الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما دامت مصر ولاّدة

صبحي حديدي

2006 / 3 / 14
الادب والفن


مصر هذه، "أمّ الدنيا" بحقّ كما يحلو لأشقائنا المصريين أن يردّدوا، لا يلوح انها ستتوقف في أيّ يوم عن فتح باطنها العامر العريق الولاّد، لإهداء أبنائها المزيد من كنوز الذاكرة. ومؤخراً، وخلال أسابيع معدودات، أُضيفت الوقائع التالية إلى سفر العطاء الزاخر هذا:
ـ اكتشفت بعثة جامعة ممفيس الأمريكية خبيئة جديدة لمومياوات فرعونية على بعد خمسة امتار من مقبرة الملك توت عنخ آمون، في وادي الملوك بالأقصر. وقال د. زاهي حواس، الرجل الذي يزهو وجهه ويطفح بشراً كلما زفّ إلى الإنسانية بشرى جديدة كهذه، إنّ هذا الكشف هو الأوّل من نوعه بعد 84 عاماً أعقبت اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، وهذه هي الخبيئة الثانية في وادي الملوك بعد خبيئة أمنحتب الثاني عام 1898، والخبيئة الرابعة في الأقصر بعد خبيئتَي الدير البحري وكهنة آمون.
ـ د. حواس ذاته بشّرنا بالعثور على المومياء الأقدم عهداً في سلسلة المومياءات التي تؤكد وجود عمليات تحنيط فرعونية مبكّرة تماماً، تعود إلى الأسرة الأولى (3200 قبل الميلاد). وأوضح حواس البديعة التي ظهرت عليها المومياء: "مثل هيكل عظمي ملفوف بالكتان، دُفن على شاكلة الجنين في بطن أمه".
ـ البعثة الفرنسية عثرت من جانبها على مقبرة"رع حاتي"، كاتب كنوز المعبد الآتوني في مدينة منف، والتي ترجع إلى القرن الرابع عشر ق. م.، في عصر الملك أخناتون والأسرة الثامنة عشرة. أهمية هذا الاكتشاف أنه من الحالات القليلة التي أتاحت العثور على مقبرة ترجع لعصر العمارنة في سقارة، وتمثّل في الآن ذاته الأسلوب الفني الذي ميّز عهد أخناتون.
هذه كشوفات تاريخية ـ آثارية بالطبع، ولكنّ تثمينها وطنياً (في مصر أوّلاً بالطبع، ثمّ في أيّ مهد لأية حضارة متوسطية ثانياً) أمر واجب حيوي يتجاوز الأركيولوجيا إلى الثقافة، ثمّ إلى السياسة كذلك... لكي لا نقول: السياسة بامتياز! وثمة مثال فريد بالغ المغزى، جرى في فرنسا سنة 1997، حين حرص الرئيس الفرنسي جاك شيراك أن يدشّن بنفسه الجناح المصري في متحف اللوفر، بعد إعادة تصميمه وتوسيعه وكشف النقاب عن وجود قطع نفيسة جديدة أضيفت إلى المخزون النفيس القديم. لكنّ التجديد لم يكن دون مناسبة، بل الأحرى القول إنه تمّ في مناسبة قد يصحّ اعتبارها أمّ المناسبات في العلاقات التاريخية بين البلدين: الاحتفالات الفرنسية ـ المصرية (المشتركة!) بالذكرى المئوية الثانية لوصول أساطيل نابليون بونابرت إلى الشواطىء المصرية. وإذا كانت الأوساط الثقافية الرسمية في البلدين قد اختارت لتلك الاحتفالات تسمية مهذّبة مبتكرة هي «آفاق مشتركة»، فإن تبييض الفصل المصري من كتاب الكولونيالية الفرنسية انطوى بالضرورة على درجة ما من الشجار بمفعول رجعي حول أمرين: ملكية الأوابد: هل هي ملك البلد الأصلي (وحقّ متاحفه الوطنية)، أم ملك الإنسانية جمعاء (وحقّ مشروع لـ "اللوفر"، سواء تحقق جرّاء استعمار أو سواه)؛ وأسرار الأوابد: مَن يحتكرها، ولماذا؟
والحال أنه ما من شجارات معاصرة في ميدان الأركيولوجيا أشدّ ضراوة من تلك التي تدور حول حضارات وادي النيل، وبلاد الرافدين، والساحل السوري، وفلسطين الكنعانية. وليس في وسع المرء أن يعثر بسهولة على أيّ نوع من الإجماع المتقدّم حول هذه المئوية أو تلك من عمر الإنسانية في تلك الأحقاب، فكيف بأعمار حضارات بأسرها. ولا يمرّ شهر دون أن يصدر كتاب جديد يأخذ هيئة القنبلة، لأنه ببساطة يضعف أو حتى ينسف ثوابتتاريخية راسخة كالجبال الرواسي، لسبب جوهريّ أوّل هو أنه لا بدّ أن يتقاطع مع أكاذيب (قبل حقائق) أرشيف «تاريخي» فريد من نوعه هو التوراة.
وثمة، في المقابل، خيار آخر أشدّ إثارة للعجب من نشوب الشجارات بمفعول رجعي، هو تعليق كلّ وأيّ شجار، أو تجميده، أو تأجيل النظر فيه إلى أجل غير مسمّى. المثال الأبرز هو ما جرى، أو بالأحرى ما لم يجرِ حتى اليوم، بصدد مدينة إيبلا التاريخية السورية، الواقعة في تل مرديخ جنوب مدينة حلب. ففي عام 1974 تمّ العثور على أولى النماذج من 1400 مخطوط على هيئة رُقَم فخارية، مكتوبة بلغة مسمارية قريبة من السومرية القديمة، تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وتبرهن على وجود حضارة سورية قديمة كانت تنافس مصر وسومر وبابل. الألواح هذه هي المكتبة الملكية لتلك الحضارة، لكنها ظلّت دون ترجمة شاملة (أي دون قراءة، عملياً) حتى يومنا هذا، بذريعة أنّ أبجدية اللغة الإيبلائية معقدة وغير معروفة لدى الباحثين تارة، أو أنها تحتاج إلى وقت طويل (أكثر من 32 سنة!) طوراً. أمّا حقيقة الأمر فهي أنّ هذه الألواح قد تنسف الكثير من التاريخ العبراني كما تزعم التوراة تدوينه، خصوصاً في سورية، ومن الخير أن تبقى طيّ المجهول.
وفي العودة إلى مصر، هذه التي تظلّ أمّ الدنيا ما دامت "ولاّدة/ وفيها الطلق والعادة" كما يقول أحمد فؤاد نجم، أذكر شخصياً أنني ـ قبل أسابيع قليلة فقط، وبلسان الروائي المصري صنع الله ابراهيم أثناء ندوة أدبية هنا في باريس ـ اكتشفت حقيقة بسيطة لعلّنا كلّنا نعرفها على سبيل البداهة، ولا ننتبه إلى دلالتها العميقة: أنّ جمال عبد الناصر كان أوّل مصري يحكم مصر... منذ زمن الفراعنة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نقيب المهن التمثيلية يكشف حقيقة شائعة وفاة الفنان حمدى حافظ


.. باراك أوباما يمسك بيد جو بايدن ويقوده خارج المسرح




.. حوار من المسافة صفر | المسرحية والأكاديمية عليّة الخاليدي |


.. قصيدة الشاعر العقيد مشعل الحارثي أمام ولي العهد السعودي في ح




.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟