الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة متوخرة(*) للردود على رسالة العزاء

علي ديوب

2006 / 3 / 14
الصحافة والاعلام


لم تواز المفاجاة المثيرة التي أصابتني بها قراءة الردود على رسالة العزاء التي قدمها احدى عشر مثقفا سوريا لغسان تويني، إلا تلك التي خلفتها في هوجة الغوغاء على السفارات الغربية، سواء في بلدي سورية، أو في لبنان- نبراسنا العربي في الحرية- كما في( ديار ) الإسلام الأخرى، بنوع من إعلان الحرب على الغرب الكافر، لأنه يرسم النبي العربي، و على البعض من الشرق الذين شاركوا بالجريمة لأنهم أعادوا نشر الرسوم، و لو بغاية إخبارية صرفة.
أيقنت متأخرا، بهذه التجربة، أننا لن نذوق طعم الحرية ما لم نحقق ثورة في اللغة، تحل فينا ذهنية جديدة، تغير المفاهيم و الدلالات و أنماط التواصل؛ على أرضية وضع العقائد في خدمة الإنسان، لا إبقاء الإنسان في خدمة العقائد.. الأمر الذي يتركنا نتقبل أشد الأوضاع شذوذا و ظلما و تخلفا و إذلالا و فقرا؛ و لكن لا نفوت هفوة صدرت عن الآخر بشأن عقيدتنا، و لو على سبيل الدعابة. نسمي الهفوة هجوما مقدسا. فنعلن عليه الجهاد المقدس، و نعد له من رباط الخيل..
تأخرت بقراءتي هذه لانه ليست لكلماتي قوة الكراهية التي طفحت بها الردود. و لأنها لا تجر حديدها بغلواء الحقد، و لا هي مدفوعة بحشوة متفجرة من ثقافة الترهيب و الطغيان.. هي نظرة تأمل في تراكيب لغوية، يعلن أصحابها رغبتهم، و نيتهم أحيانا بتحويلها إلى تراكيب كيميائية عالية السمية تأتيهم بآجال أولئك الموقعين على رسالة العزاء!
و المريع أن بعض التعليقات فسرت حجم الشره للفتك، الذي يعتمل في داخل قائليها، و الذي- بنوع من التماهي مع القاهر المتسلط- بدا نوعا من لوم السلطة/ النفس لأنها تصبر عن محو أولئك الأعداء.. بل إن أحد الملكيين أكثر من الملك يقول إذا النظام رحمكم نحنا رح نكنسكم!!!!
و السؤال الذي لا مفر من التعامل معه- بجرأة أو بذعر- كما لو كان متفجرة تتوسطك و أسرتك من حولك، هو: هل تعطي هذه التعليقات صورة صادقة لأطياف السوريين- جمهور الانترنيت في الأقل؟ و هو ما يجرنا- إذا كان الجواب بالإيجاب- إلى أن نعيد النظر بقراءتنا لمجتمعنا، و تاليا لاتخاذ المواقفهم الثقافية و السياسية على ضوء القراءة الجديدة.
و لكن ألا تشي القراءة الأولية للردود بغير هذا؟
لنحاول، ولنحذر الأوهام، تحت إلحاح نزعة التفاؤل الخداعة، و الانقياد للآمال المفرطة في الطيبة؛ مع أن الروح لتأنس أزاء تعليق كالذي حمل توقيع عابر سبيل، و يقول: " (..)حتى في التعزية تتدخلون؟ شو هالوقاحة! اعملوا على أمن المواطن السوري و لقمة عيشه بدل مراقبة الصحف و التزوير من أجل أمن أسيادكم فأنتم مكشوفون ولا تمثلون رأي المواطن السوري(..)".
و إذا كان الموقع بمواطن فخور يطمئن نفسه بأن " هؤلاء مخلرّد ( مجرد)خونة و هم ليسوا بسوريين!" فمن لنا بمن يطمئنا أن نسبة أمثاله بين السوريين ليست مخيفة؟
مجموعة... أم مجتمع؟
ثمة تشابه اسلوبي بين الموقعين باسمي جحجاح النوفل و كازانوفا، من خلال الجملة المفتاحية التي صيغت سؤالا: "ألم يتأخر هؤلاء المثقفون السوريون بتعزية أكثر من 35 عامل سوري قتلوا"، و الجملة الثانية بالسؤال الاستدراكي الذي استأنفه الموقع كازانوفا، و هو: " ولكن هلاّ اطلعتمونا على نص برقيتكم الى السيد حسن نصر الله عندما استشهد ولده هادي برصاص الصهاينة؟".
و كذلك خاتمة التعليق الأول: " لن تكونوا آخر الخونة سيأتي بعدكم آخرون لكننا بانتظارهم . التوقيع 18 مليون سوري باتثنائكم". و الموقع خلدون ب" الموت لكم ياخونة..". مع خاتمة التعليق الثاني: " لا تجوز على الميت الا الرحمة فليرحم الله ضمائركم.......". أو ذالك الذي تشابه عنوان تعليقه الا لعنة الله على كل غبي مع الجملة الوحيدة عند المدعو سوري، و تقول " الا لعنت الله عليكم " و مع الجملة الرئيسية " لعنة الله عليكم"، عند المدعو مواطن ابو يحيى.. كما تتشابه كليا الجملة الوحيدة للمدعو حمصي سوري و بس(!) و هي " بامكانكم اللحاق "بالمغدور" ان اردتم" ، مع تعليق السوري المغترب المقهور " نعزي بكم انشا الله عما قريب ياحق.."، أو تعليق المغترب " الله يلحق الحبل بالدلو.. ".
اما د.حسام فلم يسمع الا باسمين من الموقعين، و يدعو "الله يحميك يا سوريا من غدر من يدعون أنهم أبناءك ..".
هل أكون صادقا مع نفسي ان ملت باستخلاص يريحني إلى تصور أن الكثير من التعليقات المخيفة تلك تحمل لمسات مكاتب عناصر المراقبة و المعاقبة- بحسب فوكو- في دوائر المخابرات السورية، بدلا من الاكتشاف الرهيب بأني لست أمام أشخاص عنصريين، بل في لجة شعب عنصري؛ و هو أمر سيكون مكلفا، و ينطوي على معنى فجائعي، يتطلب منا التبصر فيما إذا صار حال المواطن السوري- على ما في التعميم من خفة- حال بطل رواية جورج أورويل الشهيرة( عين السلطة/ 1984)، الذي انتهى، آخر الرواية، إلى عاشق حقيقي للطاغية الذي سلبه ذاته و معناه، بطريقة شاملة و بطيئة؟
فليس جديدا ان السلطة في بلدي تسخر كل الطاقات و أحدث المبتكرات لحماية نفسها، و من جملة ذلك تزويد جهاز مخابراتها بالعناصر و التقنيات الحديثة- لتؤمن مستوى عاليا و معقدا من التضليل، يوفر لها الديمومة.
و لكن مما لا بد من الاشارة اليه أن ثمة تعصبا أعمى ينظم معظم التعليقات، كما خيط السبحة؛ بل إن أحدهم صرح بتعصبه الجاهلي، و لم يترك مجالا لاستدلال، حين ردد مع الشاعر: و ما أنا إلا من غزية إن غوت غويت.. و الطريف أنه توقف هنا، و لم يسمح له عقله الباطن أن يكمل الجزء الإيجابي من البيت: و إن ترشد غزية أرشد.. معاذ الله أن يبلغ حتى ثقافة جدته القبيلة!
و عليه يكون من الطبيعي ان تقف عقول اصحاب التعليقات خارج محنة الاستبداد الذي يحياه الشعب السوري- حياة يومية- و على مدى عقود، شاركه قسما منها جاره اللبناني، فلا يلتفت الى تركاتها التدميرية؛ بينما تصيب منه رسالة عزاء وجدانية مقتلا، يدفعه لاعلان الحرب!
في التقرير الى غريكو- لكازانتاكي- تسخر إحداهن، في حوار مع الكاتب، من معاني المحبة و التسامح، بالقول: " كان المسيح حملا فعلا، و قد ذبحوه على العشب الأخضر في عيد الفصح اما هو فقد ثغى مستسلما دون مقاومة. يهوه هو ربي- يهوه القاسي الفظ المتلفع بجلود الوحوش التي قتلها كهمجي خارج من أدغاله و من حزامه تتدلى بلطة. و بهذه البلطة يفتح قلبي و يدخل.".
و السؤال المعذب: هل غدت قلوبنا ملكا و مرتعا ليهوه؟
و مع هذا فإنك لا تعدم وجود استثناءات طيبة، تهرع للوقوف قربها وقوف مريض الربو الى نافذة مفتوحة في مكان مغلق، فاسد الهواء. و من هذه- إضافة للنذر اليسير سالف الذكر- ما حملت عنوانا مباشرا يعكس توازنا و صدقا مع النفس" تعزية من القلب للسيد غسان تويني"، أو تميز بالتصدي المباشر " الى المعلقين الحاقدين "، أو تعليق " ابو سامر" عن ضرورة قبول الراي الاخر ممارسة و ليس شعارا..الخ.
عشرات التعليقات على مادة في موقع انترنيت محلي( شام بريس)، و في غضون ثلاثة ايام فقط، أليس رقما كبيرا تحلم به كبريات الصحف العربية؛ و أين؟ في بلد يعاني إعلامه( المحتكر من قبل النظام) قطيعة شبه تامة مع شرائح الشعب كافة، بمن فيهم أزلامه أنفسهم، الذين لا يخفون شكواهم من الإعلام المحلي- كما لو كانوا أرادوه على غير ما تجلى، فخيب أملهم حقا!! لهذا تخلو كافة أعداد الجريدة التي أعمل فيها( الثورة) من أي تعليق على أية مادة منشورة، بدءا من الافتتاحيات و حتى زوايا الرأي(؟)، مرورا بالكتابات السياسية و التحقيقات المحلية، و .. الخ. و هذا لا يعني افتقارها كليا لمواد ذات مهنية عالية، منها ما يثير و يستحق النقاش.
هذه القطيعة التي يعيشها الشعب السوري مع الإعلام الرسمي- بوصفه يطابق خطاب السلطة- هي حالة قديمة، يتداولها الناس كبديهة؛ فإذا كان الأمر طبيعيا، و غير داخل في دائرة الإعداد المسبق، أن نجد هذا الكم الكبير من التعليقات التي تحمل خطاب السلطة، و بما يسبق بخطوات حصان الإعلام الرسمي؛ فهل يكون مفهوما خلو مواد الصحف المنشورة على الشبكة من هذه الأصوات الوطنية الغيورة؟! و كيف فاتت مثل هذه اللعبة البسيطة تقنيي مكاتب الملكية الحصرية لصناعة الرأي!!!
من أين إذن انبثق هذا التفاعل المعلوماتي الانترنيتي- قراءة و تعليقا- عند شعب يثابر بلده على احتلال المرتبة الأخيرة، أو ما قاربها، في قوائم التقييمات الحضارية إجمالا، و على رأسها الانترنيت، في ظل نعمة الحجب الثوري للمعلومة؛ هذا عداك عن ارتفاع كلفة هذه الحثالة الموزعة بمقادير محددة، مثل وجبات السجناء- فأي حصار أدهى من هذا؟ و على أي جانبيك تميل؟!
قرون ... و قرون
قد لا يعرف أشد الغوغائيين هيجانا- و لا يريد أن يعرف، حفاظا على ارتفاع مستوى المعنويات المشحونة- أنه يرجم المسيح، إلا بعد قرون، ليتحول من قاتل إلى مؤله( جماعات الندب و جلد الذات على المسيح)!
لا أوازي المثقفين المعزين بالمسيح، و لا أعادل جبران تويني شهيد الصحافة( مهنتي) بقديس المذابح.. فتواتر الشهداء في لبنان جعلهم عاديين، لا يختلفون عنا.. كأن استشهادهم نوع آخر من العمل لا أكثر.. و نستطيع بإلفة أن ننظر في أوجههم، كما نشيح عنهم بنفس السهولة، من غير أن يزلزل الخشوع أوصالنا.
و أنا لا أتعشم بأن يكون الراجمون الغير على مستوى من النضج، لتقدير المعلم الكبير غسان تويني حق قدره.. فيسهل عليهم تمثل عبارة من مثل" نحن أبناؤك السوريين"- حتى لو كانوا من محترفي أحدث و سائل العصر، الانترنيت. و لا أمني نفسي، من أسف، بأن يعملوا عقولهم في استبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيما يخص الضحايا من العمال السوريين، الذين قتلتهم وزارة العمل للمرة الثالثة بإخضاع قضيتهم لعملية ابتزاز، بدلا من تقديم الحلول الكفيلة بقلب المعادلة التاريخية: لبنان سوق عمل السوريين- و هذه عملية القتل الأولى- في حين لا يقيم في سورية من اللبنانيين عدا المساجين!
(*) كلمة منحوتة من اثنتين: متأخرة و متوخية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يهدد بإيقاف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل ما تبعات هذه الخ


.. أسو تتحدى فهد في معرفة كلمة -غايتو- ????




.. مقتل أكثر من 100 شخص.. برازيليون تحت صدمة قوة الفيضانات


.. -لعنة الهجرة-.. مهاجرون عائدون إلى كوت ديفوار بين الخيبة وال




.. تحديات بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية في تشاد.. هل تتجدد