابعهم المتينة، ويتابعون أعمالهم في الحفر أو الهدم أو الهدّ أو الدكّ أوالجَبْل أو الرفش أو الركش أو التقطيع. رحت أُقلِّدهم عندما كنت صغيراً ثم مراهقاً، اِحتجتُ إلى سنوات عديدة حتى فهمت المعنى العلمي للبصقة.
لم أقفْ في العِرْزَال كي أحتمي فيه من الأسد كما يفعل الصَّيَّادُ الجبان، وإنَّما خشية من الغرق كما يفعل الطفل الجبان، لعلّها لم تكن خشيتي بل خشية أبي عليّ كي أبقى على قيد الحياة، كي أكون شاهداً إذا ما غرقوا جميعهم واحداً وراء الآخر بعد أن شربوا عرقاً حتى الثُّمالَة، جرعوا آخر القطرات في كؤوسهم ثم قرَّروا معانقة اللّجَّة، وكان الحَمَّال جازي السَّكْرَان على وشك الغرق في تلك اللحظة، والبحر عميق عميق دون شاطئ أمان، بدا جازي وكأنّه يودّع العالم من حوله، يرفع ذراع يده اليسرى القوي إلى الله ويخبط بالذراع الأيمن الموج من حوله، يصرخ ويستجدي، كانت شفتاه ذابلتين وعيناه حمراوين، ينزلق بجسده الضخم ورأسه الكبير ومِنْخاره الغليظ إلى الأسفل الأسفل ليقذفه الموج إلى الأعلى الأعلى مُجَدَّداً، وأبي يقف حائراً مَكتُوفَ اليدينِ كما لم يكن من قبل، لم يكن يجيد السباحة بتلك الدرجة التي تؤهله لإنقاذ غريق، ولا رفاقه الذين كانوا هناك، لكنهم كانوا حتماً على استعدادٍ للغرق المُوحَّد فِدْيَة للشاب جازي، رفيقهم في العِتالة.
وأنا الناطور أراقب بصمتٍ ما يحدث معهم، بعد أن شلَّتهم الصَّدْمةُ، بعد أن طار السُّكْرُ من رؤوسهم وعاد العقلُ إليهم. أهجس: "دعوه يموت، لا تموتوا معه". لكنني كنت على يقينٍ في داخلي أنَّهم لن يتركوه يرحل أمام أعينهم دون حراك. وأنا الشاهد كنت أرى كيف ينظرون إلى وجوه بعضهم البعض وكأنَّهم يُخطِّطون لفعل شيءٍ لإنقاذه، وأرى في الآن ذاته ما سيحدث معهم يوماً وكيف سيموتون لاحقاً واحداً تلو الآخر، وكيف ستبقى ذكراهم وحكاياتهم بعد موت آخر العَتَّالين مطمورةً في خَبايا النِّسيانِ، قرب البحر أو النهر، في الأكواخ والعَرازِيل بين أشجار الصنوبر والكينا والجوز واللوز، ستبقى ذكراهم مطمورةً إذا لم يتفضَّل أحدنا مُتطوِّعاً من غير سؤال بالحفر عميقاً بغية إيقاظ حكايات الموتى الأُمِّيُّين.
فجأة رمى أبي بكل جبروته بغصن شجرة حورٍ يابسة إلى البحر لتهطل قرب الغريق جازي الذي تَشَبَّثَ به إلى أن وصل أحد السُبَّاح المهرة من سكان المنطقة.
*****
بعد لقائي القصير مع هند حاولت مراقبة مدخل البناية المقابلة كي أرى كيف تخرج برفقة رجل المرحاض أو فيما إذا كانت تخرج لوحدها من المبنى، لكني لم أستطع التعرُّف إليها، لعلّها خرجت مراراً دون أن أتمكّن من معرفتها. عندما ترتدي المرأة ذاك الوقار الأسود تختفي، تضيع فيه، تصير عصية عن الفهم، لكنها قد تكون اِمرأة جذّابة وطموحة وذكية وعزيزة النفس وقوية الشخصية مهما قيل عنها.
اِعتاد بعض معارفي وأصدقائي على العمل والاسترزاق في موسم الصيف لقاء تقديم خدمات سياحية للغرباء القادمين من مدنٍ سورية أخرى أو من بلدان مجاورة للإقامة والتصييف بغية الاستجمام قرب شواطئ وصخور وجبال وغابات المناطق البحرية في وادي قنديل، ورأس ابن هاني ورأس البسيط بشكلٍ خاص. عملوا في مجال بيع معدّات السباحة البحرية وحاجيات المصطافين من طعام وشراب، أو في مجال إدارة المطاعم والملاهي الليلية الصغيرة، أو في مجال تأجير الخِيم السياحية والشاليهات والشقق.
عندما كنا نلتقي في مساءات أيام الشتاء في بيت أحدنا لتبادل الحديث حول السياسة والوضع العام والتطورات الأخيرة لرابطة المناجذ الشيوعية وما آل إليه وضع الرفاق والأصدقاء الذين ما زالوا في السجن أو أولئك ممن أطلق سراحهم بطرقٍ غير مفهومة حتى الآن. وفي حال وجود ضيوف طيبين مَرحين ممن وثقنا بهم وأسميناهم البهاليل لكنهم بقوا غرباء عن الشِلَّة المُعتادة كنا نلتقي هكذا ببساطةٍ لمجرد التسلية وتمضية الوقت ونحن جالسين حول طاولة صغيرة عليها سجائرنا وكؤوس العرق وبعض المازوات المتواضعة، كانت الأحاديث تدور عن العمل والمرأة والمدرسة والذكريات وسلوكيات بعض الشخصيات الهزلية في المنطقة، وإذا ما عمل أحدهم في مجال الاصطياف البحري كنا نسمع منه حكايات مسلية ومثيرة عن النساء الفاتنات الشبقات والقادمات من حلب وحمص والشام برفقة أزواجهن أو عائلاتهن.
كانوا يقولون إنَّ المرأة منهن تأتي مع زوجها في المساء لتكون برفقة البائع أو التاجر الصغير أو المؤجِّر في صباح اليوم التالي، أو ما أن تذهب المرأة برفقة زوجها لشراء بعض الاِحتياجات المنزلية، وبينما زوجها منشغل بالحديث والبحث عن قطع الفواكه الطازجة، حتى تكون زوجته قد مدّت يدها للبائع أو مساعده أو حتى ضيفه لتعطيه رقم تلفونها أو موعداً مسائياً. حكى العاملون هناك كثيراً وطويلاً عن مضاجعاتهم للفتيات والنساء القادمات من الداخل، النساء المكبوتات بحسب تعريفهم لهن.
*****
وكما هو الحال على شاطئ البحر في المدن البحرية هو الحال أيضاً في شوارع ومقاهي المدن اللابحرية.
على الشاطئ وفي البحر ثَمّة عشرات الفتيات والنساء شبه العاريات يسبحن بكامل أناقتهن، يستعرضن أجسادهن، يتلفَّتن يساراً ويميناً، يغازلن الرجال العابرين، وثَمّة كائنات أخرى مُستَتِرَة بحجابٍ أوحجابين باللّون الأسود أو الأبيض أو الرمادي، منهن الطازجات الشهيات ومنهن السمينات المُسِنَّات، وأنت تجلس على الشاطئ لا تعنيك المرأة الحرّة ولا مدنيتها، ولا جسدها ولا تكويراته وزواياه الحادة، بل تغريك تلك المرأة المُختبئة بلباسها، تغريك حواف اِنطباعات وإسقاطات فستانها الحريري على جسدها، على مؤخرتها ونهديها وبطنها، تنظر قطعاً وتحديداً إلى المؤخرة التي تشتهيها، يتورَّد في داخلك غصن اِصطهاجك، يشع فرحاً وتبدأ بمغازلتها إلى أن يلتفت إليها وكيل نعمتها ومالك مفتاح قفصها الحديدي فينهرها ويبعدها عنك.
وحين تجلس في مقاهي مدينة حلب أو تتسكَّع في شوارعها بلا هدف، تمر من أمامك صبيات متبرجات جميلات مدنيات بلباسهن وبحركتهن، يعبرن أمامك عبور القطط الحلوة كثيرة الغُنْج والدَّلالِ، لكن نظراتك سرعان ما تتجاهلهن حين تقع على اِمرأة مُحافظة محتشمة، تعجبك أناقتها، تتخيَّل أنَّك فقط معها ومن خلالها قد تصبح رجلاً، تتخيَّل أنَّك تَشُمّ رائحة ملابسها الداخلية التي يحكون عنها، أصابعها، طلاء أظافرها، نصائح حماتها وأمها، تكويراتها، أسرارها، تَشُمّ رائحة طبخها وتتذوَّق خلطة بهاراتها السرية التي ورثتها عن جدتها، الخلطة القادرة على إشعال فتيل زوجها أو أي رجل آخر كما يقولون، فتشتهيها أكثر، حتى لو كان كل ما قيل عنها لا أساس له من الصحة.
*****
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهدوا الإطلالة الأولى للمطرب پيو على المسرح ??


.. أون سيت - فيلم -إكس مراتي- تم الانتهاء من تصوير آخر مشاهده




.. أون سيت - فيلم عصابة الماكس يحقق 18 مليون جنيه | لقاء مع نجو


.. أون سيت - أول عرض | فيلم النمر والأنثى مع إنجي يحيى




.. أون سيت - محمد ثروت بيحكي عن الجزء الثاني من فيلم بنك الحظ