الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمزية الحداثة وما بعد الحداثة في رواية- السقشخي - لعلي لفته سعيد

مؤيد عليوي

2018 / 4 / 29
الادب والفن


كتبَ الروائيُّ عليُّ لفته سعيد روايته " السقشخي "بألمٍ أو فنٍ.. إذ الفنُ لعبُ لكنَّهُ لعبٌ مؤلم - كلمة لناقد أوربي- هذا الألمُ والقلقُ بين الحداثة وأخلاقياتها البنيوية الاجتماعية، المواجهةُ لما بعد الحداثة وانحرافاتها على الشخصية العراقية منذ الحروب والحصار وما بعده من تغيير سياسي، هذه المواجهةُ الثقافية والفكرية بقلق وألم حملها بطل الرواية معلم التربية الفنيّة ماجد في سوق الشيوخ أبان الحصار ثم في أمريكا بعد هروبه لها، عَبْرَ أزمنةٍ متباينةٍ داخل بنية المتن الروائي المنقول بحرفيّة كتابة الرواية العالمية عن الواقع العراقي والعالمي، وبلغةٍ ثرّةٍ ممتدّةٍ على امتداد مساحة المتن محققة البلاغة في الإيصال والفصاحة فيما يراد الإفصاح به بلاغياً باستعمال فنون الاستعارة بأنواعها أو الكناية أحيانا أخرى مع استعمال المفردة المشعة بالمعنى من خلال أدائها وظيفة دلالية مكتنزة في السياق بما يريد المُؤلّف.. ثم أن رواية " السقشخي " تنتمي إلى الواقعية السحرية، من جهة إرتكان الفن إلى إحداث واقعية، وكذلك في بناء المتن الذي يشبه حلقات متداخلة لتكوّن سلسلة متصلة لحركة الشخصيات المخلوقة بإتقان متفرد وفي أحداث متوالية ومواقف يتغير المكان فيها، إلا أن قلق الحداثة وما بعد الحداثة الذي يكون ملازماً لزمان رواية علي لفته سعيد بصورة عامة وليس في هذه الرواية حسب ،هو ما يجعل المتن الروائي في " السقشخي " رواية عالمية فيها بصمة متفردة تمثل زمان كتابتها وكذلك بنيوية الإرث الحضاري الروحي للعراق، الذي حمله البطل معه إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
أما سرد الحداثة فهو عموماً يحمل سماته من وجود مركز(المعلم والمدرسة ،والأب أو الأم في العائلة ،...)،وسرد ما بعد الحداثة هو أيضا يحمل سماتها الفكرية وهي النقيض من سمات الحداثة في غياب المركز الحداثة وصعود الهامش الاجتماعي فوق متنه ، وإخراج السرد من الكتابية النصية إلى شفاهية مخاطبة عقل المتلقي القارئ، هو مكتوب أيضاً لكن بتوجيه الخطاب السردي مباشرة إلى العقل لغاية تفكيكية كما أرادها جاك دريدا.. وقد يكون أيّ نصّ لما بعد الحداثة في فترةٍ قديمةٍ قبل ظهور مفهومها على سطح الفكر الإنساني، كما من الممكن أن نقرأ اليوم نصاً حداثوياً والعالم يعيش في خضم ما بعد الحداثة، ومحاولات رجوع الحداثة بمفهوم جديد " بعد ما بعد الحداثة " والكلام في المصطلحات الثلاث للباحثة والمترجمة أماني أبو رحمة.
بعد هذا التوضيح عن الحداثة وأخلاقيتها وما بعد الحداثة ومفاهيمها ، نرى من زاويةٍ نقديةٍ أن شخصية ماجد معلّم التربية الفنية في قضاء سوق الشيوخ بالناصرية كانت تمثل شخصية بنيوية لتمثّل سمات الحداثة، بوصفه بنية فوقية في مجتمع الرواية السردي، فالحداثة تقدّم العلم والمدرسة وترفعهما إلى بنيةٍ فوقيةٍ مهمةٍ تحمل أخلاقيات المعلّم الفاضل وهي أخلاقياتها.. وقد فعل الحصار وحكومة الدكتاتور، فعلهما في محاولة الحط من هذا الرمز الحداثوي ، حيث ذهب للعمل في المقهى عاملاً من أجل تأمين لقمة عيشه ،الحداثة تضع المعلم في المدرسة وترفع من شأنه كما تقدر العامل في محل عمله ولا تسمح بخلط هذه الأمور في واقع فكرها أو واقعها السردي ، لكن سرد ما بعد الحادثة يهزّ هذه القيم ويعيد ترتيبها،بصعود الهامش على متنها وبين هذا القلق والألم لشخصية ماجد التي رسمها بإتقان الروائي علي لفته سعيد، ظلّ ماجد حداثوياً منتمياً إلى سوق الشيوخ وبنيتها الأخلاقية البنيوية، ولم ينسَ يوماً انه ذلك الفاضل صاحب الرسالة أبن بلاد مابين النهرين حتى بعد عودته من أمريكا في نهاية الرواية، على الرغم من أنه تعرض إلى صعود الهامش على كتفه في فترة الحصار، من ولي أمر أحد التلاميذ صاحب المحل الجاهل قرب المقهى التي كان يعمل فيها بعد دوام مدرسته، وأهانت الهامش له وكتابته تقريراً سرياً إلى مديرية أمن الناصرية عليه حيث تم اعتقاله ثم هروبه من العراق فيما بعد، وهنا كان سير الإحداث لصالح أفكار ما بعد الحداثة في النصّ الروائي.. فانهيار رمز المجتمع الحداثوي المعلّم وهروبه خارج العراق حتما يفضي إلى انتصار الهامش الجاهل وتمهيد المجتمع لما بعد سقوط الدكتاتور داخل العراق الذي تركه ماجد، وفي خارج العراق وداخل أمريكا كان انهيار أبراج التجارة العالمية يرمز إلى انهيار الحداثة في أمريكا والعالم، وبدء مرحلة ما بعد الحداثة بقيادة أمريكا هذه المرة - بعدما كانت الحداثة بقيادة أوربا- وقد عملت قيم ومفاهيم ما بعد الحادثة بكل ماكينتها الاقتصادية والعسكرية على نشر مفاهيمها ومنها الفوضى الخلاقة التي تعمل على تفكيك المجتمعات وأخلاقياتها وسلخ الهويات الدينية الروحيّة الحقة وأبدالها بأخرى زائفة بلا أي أخلاق،وانتزاع الهوية الوطنية من الشعوب، وانتماء الفرد للأرض كونها الأم وإبدالها بأخرى براغماتية انتهازية، وهذا من صميم الصراع الثقافي والفكري التي ترتكز عليه مفاهيم التفكيك هذه، وبعد سقوط الدكتاتور يعود ماجد للناصرية وسوق الشيوخ ليجد صعود الهامش بشكلٍ أكبر من ذي قبل، وهذه المرّة بذريعة المقدس، نتيجة فعل النظام السابق في تخريب التعليم والمجتمع بحروبه ،والحصار الذي فرضته أمريكا من الخارج والدكتاتور من الداخل، وثمة رمزية أخرى تشير إلى توافق ما كان يقوم به النظام الدكتاتوري في العراق قبل 2003 ، مع ما تقوم به أمريكا قبل تغييره بذريعة الديمقراطية، وهو تشابه أسلوب التعذيب في سجون الدكتاتور مع أسلوب التعذيب في المعتقلات الأمريكية، وقد دخلهما ماجد المعلّم بتهمٍ لم يقم بها أو ينتمي لها، وفي الحالتين يكون الهامش هو السبب.. إذ في أمريكا لا ينجيه سوى حداثته البنيوية الراسخة في شخصيته العراقية، واعتداده ببلاده مِن أنها أوّل مهد للكتابة والحضارة البشرية، وان العراق مهد النبي إبراهيم وهذا متنٌ قويٌّ جدا لا يستطيع أي هامشٍ الصعود فوقه، مواجهاً به ما بعد الحداثة العالمية بقيادة الأمريكية في عقر دارها، وهي لا تملك عمقاً حضارياً أصيلاً مثله. فمن الناحية التاريخية الحضارية تعد أمريكا هامشاً عالميا إذا ما قورنت بتاريخ الحضارات البشرية ومنها حضارة وادي الرافدين.. وهذا ما أصعق المحقّقين الأمريكان فكرياً وبذكاء بطل الراوية ماجد وخبرته في تعامل مع محقّقي النظام الدكتاتوري، ينتصر بخروجه من السجن الأمريكي.. كما خرج منتصراً من سجن مديرية الأمن العامة بالناصرية مع اختلاف الحوار والقضايا التي سجن بسببها، وفي هذه النقطة بين سجون الدكتاتور وسجون أمريكا يتلاعب الروائي علي لفته سعيد بذهنية المتلقّي تلاعباً مبهراً.. حيث يظن المتلقّي في لحظةٍ ما من القراءة من أن ماجد المعلّم مازال يتذكّر سجنه في العراق، وأنه المكان الذي حمله في داخله خوفاً وهرب بسببه من الوطن، بينما يكتشف المتلقّي أن عملية التعذيب من الواقع السردي للرواية لكن هذه المرّة في معتقلات أمريكا، محدثاً بهذا رمزيةً قويةً بين أهداف الدكتاتور وأهداف أمريكا في هدم بنيوية المجتمع وتفكيكها وتهميد العراق لمرحلة ما بعد سقوط الدكتاتور، من صعود الهامش أكثر فأكثر في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وخصوصا القرار السياسي الذي يتحكّم بكلّ هذه الأمور، وعندما يعود ماجد المعلّم إلى سوق الشيوخ بعد تغيير النظام الدكتاتوري ويلتقي في أحد المقاهي ببعض الأشخاص نرى محاولة صعود هامشٍ جديدٍ إلى سطح الحدث لكن هذه المرّة عن طريق المقدّس.. هذا الهامش الجاهل الذي يحاول جاهداً إضفاء القدسية على نفسه بغير وجه حقٍّ من دينٍ أو بشريةٍ، يصطدم بماجد المعلّم الذي يفضح ألاعيبه وجهله، فيلجأ الجاهل إلى اتهامه بأنه من أزلام النظام السابق، حتى يضحك منه ماجد وجلّاس المقهى من أهل سوق الشيوخ، فيقول المعلّم أنني أنا الذي كنتُ في سجون مديرية الأمن العامة بالناصرية وغادرت العراق هرباً من ظلم أمثالك من الجهلة .
من جهةٍ ثانية في هذه الرمزية للحداثة وثقافتها كانت شخصية ماجد المعّلم شاطئ أمان من العاطفة والصدق مع زينب اللبنانية الأصل الأمريكية الجنسية، التي ولدت في أميركا وهربتْ مِن تصاعد ثقافة ما بعد الحداثة التي تهمش الالتزام العاطفي.. فتعرضتْ لأزمةٍ عاطفية، وجاءتْ لبنان تبحث عن نفسها في بلدها الأمّ حيث التقتْ ماجداً وتزوجا ثم عادت به إلى أمريكا.
ولو نظرنا إلى بناء الرواية في عدد الصفحات لوجدنا " الأثر " أكثر الفصول عدداً حيث يبلغ ( 36 صفحة) وجلّ أحداثه ومواقفه في العراق حتى يتبين أن اليهود جاءوا سوق الشيوخ بالمصفحات الأميركية ضباطاً وجنوداً أمريكان ليصلوا إلى المعبد اليهودي المتروك فيها ويأخذوا ما دفن فيها من أوراقٍ وكتبٍ وأثارٍ تثبتْ وجودهم من زمانٍ بعيدٍ في الناصرية، ليكون هذا الفصل الأثر جواباً على فصل أقل منه في عدد الصفحات وهو " الوضوح الغائب " وهو فصل أغلبه يدور في أميركا بين زينب وماجد وعدم وضوح حقيقية ما يدور في العراق بعد 2003 ، في هذا البناء من الرواية وخصوصا فصلها الأخير " الأثر " هو بمثابة ملخّص للرواية وكشفٌ يسبر غور الطلاسم التي تحيط بالمواطن العراقي في عملية تفكيك مجتمعه والمجتمعات المجاورة في المنطقة برمتها، وأن أحداث الفوضى فيها لصالح إسرائيل واليهود في العالم، وهذه أحدى الرسائل التي توجهها الرواية إلى المتلقي، والرسالة الثانية أن الجهل هو أساس خراب كل الأوطان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل