الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منعطف الرشيد رواية عالم صاخب بالحياة لقاع مدينة اسمها بغداد.

عامر حميو

2018 / 5 / 1
الادب والفن


رصد قاع المدن، حيث الغرف الرطبة، تلك التي تفوح منها رائحة العطونة، وتمتلأ أحاديث من يسكنها بكل أنواع الشتائم المقذعة، والكلمات البذيئة، وقاموس العلاقات بين أفرادها يسير على وفق قانون الغاب، مثل هذه المهمة على الروائي ليست بالأمر الهين، لأنه سيكون بمقتضاها قد تلبس لسان حال تلك الشخوص وصار منهم، وبالتالي فهو تخلى عن كل مصطلحات الثقافة والجمال التي يزخر بها فكره حسب ينابيع قراءاته الأولى التي تشكلت منها ثقافته المطمورة بين تلافيف ذاكرته. وهذا هو ما جرى للروائي إميل زولا عند كتابته لرواية (الحانة) التي رصد فيها قاع المجتمع الباريسي، ومثله فعل الروائي مكسيم غوركي في مسرحية(الحضيض) عندما رصد قاع المجتمع الروسي، ورواية (منعطف الرشيد) للروائي العراقي رياض المولى الصادرة بطبعتها الأولى عن دار ومكتبة عدنان/2016 لا تخرج عن العالم الذي حددناه لزولا وغوركي، فالمولى ومنذ الصفحة الأولى يسحب قارئه من عالمه (أي كان) وهو لا يخفي عليه أين سيأخذه (بين الساحة ورأس الجسر يمتد شارع طويل ومتعرج توزعت على جانبيه مئات من المحلات المتنوعة والغرف القديمة ص11)ولا شعوريا فإن عدد المحلات(مئات) وكونها(متنوعة) سيحيلنا لتنوع الحياة وكثرة قصصها في ذلك الشارع، بينما مفهوم الغرف (القديمة) سيحيلنا لرتابة الحياة وقدمها، ومثل هذه المفاهيم تجد صداها بعد أسطر قليلة بوصف أكثر وضوحا(ضحكات مجلجلة انعكست بين صفحاته، آثار أقدام وطأته حتى لم يتبق شبر واحد منه لم تطأه قدم أو تربض عليه عجيزة!ص11).
ولكي لا يفاجئ القارئ فأن المولى يهيئ له أن يصطحبه بجولة تبتدئ من بداية شارع الرشيد سائرا فيه بهدوء ليصف له ما يبدو واضحا على جانبيه، ومرتفعا بأنظاره حيث واجهات الشناشيل تزين بيوته القديمة، ليتوقف به فجأة عند باب فندق السعادة، ومبتدئا بوصف المكان من القطعة التي تحمل اسمه مرورا ببابه الخشبي الصغير التي(لا تقل شئنا عن عراقة هذا الشارع ص12) ليرتقي بقارئه (سلم مهترئ اضمحلت زواياه الحادة حتى باتت متآكلة من فرط الاستخدام والرطوبة ص12) ويكون القارئ في النهاية مهيئأ لتقبل شخصيات القاع التي يبرع رياض المولى في الغوص بنقائضها البشرية:
1- شخصية الحاج حافظ: صاحب الفندق الذي (حرصا منه على الابقاء على التراث البغدادي فقد كان يعتمر جراوية ص14) لكن فعل الحصار يبان على الحاج حافظ من خلال وصف الجراوية تلك، إذ هي( بدت جرداء وخيوط من الأوساخ بانت على نسيجها المتهرئ ص14).والحاج شخصية ( قضى حياته بطولها وعرضها في مغامرات نسائية لا حدود لها ولم يهتم بحياته إلا بشيئين بطنه والنساء ص15).
2- شخصية وديع: ( صبي الفندق، ذلك الفتى الذي اطلق عليه الحاج صفة الغبي فأصبحت ملازمة له مثل ظله كونه بليد الذهن ثقيل الفهم، فاغرا فاه دائما ص17). تتقلب فيه الحياة مثل قشة في مهب الريح وتأسرنا الفصول التي تتابع سيرته على طول صفحات الرواية البالغة 412صفحة، ومن عظم تعاطف المتلقي معه فأنه يقارنه بما تعرضت له شخصية (يوهان مورتيز) من ظلم في رواية( الساعة الخامسة والعشرون) لجيورجيو فرجيل قسطنطين.
3- شخصية أستاذ رافع: (شيوعي قديم، يحمل افكار جدلية ديالكتيكية، ومفهوم اقتصادي بروليتاري، مدرس لمادة الاقتصاد في ثانوية العروبة، يضحك سرا في داخله وهو يرى لافتة المدرسة، عروبة..ص21) هذه الشخصية تتلقى ظلم الحياة لها مثل ما تلقتها شخصية وديع، لكن بسبب أفكاره السياسية ومعارضته للنظام.
4- شخصية الفلاح سلمان: (يخرج صباحا ويعود مساء، يغلق باب غرفته على نفسه ولا يختلط مع النزلاء الآخرين ص25) جاء بغداد ليغسل عاره من ابنته الهاربة مع حبيبها بعد أن أرادوا تزويجها من ابن عمها. وهنا يجب الاشادة بما انتهى له موقف الأب ( والذي لم أقرأ شبيها له في معالجة الروايات العراقية السابقة لموضوعة هروب البنت مع حبيبها) عندما يثور على حكم العشيرة ويصطف مع خيار ابنته، وفي طيّات الرواية سيجد القارئ كيف حصل هذا التغيير في موقف شخصية سلمان اتجاه خيار ابنته وحكم العشيرة وأبناء العم عليها.
5- شخصية جميل عرجة : (مشرد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، خبر الحياة الى حد الامتلاء، وعاشها طولا وعرضا، وارتشف قليلا من عسلها واكتوى كثيرا بلهيب نارها، قضى نصف عمره نائما على الارصفة، تائها بين أزقة المناطق، وجسده الناحل تربى على المزابل وطعامها الذي تكتنفه الحموضة والتفسخ ص28).
6- ثم تأتي الشخصيات المكملة لمشهد الحدث وهي كثيرة لكنها في غالبها تنتمي لذات القاع: جبار المطيرجي، وسعيد المصري صاحب محل الفلافل، وكامل صديق أستاذ رافع، سعدة ابنة سلمان، وستار عجينة ، وأحمد نعجة، وفواز بن الخبازة، وفاتن، وسالم كتر، وعصابة الأعضب...وشخوص اخرى تعج فيهم فصول الرواية ليتصارعوا في قاعهم على بساطة حياتهم، وجل همهم هو كيف يعيشوا لغدٍ، كما تصارع قبلهم شخوص رواية (النخلة والجيران) لغائب طعمة فرمان وفضاؤهم المكاني هو الخان.
وفي الوقت الذي نقرأ فيه رواية مثل (صيادون في شارع ضيق) لجبرا ابراهيم جبرا تستخدم الفندق البغدادي فضاء مكان يحكم تواجد مجموعة الشخوص فيها، تتعارض أفكارهم وتتشارك همومهم، فيهم المثقف وفيهم الاقطاعي ومن خلال نقاشاتهم وتعارض أفكارهم، ندرس البيئة العراقية بشكل عام وبيئة بغداد بشكل خاص، فإن رواية (منعطف الرشيد) تستخدم ذات المكان وفضاءه لتلقي الضوء على ما عاشه العراق بصورة عامة أبان فترة الحصار، ومجتمع بغداد بصورة خاصة من خلال متابعة شخوص الرواية، الذين لا يشغلهم الهم الفكري لزمنهم ومستقبل البلاد( عدا شخصيتين هما الأستاذ رافع وصديقه كامل) مثلما يشغل هذا الهم شخوص رواية جبرا ابراهيم جبرا، فرواية (منعطف الرشيد) تتابع شخصيات ضائعة ومسحوقة، انحرفت تحت ضغط الحاجة(الحصار الجائر) إلى هاوية الجريمة: تسليب وقتل وسرقة واغتصاب، لكنها شخوص واقعية يحس قارؤها بالحياة تنبض فيها، ويتلبسه شعور أنها تمارس حياتها أمامه على سجيتها، ومثل هذا الشعور الذي تخلفه فينا رواية رياض المولى لا يأتي من فراغ بل يتلبسنا نتيجة تعاطفنا مع بعض الشخوص وقرفنا من بعضها الآخر، لأن القارئ المتفحص للرواية سيدرك إن شخوصها قد انحدرت لانحرافها تحت ضغط الحاجة ولصعوبة الحياة التي تواجهها، أو كما عبّرت عنه الدكتورة نوال السعداوي من أن( الجوع يجعل الناس لا تعرف أحدا).
وجدير بالذكر أن رياض المولى روائي عراقي، من جيل الشباب، وتعد رواية (منعطف الرشيد) منجزه الأول وله مخطوط رواية منجزة بعنوان (الدكتور عوني) سيدفعها قريبا للطبع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب