الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من ينتزع رمانة الياقوت من غصنها الذهبي/قراءة في رواية (كان هناك)للكاتب العراقي محي الأشيقر

كاظم الواسطي

2006 / 3 / 13
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


بين الغاضرية , الغارقة في مياه الروح , وبيروت النائمة على بارود الحروب والإحتراب .. تستيقظ جمرات الأعوام من رمادها .. تتوثب , محمومة , لالتقاط ينابيع الشجن والصور الضامرة لمخلوقات يتسع عذابها في ظلمات الأمكنة المسلوبة الفضاء . باحثة , باضطراب المرغمين , عن آفاق قصية، وملاذات لما تبقى من مخلفات المحنة ، وبقايا نسيج الحياة المهدد بالتمزق ، والفناء ،بين براثن مخلوقات خرجت من متاهات التاريخ ، وأخاديد التوحش والعقم . مخلوقات امتهنت الانقضاض على كل ما هو أخضر في الحياة، قاضمة بأنياب براريها الموحشة ثمرات مدن الماء ، وفاكهة الزمان ، في بلاد كان ( السواد) لها عنوانا، وطبيعة مكان . مخلوقات أوقفت نبض المياه في الأنهر والجداول الصغيرة ، وسممت هواء البساتين ، يوم غفت العقول ونامت على أمل كاذب ، وواجهت تاريخها وحياتها بوعيٍ مغاير ، زيّف شروط التغيير القادم ، وأهمل هوية القادمين من مستنقعات الافتراس .
وهناك.. كانت صرخة الكائن المحاصر , وعويله الدامي في براري الروح , التي تأبى الاستسلام لبراثن الظلام والعيش في قلاع القهر والعذاب .
وهناك.. عاش من تشرنق بخيوط الصمت , وصارت له متراس حياة , وزاوية احتماء , ومصدّ للوقاية يغذّيه من دمه ، مضحيا بكل وسائل الراحة والترويح من أجل إدامته ، لمنع تسلل عوامل الخراب ، والهواء الفاسد إلى داخله . وهناك.. من باع صراخه بهمسات الولاء والتذلل , ليصير فيما بعد , حارساً وبوقا" على أبواب تلك القلاع الجهنمية ، التي عشنا في ظلالها الرمادية عمرا محترقا .
ولكن هناك من عمل بمبدأ " أرض الله واسعة " مرغما" أو مختاراً .. إذ لم يستطع احتمال مشاهد العذاب والقسوة على مكانه , الذي بات يضيق أكثر فأكثر وتتشكل له ملامح أخرى .. غريبة عليه .
وكان " سالم " واحداً من هذا البعض المسكون بعشق مكانه والانتماء إلى جذوره الطيبة .. ولكن غير القادر على البقاء متفرجا" على أبواب الجحيم المفتوحة على مساحاته الخضراء .
ومن تلك " الأمتار والخطوات التي وطن نفسه على أن يراها وهي تصغر وتتقلص " بين مدينته الفرات أوسطية وبغداد . وجد نفسه مرغماً على سلك الطريق خارج جلده وروحه وتاريخ أهله , بل هو الطريق إلى " خارج الأشياء " . حيث صار التجاذب مختلا" بينه وبين محيطه الذي عاش فيه تلك السنين الطويلة من العمر .
وتلك بداية الحيرة والاضطراب , للذين ينتمون ,حقا" , لتذكارات فضاء طفولتهم المزدحم بالبساتين والثمار وحنين الأمهات الطيبات . والإهانة المؤلمة للذين كانت لحياتهم الأولى نكهة المشاركة وشجاعة الفتيان المستمدة من صلابة جذوع النخيل , والمطاردة الحرّة للعصافير والفراشات في الحقول الواسعة :
" ليش الخوف امي ! الله بس خلقنا . الله ماخلق الخوف ". وتظل الأمهات الصابرات على محن العيش ومواجع الفاقعة يبذرنّ الثقة بالنفس وفرادة التكوين المبني على المحبة والإستقامة :
" انت رمانة من ياقوت ’ هدية من الوهاب وقعت بحضني … انهض يافرحي . المواكب بدأت والحمامات ينتظرنك والاطفال مروا . النوم ليس لك .. النوم يكدر الروح ’ انهض ياولدي " .
تلك هي الدعوة للنهوض واليقظة ومشاركة الأصدقاء بل ومصادقة الحمامات . فاي قسوة بالغة في إغماض عين عن مشهد أحبته هكذا .وأية فجيعة في انتزاع رمانة الياقوت من غصنها الذهبي ؟ لن تكون لمشاهد الطريق بعيداً عن بساتين الطفولة وأصدقاء العمر أي جاذبية أو معنى في نظر سالم :
ليست هي قامات النخيل ولا ذؤابات أشجار البرتقال والليمون وعرائش العنب ’ انها كتل من الحبر والقار ينزفهـا كائن تناوشته للتو عشرات السكاكين وترك في قلب اجمل بستان من بساتين الفرات الاوسط 00
ليس هنالك فرح بالمغادره ، والابتعاد عن مكان يتهـدده القتل والعذاب00 بل هو نوع من آلالام أشد ضراوه وفتكاً بالروح 00 يمزق بسكاكينه الحاده نسيج تكوينها وتاريخهـا 0
ولكن مالذي يفعله من توجهت اليه جرافات قطع النسل 0
" لن اكون ضابط أمن وأبن اهلي وحزبي إن لم أقطع نسلكم " .
ان وجود "هارون " وأمثاله من رجال الامن المدربين على سحق كرامة الناس ومطاردة كل من يحرك شفة، يقلص مساحة الحياة ويجعل العيش والامن صعباً ومستحيلاً:

" نحن ابناء هذه المنطقه غير منذورين لآمال قريبه 000 نحن طارئون على حلم هذه الاعوام "0
وفي دمشق يلتقي " سالم " بالفتاة "ريمه " والتي كانت لها ذكريات ناعمه مع اخيه " همام " – الذي أرغم هو الاخر على المغادرة قبله بسنوات حيث وجد فيها ملاذا" مريحا" لاضطراب روحه ،ورفقه لذيذة في تجواله هناك0
وعندما طافا حول ضريح السيدة زينب ،والتي هي واحده من رموزه المعذبه :
"هذه واحده من رايات وجعنا ، الى هنا تخفق قلوب الغرباء والمطاردين 00 هي قرينة الحزن وسبي الجماعة "
نعم00 انها ذات الجماعه التي يعلن ضابط الأمن " هارون " أمامها عبارته الأثيرة :
" أنتم ابناء هذه المناطق 00 حيوانات- حيوانات فقط 000 أنتم تعيشون بفضلنا ومن فضلاتنا 000 نكسر أرواحكم قبل عظامكم ". وهناك 00 ظلت صور الفجيعه والقسوه تطارد ذاكرة " سالم " ، ولاتريد لها أن تكون بمنأى عنها أو محاولة نسيانها00 كما لو أنه لايريد ان يفقد مبرر المغادره ، وكونه قد أرغم عليها بسبب مقاوته اياها ،وعدم الاذعان لاهانة رموزها ،فقد تسلل " سالم " – قبل مغارته – الى بيت هارون حيث قيده ببنطال بيجامته وحاصره هناك ،حيث كان " يختض ولون وجهه يضرب الى ذلك الاخضرار التالف ،سالحا" على نفسه "
وتلاشت في لحظة واحده ، كل تلك القوة التي كان يهدد بها الاخرين ،كاشفا" عن مخلوق تافه وضعيف :
" دخيل التراب الي مشو عليه أهلك وأجدادك 00 لا تقتلني هذه الليلة 000 دوسني بحذائك ،شخ عليّ 0".
لم يفكر سالم بقتله 00بل أراد ان يتركه هكذا ذليلا مهانا" " سالحا" عن نفسه "
ولكن زوجته التي جاءت في تلك الحظات بصحبة أحدهم 0 والتي ظهرت فيما بعد عارية على شرفة البيت وامامها على المنضدة قلب بشري ،وهي تخاطب الذين وقفوا في الخارج ينظرون اليها :
" انتم جبناء وأنذال وتستاهلون اللي سواه بيكم.. ولكن 00 روحوا خبروا الحزب والقحبة ام التاريخ :
راس هارون محطوط بالمرحاض 00 " ويبقى هناك الالاف من أمثال " هارون " في تلك القلعه المغلقة 0 فضابط الامن " ابن الحجي " وزمرته هم من تلك السلالة الهمجيه 00 حيث يتعرض الرجل الجنوبي الطيب
"صاحب ( ابو ريه ) " لاشد انواع الاهانه والاذلال على أيديهم داخل البستان الذي كان يعمل فيه
" يتناوبون على الضرب والصياح والرغو والفساء والضراط واللواط في قلب بستان أعزل لاحول فيه للبرتقال والليمون والتوت 000 ولاقوة لشجيرة الرازقي الوحيدة " 0 ولأن سالم " ولدا"من نار وشقيقا" للحرائق " لم يستطع البقاء متفرجاً على افعال الانذال .. خافيا" معدنه المتلآلئى في وسط الرماد .
والى بيروت حمل معه نيرانه وحرائقه وصفاء معدنه , ليكون مقاتلا" يتطهرمن عوامل الخوف والانكسار ، التي قد يتعرض لها المرء في فراغ الغربة .. وثمرة" ناضجة لذاك الفتى الشجاع في بساتين النخيل .
ولان أبناء هذه المنطقة " غير منذورين لآمال قريبة " .

بسبب الفجوات التي تثقب نسيج حياتهم .. وجد ( سالم ) في مكانه الجديد اشكالية مختلفة ترمد ايضاً لمعان معدنه .حيث " اختلاط الاهداف بالأسماء وارتفاع مناسيب الارهاب بتدفق الثروات والتجارب التي تشارف على الانمحاق بعد انتحار بعضها " .
وفي وسط تلك الاختلاطات الذهنية تظهر شخصية أخيه القادم من الغاضرية ..من بساتين النخيل والبرتقال بعقاله وعبائته الحنية ..
" ياهو اللي وصلك لهنا يابعد عيوني " هكذا استقبلته احدى الحمامات المنطلقة من قلب سالم في بيروت .
كما لم يرد سالم ان يستقبله واقفاً او على كراسي المقهى القريب .. بل ان يكون للقائهما نكهة تراب البساتين
" تعانقا . بكيا .صرخا . ثم تمرغا على التراب مثل نمرين " انه لقاء المحبة اللذي يظهر بريق الروح جلياً ..بدون رماد .ولكن بارود الحروب يصر على تلطيخ كل شئ بالسواد .
فأنتزعهما دوي الانفجارات القريبة من ذلك اللقاء الحميم .وخطف سالم اخيه من براثن القذائف بقوة النمر ’ ليقذف به الى احدى السيارات العائدة الى .. هناك ’ الى مكونات ذاكرته الاولى ’
التي لايستطيع ان يعيش بدونها .اما هو فيقرر اللجوء الى احدى النزل في الطريق لانه بحاجة الى مكان " يجعله يلملم ما تمزق منه خلال الاشهر الثلاثة الفائته .. اما فكرة الذهاب الى احدى مكاتب التنظيمات . فكانت تضربه اسفل قلبه ." وهكذا يأبى ولد النار ان يلقى به خارج بيته واشيائه " بمساومة رخيصة وتافهة " . ولم يبق بعد ذلك سوى النزل البعيد ’ وخبر موت اخيه في احداث بيروت ’ وجعبة زرقاء تصل من تلك المدينة ’ التي انفجر تحت وسادتها البارود ’ بموجودات بسيطة كبكرة الخيوط والابرة ودفتر كتب في احدى صفحاته " كان هناك الى الابد ".

حيث تعود الذاكرة الى المدينة الغارقة في روح سالم .. الى الغاضرية " المستقر الاكيد لاحدى اكثر الجماعات حضورا في الاحتجاج والسخط ومواصلة حلم العدالة ". فاين سيجد سالم مكاناً عادلاً بعد كل هذا السخط والاحتجاج ؟ وهل سيعود يوما للبحث عن حبل سرته الذي ضيعته الجدة في دروب المدينة .. هناك ؟ لقد فجّر محي الاشيقر في حقول نصه الروائي ’ لغةً مطعمة ببراعم اليومي الحيّة . حيث تقترب الكثير من عباراته من القول الشفاهي العفوي والمباشر بصراحته الصادمة لتقاليد النص الكتابي الذي يحرم – في كثير من
الاحيان – تسمية الاشياء باسماءها الحقيقية المفعمة بطراوة الفعل وتأثيراته المباشرة .فقد كانت محاولة ارغام صاحب " او رية " على مضاجعة المراة العارية في البستان ومارافق ذلك من اصوات وصراخ زمرة ابن الحجي المتوحشين . ومشهد زوجعة ضابط الامن العارية ايضاً وهي تظهر في شرفة البيت مع عدة زينتها وقلب زوجها وماتقوم به من حركات جسدية فاضحة وماتطلقه من عبارات بذيئة . كانت من المشاهد التي اضفت على اجواء الرواية نكهة غرائبية اقحمت سياقات السرد بخيال مسرحي بارع شجعت عليه لغة تتدفق من القلب .. لغة تشبه رمانة الياقوت التي لا تقبل فسادا يلامس .. قشرتها .

الكتاب : كان هناك
المؤلف: محي الاشيقر
الناشر: قوس للطباعة والكتاب / كوبنهاغن1997








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. باريس سان جرمان يأمل بتخطي دورتموند ومبابي يحلم بـ-وداع- مثا


.. غزة.. حركة حماس توافق على مقترح مصري قطري لوقف إطلاق النار




.. لوموند: -الأصوات المتضامنة مع غزة مكممة في مصر- • فرانس 24 /


.. الجيش الإسرائيلي يدعو إلى إخلاء -فوري- لأحياء شرق رفح.. ما ر




.. فرنسا - الصين: ما الذي تنتظره باريس من شي جينبينغ؟